رسالة البرلمان الثقافي العراقي في المهجر 2

مظاهرات الغضب العراقي بين الدوافع الوطنية والأهداف الإنسانية النبيلة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

خرجت مظاهرات الشعب العراقي الغاضبة بالأمس ليس من فراغ ولا من أخطاء هامشية عابرة لمسؤول أو آخر؛ ولكنها كانت التعبير الأهم عن تفجر الغضب الشعبي على  سياسة ثابتة للحكومة وعلى منهجها في التعامل مع التكليفات الواجب أن تنهض بها.. وبين الفشل الذريع للحكومة في أداء مهامها وبين السبب الفاضح لهذا الاخفاق في تلبية المطالب من حقوق وحريات كانت تضحيات الشعب طوال سنوات ثمان عجاف باهضة سواء من أرواح المواطنين أم من ثروات الوطن وخيرات الشعب المادية وغيرها.. وهي بهذا لن تعود إلى مصاطب التهميش والاستغلال صامتة منتظرة عطايا من فتات لا يسمن ولا يغني من جوع، بل ستبقى متصلة مستمرة حتى تحقق مطلبها الرئيس في معالجة جوهرية بتطهير العملية السياسية جذريا من آفات الفساد ورؤوسها.. وهي من أجل ذلك ستتبع تكتيكات مختلفة نوعيا عن تلك التي جرت في بلدان المنطقة لإدراكها ما ينتظر الشعب وقواه الحية من طبيعة صراع بحاجة لصبر ولمعرفة بما تمتلكه من إمكانات مادية على الأرض لإدامة معركة الشعب المنتفض لتغيير جوهري مؤمل من هذه الفعالية الشعبية الكبرى...

إنّ ما يدعونا إلى هذا التوصيف لانتفاضة الشعب العراقي يكمن في قراءة موضوعية عميقة ترى أن انطلاق المظاهرات الغاضبة قد جاء لمجموعة دوافع ومطالب للشعب ربما تلخصت بالآتي:

1.   نقص الخدمات الإنسانية الأساس المفتقدة طوال ثماني سنوات. من الماء الصالح للشرب ومشروعات الصرف الصحي والسكن الملائم ومن الخدمات الصحية الطبية حيث التراجع الخطير في حجم المستشفيات والمستوصفات والاخفاق في توفير الدواء والمتخصصين والأجهزة والمختبرات وغرف الرعاية الفائقة وسيارات الإسعاف وإهمال مريع للبيئة وكذلك الغذاء بخاصة مواد البطاقة التموينية التي باتت بطاقة الإذلال الدوري  المتصل للمواطن..

2.   نقص الاهتمام الجدي بالحاجات الروحية الثقافية التي باتت بدل ذلك تتعرض لمطاردة مأساوية من أعمال اغتيال وتصفية للمبدعين والأكاديميين المتخصصين ومنع سافر لأنشطة الجمعيات والاتحادات والروابط الثقافية .. هذا إلى جانب إهمال وانهيار في قطاع التعليم الأساس والجامعي حتى باتت مدارسنا مجددا طينية المباني أو من جريد النخيل كما كانت مطلع القرن الماضي فضلا عن مناهج باتت سخرية من العقل العراقي ومن وجوده في عصر التكنولوجيا والحداثة.. مع إفراغ الجامعات والمؤسسات الأكاديمية من العلماء ومن وسائل البحث العلمي الجدي الرصين..

3.   وفي الماكنة المحركة للإنتاج والدورة الاقتصادية في أي مجتمع إنساني معاصر نجد أن بلد الزراعة والرافدين بات بلا رافديه ولا مسطحاته المائية وبلا غابات نخيله بعد أن كان بلد النخيل الأول وبارت الأرض فهجرها الفلاح مضطرا.. فيما تعطلت المعامل والمصانع و بتنا بلا أي فعل ملموس يتجه بنا إلى إدارة آلة الإنتاج وأُرسلت قوى الشغيلة إلى البيوت وإلى أرصفة البطالة والتعطل..

