رسائل مفتوحة وتفاعلات مع ما يجري تحت نصب التحرير: 

2. أخطاء النظام السياسي في العراق جوهرية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

ناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني

tayseer54@hotmail.com

 

يتحدث عدد من الكتّاب عن واجب الوقوف عند الخط  العراقي الأحمر، متمثلا في (حصيلة الانتخابات) فيحظرون كل مطالبة لا تقف عند حدود انتظار تفاعل (الحكومة المنتخبة) وترقيعات أحزاب الطائفية التي تتصدر المشهد وتتحكم به... وهم ينذرون المحرومين من أبناء الشعب من أنهم أمام خيارين: فأما الوقوف خلف أحزاب الطائفية االحاكمة أو هم مع البعث والقوى المعادية للعراق!

ويمرر مثل هذا البعض من الكتّاب، آراءهم بشواهد وأمثلة تخلط الأمور لتضيع فيها الشليلة (القضية ومعاناة الناس)  لا رأس الشليلة وحده (أي الحل ومبدأه)..  فمن جهة يلعب بعضهم لعبة التخويف من عودة البعث ومن سطوة السنّة ومن يقف خلفهم من العربان، ليكشف في معالجته عن أمرين:

الأول يكشف فيه عن الروح الطائفي الذي يقسّم فيه العراقيين بين طائفتين واضعا إياهما في تعارض واحتراب وتناحر على حد تصويره حال العلاقة بين أتباع مذهبين لدين واحد ولوجود وطني واحد ولأصل اجتماعي تختلط فيه الأنساب والعوائل بخلاف ذاك التصوير المختلق... والأمر الثاني يكشف فيه عن عدائية تجاه شعوب المنطقة ودولها ويضع العراقيين والعراق بمجابهة مع دول الجوار العربية تحديدا وبعلاقات صراع وتناقض معها بدل علاقات الإخاء والتعاون التي تحظى باهتمام الشعوب وتطلعها إلى التعايش السلمي على أقل تقدير..

إنّ مثل هؤلاء الكتّاب وسادتهم ساسة الطائفية يضعون أنفسهم بديلا للشعب ومن يتقاطع مع طائفيتهم المريضة يزعمون تقاطعه مع جموع الأغلبية ويضعونه في خانة أعداء الشيعة مثلما يضع الطائفيون المدّعون تمثيل السنة من يخالفهم في خانة العداء للسنة! وفي حقيقة أمر الطائفيين وأمراضهم أنهم لا يمثلون أتباع المذاهب الشيعية والسنية  وهم لا يمكن أن يكونوا بديلا لجمهور العراقيين من أتباع المذهبين.. إذ لا يوجد منطق يقلب الأمور ليكون الأصل ممثلا بأحزاب الطائفية وقادتها والتابع هم أبناء المذهب الديني وجمهوره.. كما أن أتباع المذهب الديني بالأصل لم يفوضوا أحزاب الطائفية للحديث باسمهم فهم سياسيا  يعيشون في عصر المدنية ومجتمعها ومؤسساتها لا في عصر دويلات الطوائف المنقرض من قرون؛ ومن ثمَّ فالمواطنون لا ينتمون جميعا لحزب واحد أو زعامة أو مرجعية بل ينتمون إلى أحزاب وجمعيات ونقابات واتحادات مدنية ترفض الفكر الطائفي في جوهره ومن جذوره.. وقد ولّى زمن الحزب الواحد والطاغية الذي يختزل الشعب في وجوده وسطوته ونزعاته.. فزمن السلطة الديموقراطية هو زمن التعددية والتداولية.. ولا يجوز تمرير ألاعيب مصادرة روح التنوع في مجتمع عراقي يتسم بمشهد غني بتنوعه  وتعدديته قوميا دينيا مذهبيا اجتماعيا وسياسيا...

 

بعامة الأصل عندنا في الوضع العراقي وما آلت إليه الأحوال يكمن في تساؤلات المواطن المبتلى التي تفضي إلى تشخيص جوهرية الخلل في السياسات والأداءات الجارية، فحكومة أحزاب الطائفية السياسية خصصت ميزانيات بمئات المليارات للخدمات ولإطلاق عجلة الاقتصاد والتشغيل وهي أي الحكومة ذاتها تقول: إن تلك الميزانيات لم ينفذ منها إلا نسب هامشية ولم تقل لنا تلك الحكومة أين ذهبت أموال ميزانية السنوات التي لم تنفذ فيها سوى ستة بالمائة [6%] فقط لا غير يعني قريبا من الصفر؟ كما لم تقل لنا أين ذهبت الأموال المخصصة للإعمار في السنوات الأخرى التي تزعم التنفيذ فيها بوقت لم يشهد أي مشروع بأي قطاع ظهورا وتنفيذا فعليا؟!!

