الأحزاب والحركات الدينية:

إفراز للأوضاع المرضية ولانعدام مؤسسات المجتمع المدني؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

ناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني

tayseer54@hotmail.com

 

 

1

تنامى دور الخطاب السياسي ذي المرجعية الدينية في العقود الأخيرة، الأمر الذي يتطلب وقفات جدية مسؤولة لدراسته وقراءة  جانبيه من جهتي الأسباب والنتائج. ومن الواضح تماما أنّ تدني الأوضاع العامة وتراجع مأساوي في تلبية المطالب والحاجات قد جرى لأسباب تتعلق  بالأزمات الاقتصادية العالمية وضغط العولمة مشوّهة  المنافذ في ولوج بلداننا بتأثيراتها حيث استغلال القوى الاقتصادية الكبرى لضعفنا لترحيل أزماتها وامتصاص ما يمكن من ثروات وغيرها لصالح معالجة أزماتها العامة...

أما الأسباب الأسبق في مشكلات تدهور أوضاع الشعوب فيعود إلى طبيعة النظم السياسية المتحكمة بإدارة استراتيجيات تلك البلدان إذا كان من استراتيجيات في ظل البرامج المجيرة لعمليات النهب المافيوية الخطيرة التي تجري لصالح بعض طغاة والحاشية من أتباع من محركي الاقتصاد الطفيلي الهش...

وفي هذه الأجواء حيث الحرمان والاحباط وعميق اليأس مضافا إليه مستويات خطيرة من الجهل والتخلف وانقطاع عن العالم الخارجي حيث يقبع جلّ بنات الشعوب وأبنائه خلف أسوار الوطن \ السجن؛ تعلو مأسسة الدولة البوليسية القمعية التي لا فضاء لحركة المجتمع المدني ولا لمؤسساته ولا مجال لحركة التنوير والتحديث إلا منافذ ضيقة من أضواء عولمة العصر مما يصل متقطعا  قاصرا عن الفعل البنيوي المؤثر..

إنّ محدد الاحباط واليأس من الحصول على مطلب إنساني من الحقوق والحريات مضافا إليه عامل الجهل بمعارف العصر وآليات العمل المدني المؤسساتي يدفع (المواطن) إلى عالم الحلم خارج واقعه بعيدا عن حياته اليومية وتفاصيلها ويحوله إلى مجرد مُنتظِر لمغادرة حياة البؤس إلى (العالم الآخر) عالم الموت حيث الغيب الذي لا يخضع لعلم إنسان..

هنا في هذه اللحظة لا يتبقى سوى الخطاب الوحيد الذي يمتلك ذاك المواطن أنفاسه فيه كيما يتحدث مناجيا ربه العادل لينصفه ويستجب لمطالبه وليخلصه من مظالمه التي تعلو على إمكاناته المتواضعة الضعيفة في مواجهة الطغاة مستلبي حقوقه ووجوده..

وفي هذه اللحظة بالذات التي يفترض ألا يكون بين هذا المواطن الإنسان ومعتقده الديني [وربّه] أية وساطة وأية مؤثرات، ويفترض أن يستخدم النص الديني المقدس بعيدا عن تشويهات عالمه المشوَّه؛ في هذه اللحظة يقع فريسة مرة أخرى لدجل الأدعياء ممن يسمون أنفسهم رجال دين وهؤلاء أصواتهم أعلى من أصوات الأتقياء من رجال الدين الصادقين إيمانا، المتمسكين بخطاب الزهد واحترام الإنسان بأمر ديني مقدس..

والأخطر والأنكى هنا هو بروز من  يسطو  على الحياة العامة والسلطة السياسية الدنيوية بحركات منظمة مافيويا أي بالبلطجة وبأنشطة العصابات وبرامجها وآلياتها حيث صوت القوة وسياطها تلهب أجساد وأرواح الناس البسطاء المغلوبين على أمرهم...وهؤلاء من بضع متطفلين على الحياة العامة لا يملكون من المعارف والخبرات شيئا سوى ما يمكنهم من إخضاع أوسع جمهور لتوجيههم ولمآربهم الدنيوية الرخيصة.. والذريعة دائما هنا أوامر [ونواهي] دينية مقدسة، بتعريف لأنفسهم على أنهم ممثلي (الله) على الأرض..

ويقع مجددا هذا المواطن المستلَب المصادَر أسير عبودية القمع والإرهاب وهذه المرة بذرائع الخطاب الديني المسيّس أو بسلطة الخطاب السياسي الديني.. وبالتأكيد هذا الخطاب سيقوم على إفرازات متوالدة، الجديد في الظاهرة هو ما أصبح يعرف بالطائفية السياسية..

