العفوية والتنظيم في مراحل  الانتفاضات الشعبية في بلدان المنطقة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

سادت العفوية في انطلاقة الاحتجاجات الشعبية في عدد من دول المنطقة قبيل انتقالها إلى مراحل تالية من التعبير عن المطالب وعن إرادة التغيير عبر الانتفاض والثورة... ومن بين المفردات التي دفعت بهذه العفوية أنّ الشرارة الأولى جاءت احتجاجا غاضبا على أمرين: تمثلا في المسّ  المباشر بالكرامة الإنسانية وإهانة المواطن البسيط؛ والآخر في وصول خط الاستغلال وحجمه حدا  لم يعد ممكنا السكوت عليه في حياة الفرد العادي...

لقد عبر الوعي الشعبي عن تجاوز لأشكال النضالات التقليدية وتجاوز لقيادات المعارضة وآلياتها التي قد يكون أصابها الوهن أو الترهل.. ولكن في جميع الأحوال تبقى الانتفاضات الشعبية تعبير عن درجة غليان وتفجر تقود لجهد شعبي مباشر لا يلغي التاريخ النضالي المنظم بقدر ما يحسم أمرا بطريقة حازمة؛ ومع عفويتها فهي ليست عشوائية وبغير انتظام يحدده الهدف المباشر عادة..

وفي الانتفاضات التي جرت في تونس ومصر وتجري اليوم في ليبيا واليمن وسوريا، فإنّ الهدف المباشر هو المطالبة بتغيير النظام  الذي بات طغيانه وأشكال الاستغلال في ظلاله من القسوة ما لا يمكن القبول به.. والتشخيص في ظرف تلك البلدان أن الشعوب أدركت أن الحلقة الأولى لتلبية مطالبها الحياتية ليست في ترقيعات اقتصادية محدودة، بل في تغيير النظام السياسي السبب الحقيقي في شيوع الفساد وأشكال الحرمان والمصادرة.. كما أن الانتفاضات لم تكن احتجاجات جياع من الهامشيين المغفلين بل كانت ثورة من أجل الحرية واستعادة السلطة وإعادة ترتيب البيت الوطني بآليات الديموقراطية والتحديث بمستوياتها على اساس من الوعي والنضج في الشخصية الوطنية ومستويات تطورها..

وفيما أنجز شعبا تونس ومصر المرحلة الأولى من مسيرة الثورة ويقترب الآخرون من ذلك فإنّ شعوبا أخرى تتطلع لتوجه مماثل يحسم معركة الشعب من أجل الانعتاق والديموقراطية والسلام. ولربما فرضت طبيعة كل مرحلة من مهام محددات آليات العمل.. ومن الطبيعي أن تكون الإجراءات الأولى قائمة على اندفاع الجماهير الغاضبة عفويا وبقوة إلى الشوارع والميادين..

ولكن الخطوة التالية من المرحلة الأولى تطلبت دائما قدرا  من مسؤولية التنسيق وترتيب مفردات الشعارات وخارطة الحركة والأداء الميداني اليومي.. وقد نجحت القوى الشعبية بوعيها في فرض إرادتها بمصر وقبلها بتونس.. وربما ليس بعيدا في البلدان الأخرى..

وسبب هذه العفوية يعود من جهة إلى القيود المفرطة على قوى التنظيم السياسي النقابي وقرارات السلطات الغاشمة في تقطيع أوصال الحركات الديموقراطية ومنعها من ممارسة العمل والاتصال بجماهيرها وحظر أية نشاطات مطلبية عامة.. ومن جهة أخرى يعود إلى شيوع الحرمان من الحاجات بدءا من لقمة الخبز ومرورا بفرض التشغيل والعمل ومستوى الأجور والقدرات الشرائية وليس انتهاء بالتعبير عن تلك المطالب ومستوى الحرمان الذي  وصل بالأغلبية تحت مستويات خطوط الفقر التي لا يمكن أن تطاق بما يعبر عن مستوى يقتنع فيه الثائر أنه لن يخشر بثورته تلك شيئا بعد أن فقد كل شيء حتى امتلاكه وجوده ذاته.. وفي ضوء ذلك لا يبقى للمواطن سوى اتخاذ القرار بالمبادرة بنفسه في حسم الأمور ووضع السلطة بأيدي من يلبي رسم خطط التقدم والنهوض بالأوضاع العامة لمصلحة الشعب..

 

ومع إنجاز مهمة المرحلة الأولى في إسقاط قوى الاستغلال وإزاحتها من التحكم بالمشهد العام، تدخل الثورة مرحلة مهمة جديدة تصطرع فيها قوى الردة من أنصار النظام المنهار حيث تمتلك قوى منظمة وتمتلك قدرات معلوماتية ولوجستية تساعدها على الحركة والتمويه والتضليل فيما القوى الشعبية مازالت تخرج للتو من عفوية الحركة وتتجه لإعادة  التنظيم بل في الحقيقة استيلاده من ما يشبه العدم واقعيا فعليا، وهو الاستيلاد الباحث عما يلبي المتغيرات العاصفة وعما يلبي قدرات الاتصال الجماهيري الأوسع بعد ضوائق الحظر والمصادرة لعقود...