إن نسبة الفساد الأولى وحتى الثانية عالميا لا يمكن أن تكون عائدة بسبب رشوة لموظف صغير ولا يمكن أن تكون بسبب خطأ لموظف متوسط ولا يمكنها أن تكون لمشكلة حسابية غير واضحة؛ فـمعادلة 1+1=2 وتخصيص مئات مليارات ولا تبليط ولا صرف صحي ولا ماء صالح للشرب ولا كهرباء ولا زراعة ولا رِيّ ولا مدارس ولا جامعات ولا تعليم ولا مستشفيات ولا صحة ولا معامل ولا مصانع ولا صناعة ولا عمل مع ملايين العاطلين وتخريب للأرض والبساتين ولاضمحلال النخيل من بلده الأول في العالم.. ومآسي تبدأ سجلاتها ولا تنتهي وتريدون الشعب أن ينتظر نفس الشخصيات التي تسببت بكل هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات؟ لماذا ينتظرهم؟ وإلى متى؟  وهل يَعِدُ أحد المحللين المدافعين عن أحزاب الطائفية وحكومتها بأن كبار فاسديها قد شبعوا من السرقات ومن نهب الثروات الوطنية؟ وهل سيتكفلون بأن يبدأ مشوار الالتفات إلى الناس المغلوبين؟ أم يعدون بأنهم فهموا الدرس كما فهمه بن علي وسيشرعون بتغيير في المنهج بجوهره؟

ولكن كيف يمكن للشعب أن يصدق وعدا وقد أثببت اليام التصاقا مرعبا بالكرسي أودى بحوالي السنة حتى يومنا في أمر تشكيل الحكومة والتنازع على كراسيها وكراسي المديرين العامين ونوابهم وحتى على التوظيف في أدنى المستويات الوظيفية..؟!! كيف يصدق الشعب والفساد يتنامى والانهيار وتدهور الأحوال يستمر انحدارا؟!

وهل في ظل الروح الحزبي المريض الذي يرسل بنواب و وزراء بلا شهادات وإدارات بلا تخصص وموظفين بلا كفاءة، يمكن أن تمضي عجلة الاقتصاد والحياة العامة؟ وهل في ظل هذه التعيينات التي لا تنظر لتخصص ولا كفاءة ولا منطق لتحديث ولا لعصرنة يمكن أن يدار بلد مهم كالعراق.. ؟؟  يعني هل دخل (المعينون بالمحاصصة والتزكيات الحزبية) مدارس محو الأمية فتعلموا شيئا لإدارة البلاد والعباد بطريقة تلاحق آليات اقتصاد سوق العولمة..؟!  هل من الجائز تعيين شخص وزيرا على علماء البلاد وخبرائه وأساتذته من قمة العقل العراقي وهو لم يتسلم من قبل حتى رئاسة قسم في معهد؟

إن جوهرية الخلل في الأداء تتطلب تغييرا لا ترقيعا، وإزالة الفساد يتطلب استئصالا لا طبطبة وترضيات.. فالترضيات أدت إلى تضخم الوزارة حتى كدنا نصل الخمسين وزارة وسنصل بالنواب للرئاسات إلى أعداد لها أول وليس لها آخر! أما التغيير فيجب أن يعالج:

أولا الدستور الذي ينتظر التعديل منذ إقراره والوعد بتعديلاته في ظرف ستة أشهر من تاريخ إقراره.. فهو يحوي العديد من المتناقضات التي تضع البلاد على حافة هاوية التعطيل والانقسامات.. كما يمتلئ بنصوص تمثل ألغام الخطاب السياسي على حساب النصوص القانونية الدستورية التي كان ينبغي أن يصاغ بها ولأجلها.. فضلا عن عدم تنفيذ عشرات المواد التي وردت فيه ودعت لاستكمال الهيآت الدستورية في البلاد وتصحيح مجريات الوضع على الأرض كما حصل للمادة 140 التي ماطل بها من ماطل.. فيما هذه العشرات من المطالب القانونية الدستورية تعبر عن خلل جوهري في تلبية مطالب الشعب ومكوناته كافة...

