الصحافة الكوردستانية شمس تبقى إشعاعاتها مضيئة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

العضو الفخري في نقابة صحافيي كوردستان

tayseer54@hotmail.com

 

مذ 22 نيسان أبريل 1998 حيث صدور جريدة كوردستان باللغة الكوردية، أرسلت شمس الصحافة الكوردستانية إشعاعاتها المضيئة حيثما جالت بين مدنها المهجرية مع صاحب أول صحيفة  السيد مقداد مدحت بدرخان وما تلاها من صحافة يانعة مزهرة بعطائها..  وعلى الرغم من أن الظروف المعقدة التي مرّ بها الكورد في أرضهم التاريخية قد كانت من القسوة ما أوقع فيهم كثيرا من الكوارث المأساوية التي ساد في ظلالها ظلام الأمية والتخلف، إلا أنَّ الكورد كما بقية شعوب الأرض لم يكونوا أقل شغفا بالعلم ونوره ومن ثمَّ في لعب الدور الكبير المميز في العطاء المعرفي لشعوب المنطقة..

ولقد شهد مطلع القرن العشرين وحده ولادة عدد من ألمع أدبائه وشعرائه وكتّابه.. هم من أولئك الذين جرت في عروقهم الدماء الكوردية كما أمير الشعراء العرب أحمد شوقي وشاعر التحديث والتنوير العراقي جميل صدقي الزهاوي وغيرهم بالمئات وأكثر، أثروا المكتبة لشعوب العربية والفارسية والتركية.. ولعل لهذا  الأمر ما يستحق التوقف والدراسة  بشكل مستقل..

من هذه الأرضية المتينة في التعلق بالمعارف  ومن أرضية العلاقة الراسخة بالهوية القومية وواجبات التعبير عنها، إلى جانب ظهور حركة التحرر القومي الكوردي، كان انطلاق الصحافة الكوردية و ولادة عدد منها تجسيدا لهذا الدور الوظيفي المعاصر في المجتمع الكوردي.. ولربما يقول قائل: إن الصحافة الحزبية تبقى محددة بشروط حزبية ومنطلقات سياسية لكن الحقيقة الثابتة تؤكد أن الدور التنويري له مساحاته المختلفة عبر تداخل الخطابات البشرية المختلفة وعبر التفاعلات بين  السياسي والاجتماعي بخطاب ثقافي معرفي في الذاكرة الشعبية وثقافتها الحية، فضلا عن  مساحة الحرية والتنوع في إطار ممثلي حركة التحرر التاريخيين..

هنا بالتحديد، ينبغي أن يكون للدراسات الأكاديمية المتخصصة ولمؤسسات التوثيق وقفات جدية مسؤولة منتظرة لا في إنجاز مؤلَّف عابر مهما علت أهميته بل في إنجاز سلسلة من الدراسات التي ستسجل (حوارا) يرتقي إلى مستوى الدور التعبيري الرمزي الكبير في الجانبين القومي والإنساني للصحافة الكوردية وللصحفيين الكورد بكل أداءاتهم اللغوية الكوردية منها وتلك الناطقة باللغات الأخرى ومنها العربية..

إنني أشير هنا إلى الدور الإنسانيّ الجوهر في بناء أفضل جسور العلاقات المتفتحة مع المجموعات القومية والدينية المجاورة.. وفي تمثيل رسائل السلام وراياته عبر الصحفيين وحاملي مشاعل المعرفة الكورد ممن كتب بالعربية وغيرها.. مؤكدين بهذا سعة صدر الكوردي وتفتح منطقه العقلي  وتنويريته عبر تلك المساهمات، ولربما سيكون مهما للجامعات ومراكز البحوث تسجيل دراسات في خلفية هذا التفاعل سواء من جهات الإشارة إلى أسبابه ودواعيه وما يعكسه من قضايا أم إلى النتائج والدروس التي ينبغي استخلاصها..

كما ينبغي للجوار العربي بخاصة في العراق الفديرالي الجديد، أن يسلط الضوء على مسيرة الصحافة الكوردية من زوايا كثيرة وغنية. بدءا من أبسط الأسئلة عندما يتعلق بمسميات الصحف من مثل (نداء) كوردستان، (شمس) كوردستان، (حرية) و(شمس) و(فجر) وغيرها من الأسماء ذات الدلالة على الحراك القومي وعلى الدور التنويري لا المحدود بالخطاب السياسي بل الأبعد حيث الوعي الاجتماعي ووعي الهوية الأعمق الذي يجمع بين القومي والأممي في تلمس مسيرة وجودية ضاربة الجذور.. وطبعا ليس انتهاء بقراءة تبويب الموضوعات وطبيعة المعالجات ومناهج الإخراج الصحفي والتقنيات والآليات وغيرها من مفردات الخطاب الصحفي..