4.   ولم تنهض سلطة أحزاب الطائفية بمهامها في قراءة إحصائية دقيقة للمشكلات ومنافذ الحل، وشاغلت مواطنيها بأمور طقسية تضليلية في وقت تنصلت عن مسؤوليتها بشأن جملة الأوضاع الجارية وتمسكت في تبرير كل ما يجري من توقف تام ومن شلل في الحياة العامة على الماضي الأسود وجرائم تخريبه مع التغطية والتغافل عن واجب إطلاق عملية إعادة الإعمار وإدارة عجلة الاقتصاد والبناء وإزالة الدمار كونه مسؤولية مباشرة لها..

5.   وطوال السنوات الثماني المدلهمة عاش الشعب حياة البؤس والفقر وجرائم إبادة أطيافه القومية والدينية ممن أطلقوا عليهم تهميشا وإنكارا (الأقليات) وهم بناة حضارة البلاد وسكانها الأصليون، وقد تمت بحق  هذه المجموعات القومية والدينية الأصيلة جرائم الإبادة الجماعية بالتصفيات الجسدية الجماعية والفردية وبالتهجيرين الداخلي والخارجي الأمر الذي يتطلب ايضا موقفا أمميا فاعلا بالخصوص..

6.   وتحمَّل مجتمعنا أشد ويلات التهميش والاستغفال عندما جرى إرسال شبيبتنا التي تشكل نسبة ثلثي المجتمع نحو خيارات الخسارة والهزيمة بين الهجرة إلى المجهول وبين البطالة وأرصفة التعطل والضياع أو فسحة الخضوع والخنوع لميليشيا الأحزاب وأنشطتها في تخريب الحياة العامة وتشويه بنيتها المدنية  وعلاقاتها الإنسانية السليمة.. كما تم تعطيل نصف المجتمع العراقي من النساء بزجهن خلف أسوار التخلف والظلامية والجهل، وإعادتهن إلى  تقاليد المجتمع الاقطاعي وأحكامه الجائرة التي امتهنت كرامتهن وحقوقهن الآدمية.. وبتن يتعرضن لتجارة الرقيق الأبيض وابتزاز مافيات وعصابات منظمة تتسيد المشهد بصلات إقليمية ودولية..

7.   ولقد جرى تمرير دستور مشوه بصياغات الخطاب السياسي لأحزاب الطائفية التي تربت على مناهج غير وطنية وبرامج لا تعترف للشعب بتركيبته وبنيته المعاصرة وأعادت رسما قسريا لتقسيمه، معطِّلة بذلك كل الوعود والعهود التي كان ينبغي التحول إليها سواء ما يتعلق بتطبيق مواد دستورية تستكمل المؤسسات الدستورية وسن القوانين الخاصة بها أم بما يتعلق بتنفيذ عديد من المواد الدستورية التي جاءت على حساب مجموعات قومية ودينية تمثل ركن العراق الفديرالي الجديد.. ولقد تعطل تعديل الدستور الذي كان ينبغي أن يكون في الأشهر الستة الأولى بعد تمريره وإقراره وتعطل تنفيذ المادة 140 بما تشمله من مفردات ومطالب لعموم العراقيين.. وتم العبث بتفسير المواد بالاستناد إلى فقرات كان ينبغي تعديلها في بواكير انطلاق العملية السياسية..

8.   وبقي النفط العراقي بلا قانون ضابط وإجرائيا بلا شفافية في أحجام التصدير ومثله مثل الميزانيات التي تتسرب بلا رقيب ولا حسيب ولا من يقاضي ويجيب عن سؤال: أين ذهبت المليارات التي لا يتحمل بالتأكيد المواطن العراقي المغلوب على أمره  مسؤولية نهبها و\أو إهدارها وأمر جريمة الفساد المالي هذا مفضوح عائديته إلى رؤوس المسؤولية.. وضمنا نذكّر بأن إدارة وزارة النفط عطلت تشريع القانون وعطلت أداء الإقليم لتشريع قانون والاستثمار النفطي سواء لمصلحة شعب كوردستان أم لمصلحة عموم الشعب العراقي.. وفعلت وزارة المالية ذات النهج والميزانيات والموازنات الماضية ما زالت تنتظر المراجعة والسؤال أين ذهبت الأموال وكيف جرى التخطيط والإعداد والتنفيذ فعليا..؟!