ثانيا جرت الانتخابات شكلية على طريقة تفصيل قانونها بما لاءم القوى الموروثة عن مجلس الحكم والتي استغلت ظرف التغيير الخارجي في البلاد لتتحكم بالدولة ومؤسساتها؛ فضلا عن خطل إجراء تلك الانتخابات من دون قانون أحزاب ومن دون قوانين مؤسساتية مدنية ومن دون استكمال أهم أجنحة البرلمان العراقي نصفه الثاني ممثلا بمجلس الاتحاد المعبر عن مكونات الشعب.. وطبعا مع إغفال مطلق لمؤسسات خطيرة في المشهد العام كمؤسسة القضاء وقوانينها؛ وجملة هذه الأمور أخطر من التزوير نفسه الذي لم يَفُتْ تلك القوى فمارسته بوجهه القبيح باستغلال كل أشكال توجيه الناخب العراقي قسرا باتجاه مغاير لتطلعاته، في إرهابه بميليشيات ومافيات وعصابات وفي إرهابه من جهة أخرى بوساطة التكفير وفتاوى حظر الجنة عليه إذا صوت لغير الطائفي فضلا عن أشكال الإرهاب النفسي الاجتماعي وغيره بطريقة اختلاق بعبع البعث وفعاليات الاجتثاث الموائمة لاستراتيجية القمع الفكري السياسي..

ثالثا  طريقة الترهيب والترغيب في أرزاق الناس وتشغيلهم أو تركهم على أرصفة البطالة وصرف المرتبات المتعددة تمريرا لجريمة سرقة المال العام وإسكات الأصوات بإطعامها الفتات وتشغيلها الوهمي مقابل حرمان شبيبتنا وخريجي الجامعات والمعاهد من العمل..

رابعا إشاعة الفساد الاجتماعي والعلاقات المرضية واستغلال واستباحة المجتمع بخاصة المرأة العراقية من مئات آلاف الأرامل والأيتام ما وصل لحد الاستغلال الجنسي وتجارة الرقيق الأبيض داخليا وخارجيا [الأمر المسكوت عنه].. ومن ثم ابتزاز المجتمع بطريقة مافيوية رخيصة ولكنها كارثية خطيرة، أمام مظاهر التقوى والتمسك الديني الكاذب لمجموعة من المفسدين في الحياة العامة..

إذن فنحن أمام تركيبة خطيرة لفشل سياسي اجتماعي اقتصادي.. فهل هذا أمر يقبل أن نصمت عنه ونمرره لعيون مسؤول إن لم نقل ارتكب الجرائم هذه كلها فلا يمكن أن نتجنب القول بأنه فشل في إدارة الدولة ومنعها من الانعراج باتجاه الفساد والسقوط المريع الذي بات يهدد بما هو أسوأ من الكوارث التي يحياها العراقيون بمآسيهم اليوم!

إنّ الخشية من التغيير هي حال قلق ذرائعي غير مبرر، لأن من يتجه إلى الإصلاح عليه أن يعرف أفضل وسائل الإصلاح وأقلها كلفة بكل المعايير.. ونحن دولة الفساد الأولى والدولة الأخطر على حريات التعبير كما سجل الأمر في مجال ما يتعرض له الصحفي والإعلامي لكنني هنا ألفت النظر إلى ما يتعرض له كل عالم وأكاديمي ومتخصص بل كل متعلم وكل متنور يعي ظرفه وآلية التغيير.. إنه قمع الآلة الجهنمية لزمن الظلامية الوحشية في القرون الوسطى وعصر دويلات الطوائف التي أكلت ملايين البشر بلا رحمة!

لا خشية من إعلان شعار التغيير لأنه حق دستوري تعاقدي للشعب، وهو لا يستهدف انتقاما من أحد ولكنه يستهدف تقويم الأمور ومعالجة ثغراتها واستبدالها بما يلبي حاجات الناس وغقامة نظام مدني ديموقراطي كما أراده الشعب وكما اختاره يوم اختار العملية السياسية ورفض العنف.. والتغيير هذا ياتي اليوم سلميا بتظاهرات واحتجاجات تدعو لتسكيل لجان دستورية احترافية لتعديلات الدستور ولتنفيذ المعطل من المطالب الدستورية وسنّ القوانين المعطلة لاستكمال المؤسسات والدخول في انتخابات برلمانية مدنية بقانون أحزاب يحترم منطق العصر والدولة المدنية ويعبر عن فئات الشعب لا عن افتعالات ماضوية من زمن دويلات الطوائف المعروفة  بتاريخها الماساوي الأسود..

إصلاح النظام هنا هو تغيير جوهري يتمسك بالتدرج وفرض إرادة الشعب لتحقيق تطلعاته في دولة تستجيب لكل حاجاته ومطالبه..