إنّ أكبر المخاطر التي تتهدد الثورة الشعبية وإمكان تحقيق انتصارها النهائي تكمن في عدم امتلاك تنظيم يرتقي لحجم مطالبها نوعيا.. بخاصة في ضوء حالتي عدم الاستقرار الذي تشيعه القوى المضادة والمضاربات التي تتحكم بحركة السوق وبتطورات الأحداث مع امتلاك قدرات غير هينة على مستويي الإعلام والتنظيم الحزبي اللذين يديرهما المال السياسي...

هنا وفي هذه المرحلة تحديدا، نحتاج لدور النخبة الثقافية في توضيح المشهد وإزالة الضبابية والتصدي لدور التضليل الذي يمارسه المال السياسي وغيره من الألاعيب والحيل التي لا تتوانى عن استغلال كل الأقنعة والتخفي وراء  أستار تصل لاستغلال القدسية الدينية والقيم الروحية العليا للشعب [على سبيل المثال] للتحكم بالناس أو تلعب على الانقسامات المفتعلة بين مكونات الشعب لإدامة سطوتها وسلطتها، وهكذا دواليك..

إن وعي الشعب الثائر في البداية يكون متقدا وحيا وحيويا في التفاعل مع معالجات النخبة التنويرية، ولكنه سرعان ما يجري سرقة الثورة والالتفاف عليها إذا ما تُرِكت الأمور بتراكمات لصالح قوى الردة.. بينما ينبغي أن يتصدر الواجهة في هذه اللحظة إعلام وطني بأيدي وطنية نزيهة لا تتحكم فيه أموال الفساد ولا مافيات الابتزاز ليصل إلى اوسع جماهيره..

كما توجب اللحظة التاريخية، أكبر حركة استثنائية للقوى الشعبية الديموقراطية قوى الحرية والانعتاق من نير الاستغلال بكل أشكاله.. ومن الطبيعي أن يجري التركيز على تعميد التنظيمات السياسية الديموقراطية وتخليصها من رواسب الجمود والتكلس والترهل ومن رواسب التقليدية والارتقاء بإمكانات العمل المنظم بطريقة تدرك معنى التحول من القمع والاستبداد إلى الديموقراطية..

وهو التحول الذي تكتنفه مخاطر عودة قوى الاستغلال صاحبة المال المنهوب عبر صناديق الانتخاب! وهو أمر غير مستبعد في ظل عدم وجود تنظيمات تقود المرحلة..

إن أبرز مصدر لجماهيرية الثورة في مرحلتها الأولى كونها عفوية تنطلق من أحاسيس الناس وتفاعلاتهم الوجودية مع ظروفهم بما يصل بهم حد التضحية بالغالي والنفيس في أداء الاحتجاجات التي يمارسونها؛ فيما أبرز مصدر لانتصار الثورة في مرحلتها التالية تكمن في التحول إلى التنظيم الأرقى والأوسع والأوضح في آليات عمله وفي أهدافه وبرامجه..

إنَّ اجترار الخطابات السياسية التقليدية سيبعد الجماهير عن التنظيمات الموجودة فيما التفاعل المباشر مع الهبة الشعبية وتجسيد مطالبها سيكون السبب الأهم لاحتواء التنظيم تلك الحركة بحيوية وشمولية كافية لتحقيق النصر الحاسم في الانتقال بالسلطة من قوى الاستغلال وبرامجها القمعية إلى قوى الديموقراطية وبرامجها في البناء والإعمار وفي تلبية مطالب الناس وحاجاتهم..

من هنا صار واجبا رئيسا للمرحلة التالية أن تولد التنظيمات الديموقراطية بتنوعاتها وأن يجري تشكيل أوسع تحالف بين تلك القوى التنويرية ببرنامج مختزل يقوم على مراجعة التشريعات وبرامج العمل في كل مؤسسات الدولة بما يلبي تغييرا نوعيا يرتقي لمعالجة المآسي التي تحياها الجموع الغفيرة..

وبخلافه فإنّ دوامة خطيرة من التمزق والتشظي والاصطراع ستبدأ معيدة سطوة مافيات الفساد السياسي وأفعالها في امتصاص الدماء حتى الرمق الأخير..!

ومن أجل دور فاعل للمثقف وخطابه ينبغي الانتباه على قضية التجمعات والتنظيمات وبرامجها وعلاقتها بالحياة العامة وتفاصيل اليوم العادي للمواطن الإنسان.. كما ينبغي أن تنعقد صلات جدية فاعلة بين طرفي الإصلاح والتغيير: المثقف التنويري والسياسي الديموقراطي.. ونحن نستقرئ الواقع ومجرياته اليوم ونشاهد ما يدور بدهاء وخبث من طرف قوى الردة فيما التلكؤ وربما التردد  ينتشر في الوسط التنويري الديموقراطي بسبب ما عاناه من أمراض وظروف وتعقيدات وبسبب ما يجابهه من قسوة مقاومة سلطة المال السياسي والمنتفعين من قوى الاقتصاد الطفيلي مقابل ضعف الاقتصاد المنتج وتعطل الدورة الاقتصادية..

وعليه سيكون توجه القوى الديموقراطية، للضغط من أجل برامج التشغيل للقطاعات الانتاجية من جهة ومن أجل برامج التغيير التي تبدأ بالتشريعات وبإشراف قوى نزيهة على انتخابات تأتي بمن يعبر عن تطلعات الناس من جهة أخرى،  هو التوجه الأسلم والأنضج للحل الجذري المؤمل القائم على تنظيم الخطوات والبرامج وقوى العمل..