ومن هذا المشهد العام بتفاصيله، لا يمكن لعاقل أن يقول: إن المظاهرات خرجت تستجدي توفير مفردات البطاقة التموينية (الغذائية) بكل ما فيها من إهانة لآدمية المواطن العراقي واستباحة لإنسانيته ولا حتى مجرد العبور لمطالب الماء والكهرباء أو خدمات الصرف الصحي والطرقات والاتصالات الحديثة.. إن هذه الأمور هي من المهام والواجبات العادية والأولية لأية حكومة  يجب أن تلبيها بخاصة لحكومة تحتكم على موارد مالية وفوائض وميزانيات مهولة...

القضية تتعلق بجريمة إبادة ممنهجة طاولت الشعب العراقي في سمته الجوهرية في التنوع والتعددية أي في جريمة الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب العراقي بأطيافه من مسيحيين وأيزيديين ومندائيين ومن أرمن وكلدان وآشوريين وتركمان وصابئة وعديد من الأطياف القومية والدينية وصل الأمر إلى حد التعرض للمجتمع العراقي بطيفه العربي عبر تقسيمه بين سنة وشيعة وإيقاع التصفيات البشعة بأتباع المذهبين وإلقاء التهمة على الصراع الطائفي الذي أوجدته أحزاب الطائفية سواء منها التي ادعت تمثيل السنة أم الشيعة..

والقضية تتعلق بجريمة محاربة الدستور بمفردات مشوهة دسوها فيه بخطاب سياسي مريض ومحاربة أعلى المؤسسات الدستورية وتفريغها من محتواها ومسؤولياتها بالسطو عليها عبر تعيينات مقصودة فلا البرلمان تم استكماله حيث نصفه (المجلس الاتحادي) بلا قانون وبلا وجود حتى يومنا ولأكثر من دورتين، ولا القضاء بحريته الحقة، ولا الحكومة بحكومة العقل العراقي المتخصص الكفء بل حكومة المحاصصات التي دخل فيها حتى المجرم القاتل والمجرم المفسد ومن لا يحمل شهادة أو من وُضِع في تخصص لما يحمل من شهادة والأمثلة معروفة ومفضوح كيف جرى ويجري تمريرهم بعيدا عن وجه العدالة بتوافقات ليست خافية على  الشعب..

 

إن القضية الجوهرية اليوم؛ ما عادت باستقالة محافظ هنا أو هناك ولا مسؤول محلي أو رتبة عسكرية  ولا حتى تغيير وزير أو آخر في وزارة التضخم العددي الأكبر عالميا.. والجماهير الغاضبة  لم تخرج لتعود إلى بيوتها الخاوية بوعود من رأس حكومة الطائفية .. لقد خرجت الجماهير لتقول كفى ولتنفذ قرارها في وقف الاستغلال الذي لم تتوانَ الحكومة عن ممارسة كل أنواع الغش والتضليل لإدامة استغلالها ليس آخرها العودة بصناديق الاقتراع المزورة باعتراف الحكومة وقواها وبوساطة التضليل بادعاء مسميات دولة القانون والوطنية تغطية على المشروع الطائفي الذي خرب البلاد وسبى العباد..

 

إن المطلب اليوم، يتمثل في الآتي:

1.   واجب التلبية العاجلة لكل المطالب الخدمية المعلنة في قائمة المظاهرات.. وهذه ليست عملية استجداء ولا يقبل من أعلى مسؤول مكلف بالعمل حاليا أن يتعاطى بهذه الطريقة المهينة مع المطالب الشعبية فهي توكيد لحق العراقي في حاجاته الإنسانية المادية والروحية كما بقية الشعوب والبشر إن لم نقل بمستوى ما يمتلك من ثروات وخيرات..

