المطلق والنسبي بين الأنا والآخر

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

نشير بالمُطلَق إلى كل ما هو تام كامل، المجرد من كل قيد أو استثناء أو شرط، والمطلق خالص من كل تعيُّن أو تحديد أو حصر، متسم بالثبات والكلية المتجاوز لأي توصيف زمكاني. والمطلق يُنسب إليه ولا ينتسب لغيره، والحقيقة المطلقة هي نقطة تلاقي الأضداد وفروع المعرفة جميعاً، إنها ذات لذاتها وهي وحدة وجود كاملة..

ومعرفيا نسمي المطلق باللانسبي حيث الثبات مقابل التغير..  ولربما أردنا توصيف المبادئ الأساس وقيما أخلاقية إنسانية بالثبات النسبي فنقول عنها: إنها مطلقة في  امتداد زمكاني.. وكثرما ظهر المطلق في الممارسات السلوكية الأخلاقية وفي الحياة العامة اجتماعية وسياسية. ومن ذلك إطلاق الأحكام الأخلاقية أو فرض حكم سياسي أو فكري مطلق بلا قيود أو شروط  أو محددات!

وهذا بخلاف طبيعة  كل الظواهر الحياتية والطبيعية ونسبيتها كما برهن العلم ونظرياته حتى الآن.  إنّ كل ظاهرة ونشاط وكينونة في وجودنا تنتسب لتعيين أو تحديد أو توصيف فيه من التناظر والمقابلة والتناسب مع الآخر ما يؤكد التأسيس والتكوين.. وبهذا  فإنّ كل شيء يبقى مقيدا بمفردات محيطه، مشروطا بتعيّنه زمكانيا...

وبغض النظر عن البحث في المطلق الكلي الشامل المتجاوز للزمان والمكان وتفرده بالقدسية، فإنَّنا نبحث عادة في مطلقاتنا (البشرية) النسبية.. تلك المطلقات التي تتجاوز على قوانين تساوي النسبيات من ظواهر ومن كينونات ومن وجود بشري ممثل بالأنا والآخر...

إنّ أول تجاوز متوهم ولا يقع إلا في خطاب التضليل الذي يستغل حالات الجهل والتخلف والسذاجة، هو ذلك الادعاء بالقدسية والتنزه عن النقص والهفوات والثغرات والتنزه عن الخطأ بادعاء العصمة من قبل بعض الأفراد. سواء كان هؤلاء الأفراد يتخذون وظيفة المراجع الدينية أم يفرضون أنفسهم قادة تاريخيين في السياسة وفي الحياة العامة!؟

ومع توكيد النص الديني على أن الأنبياء والرسل هم بشر مثلهم مثل غيرهم، إلا أن بعض أدعياء يحاولون استغفال الناس بالقول: إنهم ممثلو الله على الأرض وطاعتهم واجبة كوجوب خضوع العبد لمالكه أو مستعبده؛ أي ممارسة السلطة الدينية [والمدنية] بلا قيد أو شرط.. ومثل هذا يجري من أولئك الساسة الذين يرون في أنفسهم الحكام المطلقين الذي تكون أحكامهم أوامر مطلقة واجبة التنفيذ بلا قيد أو شرط...

المشكلة هنا، في هذه المطلقات أنها ترى في الأنا الحاكم المستبد صوت المطلق الذي يحق له ما لا يحق لغيره بل الصوت الذي لا صوت عداه.. وجميع  أصوات الآخر ليست سوى أدواته التي يتحكم بها كيفما يشاء.. هو يقول والبقية تردد.. على طريقة إذا قال صدام قال العراق وعلى طريقة أنا (الحق!) وغيري الباطل..

تنعكس هذه الفلسفة وهذه التربية في الحياة العامة وتفاصيلها. وتنتقل إلى خطاب تحول الأنا إلى مركز أساس أو مطلق ويصير كل آخر وجود نسبي في عالم الأنا المطلق.. ويتحول كل ما يصدر عن الأنا إلى صواب مطلق ومعيار يقاس فيه الموقف من الآخر والحكم عليه والتعاطي معه..

بمعنى تتحول الأنوية لا إلى مجرد نرجسية وحب ذات بل إلى تماهي مع المطلق الأول الواحد المتجاوز للزمكان! ومن هنا تجد ظاهرة الاستبداد المطلق. ومن هنا تجد ظاهرة الاستغلال الفاحش المفرط المطلق. ومن هنا تجد ظواهر الإلغاء والإقصاء والتهميش والتعالي والفوقية وفي السياسة تجد الشوفينية \ الاستعلائية التي تضع طرفا في المركز المتحكم المستبد وأطرافا في مراكز التهميش والمصادرة والاستلاب والإخضاع القسري والاستهانة والممارسات الهمجية الأبشع...

إنَّ فلسفة المطلق، ليست سوى نزوع لمصادرة الذات البشري والوجود الإنساني النسبي.. إنها قبل أن تكون إلغاء للآخر بنسبيته فهي محق للذات البشري وتحول بتلك الذات إلى وحشية فاقدة لمنطق الصواب ولقيم السلوك الإيجابي المنتظر من الرابطة الوجودية بين الأنا والآخر..