كما سيكون اليوم، لنقابة صحفيي كوردستان مكانها ومكانتها في التعبير عن وجه آخر من مسيرة الصحافة ودورها المستقل.. فهي جهة تمثل العقل المستنير في المجتمع وتمثل  نهرا آخر يعبر عن الحراك التحرري لا السياسي حسب بل والاجتماعي الثقافي بكل مفردات المجتمع المدني ومتغيرات مؤسساته ومسيرته الحديثة..

فالصحافة سلطة رابعة والصحافي يحمل قدسية أكسبها له الشعب بتفرد واستقلالية عن السياسي والإداري والقانوني التشريعي والقضائي. بمعنى أن يحتفظ بحصانته  واستقلاليته من جهة وبتصديه لمسؤوليته الأبرز والأهم على مستوى المسار العام لحركة التطور الأشمل..

وبهذا فنقابة الصحفيين ليست تنظيما عابرا لكنها مؤسسة تحمل أهمية خطيرة بحجم المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية.. وبحجم المؤسسات الأكاديمية البحثية طبعا من ممرات ومنافذ مخصوصة في المقارنة والمناظرة وفي الأدوار التي تنهض بها..

إنّ  تطورات نوعية كبيرة تجري اليوم بخاصة في إقليم كوردستان العراق الفديرالي حيث العناية باللغة وبوجودها الرسمي على مستوى الدولة وتعاملها بها وحبث ولوجها الجامعات والدراسات الأكاديمية والتحول بها من زمن العقدة اللغوية إلى زمن اللغة التي تقترب من الاستقرار المعجمي الأنضج ومعالجة التطورات والتغيرات ولعل دور الصحافة يسمو بهذه المهمة ويعمّدها ويجعلها أسهل وأوضح...

والصحافة ليست وجها لخطاب حزبي مغلق كما يحاول تصويرها بعض من يقرأ في تاريخها ووجودها، بل هي أداة مجتمعية ولسان حال أمة تجسد آمالها وتطلعاتها لا بخطاب سياسي بحت بل بخطاب إنساني عميق التنوع، غني التعبيرات والتأثيرات.. ومن هنا تأتي هذه الوقفة في تاريخ مشرق للصحافة الكوردية وهي تعلو باسم كوردستان...

إنني إذ أتوقف عند هذه الاحتفالية بتاريخ جاوز القرن، لا أجد سوى كلمات الفخر بمنجز هذا التاريخ في التعريف بالقضية القومية التحررية وبمسيرة التعايش بين الكورد والأمم المجاورة وبالتنوير الفكري الثقافي وبرموز شاخصة هي مفخرة للكورد ومفخرة للعراقيين وللعرب في مختلف بلدانهم...

ولتنطلق اليوم احتفالية أممية بالتجربة الكوردية الأعمق بنهجها وبأدوارها في التفاعلات الحية.. وحتى يومنا لا زالت نقابة صحافيي كوردستان تمنح كتّابا من غير الكورد العضوية الشرفية الفخرية التي تعكس التفتح المشرق لمنطق التفكير الأممي ولتلاحم الكورد ودفعهم الجهود نحو تحالفات تؤسس للتعايش السلمي واستمراره استراتيجيا.. وأبعد من ذلك فإنهم يدفعون بتجاريبهم للكتابة بلغات أخرى كما في تلك الإصدارات بالعربية وغيرها مما يعد سابقة لصالح الكورد في زمن باتت الشعوب والأمم تكتب باللغات الأخرى لتبعث برسائلها التعريفية للتآخي والتعايش وتبادل الرأي والتفاعل إيجابا...

وإنه لمما يعني شخصيا أن أشير إلى أنني وزملاء كثر من العرب نعتز بوجودنا في العضوية الفخرية لنقابة صحافيي كوردستان تضامنا وتوطيدا لمسيرة الإخاء ولتفاعل يعترف بدور الصحافة الكوردية السامي الكبير.. كما يهمني أن اشير إلى جهدنا الأكاديمي ليس في البحث والكتابة الشخصية  بهذه القضية القومية الأبرز بل ودفع مؤسسة أكاديمية مهمة كجامعة ابن رشد كيما تضع في برامجها دراسات ميدانية عن كوردستان وشرفنا ما أنجز بالخصوص في مختلف الأقسام ومنها قسم الصحافة الذي يبحث فيه اليوم بمستوى الدكتوراه موضوعات تخص الصحافة الكوردستانية آملين هنا ألا نكتفي بالتهاني على أهميتها في الاحتفال بالمناسبة وإنما أن تكون مبادرات العمل والتطبيق ببرامج ممنهجة ترتقي لمستوى تضحيات وقرابين قدمتها الصحافة الكوردستانية عبر مسيرتها في إطار حركة التحرر الكوردية..

مباركة مسيرة الصحافة الكوردستانية ولتكن اليوم تلك المسيرة مكللة بغار الحرية والانعتاق وبأنضج قوانين العمل الصحفي المعمول بها في عصرنا.. وذلكم ما يليق بشعب كوردستان وتاريخه وبدوره المميز الفاعل في  الألفة والوحدة والاستقرار وإشاعة أنوار المعرفة و السلام في المنطقة بأسرها..