2.   التوجه لفتح مفاوضة مباشرة مع قوى المظاهرات السلمية وممثليها من الشبيبة ومن القوى الوطنية الديموقراطية مع جميع القوى التي تؤمن بالعراق المدني الديموقراطي في طاولة مستديرة مفتوحة لاتخاذ القرارات الحاسمة بتطهير العملية السياسية واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالخطوات التالية للتغيير..

3.   سيتبع في خلال سقف زمني معقول، تشكيل حكومة تكنوقراط لا تخضع لأحزاب الطائفية؛ تعد مشروعات تعديل الدستور وإصدار القوانين اللازمة لاستكمال المؤسسات الدستورية وبنيتها الصحيحة المعبرة عن المجتمع العراقي بتركيبته المدنية المعاصرة وليس على أساس شرذمته بأسس دويلات الطوائف المنقرضة من قرون.. وضمنا وقف كل أشكال إخضاع الدولة لسياقات نظام الولي الفقيه وتحديد أدوار كل جهة  بنظام قانوني دستوري لدولة مدنية معاصرة..

4.   استكمال عاجل لكل الميزانيات السابقة وإقرارها مع محاسبة في ضوء الحقائق المكتشفة.. مع وضع موازنة جديدة تسمو فيها نسب ما للتعليم بمراحله وللثقافة والتنمية البشرية بما يتلاءم والعصر وحاجات العراق الجديد.. مع توفير مفردات تلبية الخدمات والحاجات الأساس للمواطن..

5.   إطلاق الحريات السياسية والثقافية وكل الأنشطة الاجتماعية الإنسانية مدنيةي الطابع ومنع الميليشيات وعناصر أمنية من التدخلات السافرة الجارية وحماية الأنشطة العامة والخاصة وحظر الأحزاب التي لا تقوم على أساس احترام العراق بوصفه دولة مدنية تنتمي لعصرنا وليست اقطاعية تحكمها دكتاتورية باي ذريعة ادعتها ومنها فرض ممثلين لله على البلاد والعباد..

إنَّ وعي العراقيين بما يكفي اليوم لوقف اللعب عليه وعلى مصالحه وصبرهم ما عاد يتسع لمزيد من إهدار الكرامة  بانعدام الحقوق الإنسانية والحريات العامة والخاصة.. ومن هنا فإن الانتفاضة مستمرة وستفضي حلقات التظاهر الأسبوعي إلى احتجاجات يومية نوعية  مختلفة ما يعني أنها تتحول إلى ثورة من طراز لطالما أبدع فيه العراقيون بما يلائم ظروفهم المخصوصة..

ومن هنا فإن زمن التضليل والاتهامات بالعمالة وبالعناصر غير العراقية ما عادت تجدي سوى بمزيد من الاستهزاء والسخرية بحياة العراقي وحقوقه فيما أحزاب الطائفية التي تتحكم بالمشهد وبمؤسسات الدولة تستغل هذه المؤسسات بدعم مفضوح من عناصر (قمعية) لا تحتكم للعراق ولهويته ما أدى لسقوط شهداء الاحتجاجات بأيامها الأولى.. وفي وقت تدين القوى الشعبية هذه الجرائم وتطالب بإعلان الحقائق فإننا نتطلع لتضامن أممي مع الشعب العراقي ولوحدة بين قواه ولتشكيل لجان التنسيق والتفاوض عاجلا مع إعلان برنامج موحد للاحتجاجات السلمية من أجل تطهير العملية السياسية ببديل موضوعي عقلاني لا انتقام فيه ولا ثأر ولا عنف..

إنها فرصة العراقيين لمزيد من اللحمة والاتحاد وللقوى الديموقراطية المدنية كيما ترتقي لمسؤولياتها في الدفاع عن مصالح العراق والعراقيين في وجود مدني متحضر يعبر عن العراق الجديد ودوره في احتضان أبنائه وفي إعلاء مكانهم ومكانتهم بين الأمم والشعوب..