إن وجودنا  الكوني هو سلسلة من الترابطات بين كينونات نسبية تتعرف بعضها ببعض وتتحدد بعضها ببعض وهي مشروطة في تفاعلاتها وعلائقها بمحددات نسبية.. والثابت الوحيد بين هذي النسبيات هو وجودها الكوني المشترك... وإنسانيا لا وجود لأنا كلي شامل خارق وحتى القادة والمفكرين والفلاسفة والعلماء والمبدعين يمثلون كينونات ترتبط بالوجود الزمكاني البشري بعلاقة نسبية محددة متعينة..

لا مطلق غير متعين، غير مشروط، غير محدد في وجودنا البشري الإنساني.. فكل أنا [كل شخص و كل ظاهرة] يتعين بغيره بدءا من ولادته من أبوين ونسبته إليهما ومرورا بعلاقاته وانتسابه إلى عائلة وإلى مجموعات من الصداقات والزمالات والعلاقات البشرية المحددة..

إن الأنا الذي يقوم على الاعتراف بأن كينونته  تتحدد بمحيطه وتكون مشروطة بهذا المحيط، هو الأنا الذي  تنبني قيمه السلوكية الصحية الصحيحة من مبدأ احترام الآخر وإقرار حدوده في ضوء علاقات نسبية.. فهناك محددات قيمية للعلاقة بين الابن و\أو الابنة وأبويهما، وبين التلميذ وأستاذه وبين الصانع ومعلمه وبين الصديق وصديقه وبين الزميل وزميله وبين الجار وجاره وبين سالك الطريق وعابريها الآخرين.. إن القيم لها  (مطلق نسبي) يتمثل في  مبادئ رئيسة أساس تمتثل للنسبية والمساواة وعدم تجاوز الحدود.. أي أنه لا مطلق كلي شامل في  وجودنا البشري والظواهر المحيطة بنا من اجتماعية إنسانية ومن طبيعية وما في حكمها هي مفردات زمكانية... المطلق الوحيد ليس أيا من البشر...

وكل إنسان يُقرأ من سلوكه ومن القيم التي يمارس في ضوئها أنشطته ومنجزه اليومي في علاقاته مع محيطه أو مع الآخر.. ونذكر هنا أننا كثرما نجابه في حواراتنا استبداد وعناد وجمود على رأي من مبدأ الأنا المطلق  الذي يبادر فيه [الدعيّ] إلى إلغاء الآخر..

وكثرما  نرى، أن الشخص يمارس النقد تجاه الآخر في قيمة أو سلوك أو فعل وحين يمارسه هو يغفل النقد ويغفر لنفسه الأمر ويجعله مبررا.. وهذا شائع بقول تحرمون على غيركم ما تحللونه لأنفسكم..

بعض الأزواج يمررون الخيانة وهم يحرمونها على أزواجهم \ زوجاتهم.. بعض الأصدقاء يستمرئون الغيبة والقيل والقال وخيانة العهود  ويحرمونها على أصدقائهم [إن جاز تسمية العلاقة صداقة في مثل هذه الأحوال] وبعض  الناس يقبلون من أنفسهم [الأنا] مالا يقبلونه من غيرهم [الآخر]..

في السياسة، القائد الضرورة هو المطلق السديد الحصيف الذي لا يخطئ وصاحب مطلق صلاحيات القرار والأمر بصورة إلهية! فالجميع عبيد يخضعون لأوامره ونواهيه بلا مناقشة.. وهو الأصل والشعب هو الفرع هو المشرّع وهو القانون والجميع أتباع يخضعون لقانونه.. إنه يسطو على صلاحية التشريع والأمر فيما  كل الشعب وعلمائه ومفكريه وفلاسفته ومبدعيه ومنتجي خيراته يعملون في ظلاله..

إنَّ التواضع أول طريق الاعتراف بالآخر فيما تضخم الذات أول طريق خروج الأنا على حقيقتها الثابتة في الانتساب لمحيطها.. وعادة ما تكون الأنوية متأتية من أمراض هذا المحيط..

فلا وجود، لمرجعيات مزيفة وقادة مفرطي الغرور والاستبداد ما لم يكن معهم من يقف في كنف الدفاع عن هذا الروح الاستبدادي الشوفيني الاستعلائي والإلغائي الإقصائي.. ولكن في جميع الأحوال نحن بحاجة لمراجعة فلسفتنا التربوية وقيمنا في منتدياتنا وجمعياتنا ومدارسنا ومؤسساتنا العامة..

إذ لا يصح أن يستمر العمل بالأنا المطلق ولا حتى بمثالية البحث عمن يطابقنا ويماثلنا بالمطلق وعمن لا نقبل منه الهفوة أو الخطأ الهامشي وبمجرد أية زلة نقاطعه  ونلغيه من معجم حياتنا.. فورة المطلقات تلك يلزم مراجعتها.. وينبغي البحث في نسبيات وجودنا ومحدداتها التي تعني تبادل العلاقة بين الأنا والآخر من مبدأ المساواة وفي إطار خطاب التواضع والتسامح.. وسياسيا من مبدأ أن وظيفة المسؤول رئيسا أو رئيسا للوزراء أو وزيرا أو مديرا لمؤسسة أو لجمعية إنما هي  تكليف تداولي يخضع لقانون الوجود الإنساني المشترك وقوانينه وضوابط قيمه  التي تضع فواصلها بين  مطلقاتها ونسبياتها..

ولربما ذكَّرت معالجتي هذه بمحايثات تتناول مفردات خطابنا بين المطلق والنسبي في حيواتنا المفعمة بهما...