2

إنّ توجه المجتمعات في الدولة الوطنية إلى القبول بمرور التعاطي مع أحزاب الطائفية السياسية فكرا وعملا سيجر هذه الدول إلى التفتت والانهيار وسيأخذها في رحلة تاريخية ربما لحقب زمنية بعيدة تخضع فيها لحرائق مدمرة ولصراعات ليس وقودها غير حيوات الأبرياء ومصالحهم وحقوقهم المستلبة..

وببساطة، ربما سيجري رد [بعضهم] على هذه الكلمات وهذه القراءة بالتكفير وبمعاداة الله والدين فيما هذا الرد وخطابه هو ذاته خطاب الطغاة دوما.  فمن لا يخضع لابتزازهم وسطوتهم يكون خائنا للوطن لأنه خائن للطاغية.. والوطن هو الطاغية نفسه وعند التيارات الاستغلالية الطفيلية الخطاب التكفيري التخويني الاتهامي هو ذاته لمن لا يخضع، الذي يبقى مطالبا بالحقوق والحريات.. ولا جديد فيه سوى أسماء لذات المسميات خيانة وكفر أي تجريم لمعاقبة من يطالب بحق إنساني وإبعاد تأثيراته المنطقية الموضوعية على الناس...

 إنّ الزمن اليوم، هو زمن الدولة المدنية التي تستخدم العقل ومنطقه والمعارف والعلوم لتقديم الخدمات للناس.. فاستثمار حكيم للثروات يعني تلبية المطالب باتزان ورشاد وإنصاف.. وهذا يتطلب إدارة همها الأول وضع البرامج بشفافية كيما يكون المواطن معدا ومستعدا معرفيا لمناقشتها وتبنيها وتعديلها وتغييرها حيثما تطلبت مصالحه وعمليات البناء المؤسسي لخدمته..

أما الأحزاب التي تتخذ المظهر الديني ومن ثمّ تلتزم جوهر (الطائفية السياسية) فلا صواب في التعاطي معها.. إذ الخطاب الديني تحتضنه جمعيات مدنية تنشأ بحرية تامة وتمتلك حقوق العمل والشاط الحر في مجتمع مدني بحت لا يقبل الخضوع لممثلي الطائفية السياسية ولا يقبل بالمرة تحويل الدين والاعتقاد به إلى خطاب سياسي استغلالي يخلق التشظي والانشطار في المجتمع ويؤسس للصراعات وللاحتراب  والتقاتل.. بخلاف الجمعيات الدينية التي تلتزم بالنظام المدني للدولة ولمؤسساتها فهي جمعيات تعبر عن التعددية وعن التنوع وعن التمسك بأصول الخطاب الديني كونه رسالة روحية يمكنها أن تمارس طقوسها وأن تنشر خطابها الديني الاعتقادي مدنيا مؤسساتيا بعيدا عن الصراعات التصفوية [ربما الدموية] التي تؤلّب الناس بعضهم ضد بعض.. أي أن الصيغة المدنية للتنظيم تزيل فرص الصراع ضيق الأفق..

إن استبدال نظم الطغيان والدكتاتورية في الدول الوطنية إذا ما جاء بنظام مدني وبعقد اجتماعي مدني يحترم الإنسان وحقوقه ويعمل على تنظيمه في مؤسسات مجتمع مدني صحية صحيحة، سيكون الحل الأمثل من دون أحزاب الطائفية السياسية التي تسمي نفسها ممثلة (لله) على الأرض ومعبرة عن الدين وخطابه...

وللدولة المدنية أن تسنّ قوانينها ومنها قانون المؤسسات المدنية من جمعيات واتحادات ونقابات ومنظمات وبالتأكيد من أحزاب حيث الأحزاب السياسية ملزمة بالخضوع للجوهر المدني للدولة ما يعني عدم تسجيل الأحزاب العنصرية والشمولية وما بمثل هذا الوصف ويتضمن توصيف الشمولية تلك التي تدعي كلية خطابها وشموليته بل وقدسيته المنزهة في ضوء ادعائها بتمثيل الخطاب الديني (الإلهي) بين الناس...

 

إن عمليات التجهيل ونزع أي شكل للثقافة وللتنوير العقلي كانت مهمتها دائما  إخضاع الناس لرعب الخطاب السياسي (الديني) التكفيري.. والتكفيرية ليست إسلامية ولا مسيحية بل تتبع كلها الفكر السياسي لأي دين يُزعَم تمثيله.. وهي هنا في بلدان المنطقة ليست سنيّة ولا شيعية فمفاتيح جنان اليوم هي بيد المتسلط الذي يرمي الفتات لأتباعه برشاوى من مستوى غطاء نوم (بطانية) ومدفأة وما شابه ومفاتيح جنان الآخرة هي الأخرى بأيدي هؤلاء الطغاة من قادة مافيات أحزاب الطائفية السياسية والأداة هي أنّ المواطن المخدوع بهذا الخطاب مأسور بتهديد تكفيره إذا لم يؤمن بأهداف قادة خطاب الطائفية سنيا أم شيعيا..

ألم يقولوا للمواطن أن مفاتيح الجنة موجودة لدى هذا المذهب وهذه الفرقة الدينية وتأويلاتها؟ فمن لا يخضع لأوامر مرجعيته ونواهيها - وهي أي المرجعية إياها، (طائفية سياسية) في جوهرها وحقيقتها- لن يدخل الجنة وسيعده الله كافرا به لأنه خرج على نوابه على الأرض..

تلك هي اللعبة وعليه، فإنه إذا كانت ظروف عدم وجود مجتمع مدني تدفع إلى لعبة أحزاب الطائفية السياسية أو ما تسمي نفسها الأحزاب والحركات الدينية، فإن ظروف الديموقراطية واحترام التعددية وانطلاق مجتمع مدني لتنظيم مؤسساته كافة لا يسمح بقبول أحزاب تتعارض وقيم الوجود المدني المؤسساتي للدولة ومكونات العمل في ظلالها.. لأن ذلك سيكون اختراقا لقوى الاستغلال وبقاياه لنضالات وطنية  من أجل الحقوق المدنية للشعب...

بمعنى هناك مستويان مطلوبان للدولة الوطنية (المعاصرة الجديدة) التي يريد فيها الشعب أن يبني مؤسسات دولته..

أولهما: ألا يجري سرقتها بشرعنة وجود أحزاب الدين السياسي (الطائفية) بالمحصلة...

وثانيهما: أن تخضع جميع الأحزاب [بلا استثناء] بكل تنوعاتها لمبدأ ((مدنية الدولة)) وعقدها الاجتماعي أو دستورها..

وهذا لا يلغي وجود جمعيات وتنظيمات دينية تمارس أنشطتها في ظلال الدولة المدنية واحترام دستورها المدني ونظامها المدني.. أي التي لا تتعارض بل لا تعرقل مسيرة مدنية المجتمع أي مسؤوليته عن ممارسة حقوقه في رسم آليات التقدم وتلبية مطالبه بعيدا عن فلسفة تقمعه أو تكفره سياسيا أم دينيا.. حيث المجتمع المدني يساوي بين الجميع وينصفهم ويمنحهم الحريات والحقوق مكتملة فيما أي فكر شمولي كما ذلك الذي يدعي الدين هو الحل، سيتجه بدءا إلى مصادرة عقل المواطن ومنعه من حق التفكير والمشاركة في رسم حياته وتوجيهها كما سيتجه إلى طائفية التقسيم ثم على أساس الفرق الأصغر إلى الشرذمة وعلى أساس التعاليم المخصوصة والفتاوى المنغلقة التي لا تكتفي بالتكفير ستفضي إلى جريمة الحجر والمصادرة والاستلاب والقمع والاغتيال والتصفية ومنها التصفية الدموية البشعة وربما تجاريب بعض دول المنطقة جلية..

إنَّ معالجة الأمور بهدوء تعني أن نقبل معا وسويا بتعدديتنا وبمبدأ وجودنا المدني وبرفض آليات التمزيق والتقسيم وفرض منطق الاحتراب لتبرير الحلول القائمة على التشظي والتقسيم والتفتيت الذي سيجعلنا في زمن العولمة والوحدات الاقتصادية السياسية الكبرى مجرد لا أقزام بل أرقام بلا قيمة ولا من يحسب لها أي حساب...

يمكن لمن يريد تشكيل جمعية دينية أن يمارس عمله بحرية ولكن لا يمكن أن يكوّن حزبا سياسيا مثلما جميع الأحزاب العنصرية الشمولية التي أفضت إلى الفاشية والقمع والحروب ومهالك الجرائم البشرية.. وفي المجتمع المدني ستبقى الحقوق مكفولة بما يضمن الحريات العامة ووجود الدولة الوطنية ومصالح شعبها أولا وفوق كل اعتبار..