المعارضة وآليات العمل الديموقراطي

الحوار والروح السلمي أساس العمل السليم

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

يعلو بين الحين والآخر صوت التحديات والدعوة للمصادمات والاحتجاجات الساخنة في ضوء بروز مطلب أو آخر لدى هذه القوة المعارضة أو تلك.. وتلتقي قوى المعارضة الراديكالية في استغلالها الظروف وانتهاز أية واقعة لتحريك الأجواء الانفعالية أكثر من تقديم البدائل والمعالجات الموضوعية المنتظرة...

إن المعارضة في دولة المؤسسات، دولة  المدنية والعمل الجمعي التضامني، كما في التجاريب المستقرة للديموقراطية  في أوروبا لا تلجأ إلى خطاب التسقيط الراديكالي أو خطاب التهييج الانقلابي ولكنها عادة ما تشرع بحوار يستند لمشروع أو برنامج تحمله؛  ومن يقنع الطرف المقابل يمضي معه في تنفيذ ما يتم التوصل إليه في مسيرة العمل المؤسساتي..

إنّ المشكلة ليست في تحشيد الجمهور في مظاهرة احتجاجية، ولا في الخروج إلى الميادين والساحات عندما تستدعي الأمور؛ ولكن المشكلة تكمن في طبيعة الخطاب الانفعالي السلبي القائم على نفي الآخر وتسقيطه؛ فهذا الآخر سلبي بالمطلق والأنا المعارضة إيجابية إلهية لا خطأ لها معصومة من النقص على وفق الادعاء.. وطبعا هذا منطق الخطل والتخلف، لا يقبله عقل سويّ..

إننا بحاجة اليوم لمن يقف في كرسي السلطة أو في مقاعد المعارضة لأنضج تفاعل بينهما.. حيث لا إلغاء ولا إقصاء.. وحيث احترام الآخر.. ويفترض بالمعارضة التي ترى أخطاء في آليات عمل الحكومة أن تتقدم ببرامج وحلول ومعالجات وتبدأ بحوار موضوعي هادئ يصل إلى نتائج جدية مؤثرة وفاعلة في الميدان وعلى أرض الواقع..

فالحوار هو السبيل الصحيح للوصول إلى كشف الأخطاء ومحاسبة المتقصد وتقويم المخطئ سهوا وتصحيح أساليب عمله لما فيه التمسك بالمسار الصائب القويم.. بينما خطاب التحديات الراديكالي لا يمثل سوى صراعا  للتهييج والإثارة وانتهازا  لمثلبة أو ثغرة بغاية اجتذاب أكبر حشد للاستعراض به عبر تضليله وليس للدفاع عن مصالحه..

والجدية المنتظرة من المعارضة في أن تتحمل مسؤولياتها في تعزيز آليات الديموقراطية لا استغلالها سلبيا بطريقة تعود إلى زمن الثوروية والانقلابية والتسقيط الذي لا يستند اليوم إلى أرضية منطقية.. فيفترض في فديرالية كوردستان النموذج الذي نتحدث بشأنه عن دور منتظر من المعارضة أن تجد أطراف العملية السياسية طريقا صحيا صحيحا للعمل المؤسساتي...

إن انطلاقة إقليم كوردستان لا تحسب بسنوات تمتعه بآلية الانتخاب ولا بسنوات تشكيل مؤسساته بل بدرجة نضج من يدير المسيرة بطريقة جنبت الشعب الهزات العنفية.. وبمغادرة نهائية وإلى الأبد لأي احتمال لخطاب الصراع والتقاطع والعنف.. واستقرار الإقليم كان سببا لكثير من التطورات البناءة الإيجابية...

من هنا فإن الخطوة التالية تتعلق بدفع المؤسسات لمزيد من النمذجة والمثالية في العمل.. وعلى وفق خطط وبرامج التحديث والتجديد المطروحة وفي ضوء برامج عمل مدروسة من التكنوقراط والخبراء والمعنيين بقراءة الأوضاع بدقة وعلمية..

وبمقابله لن تأتي أفعال الصراخ والانفعال إلا بما يعرقل المسيرة وبما يخلق أمامها مزيدا من العثرات والعراقيل وهو ما لا تحتمله الأوضاع في الإقليم في ظروف العراق المرتبكة بخاصة مع فشل الحكومة الاتحادية ببغداد في وضع برنامج عمل موضوعي بل  ولم تستكمل بنيتها حتى اليوم بعد مضي سنة ونصف السنة على الانتخابات..

أما لمن يفكر بحلول جذرية تتعلق بتعديل مسيرة العملية السياسية فإنه ينبغي أن يتوجه إلى بغداد ووضعها المتردي ويقترح البدائل.. لأن استمرار الوضع على ماهو عليه في العاصمة الاتحادية يعني حرق الأخضر واليابس وربما وصلت الآثار السلبية الخطيرة إلى جميع مكونات العراق الفديرالي وهو ما لا يمكن قبوله..

إن جزءا مهما من عراقيل المسار بالإقليم معتمد على تداعيات ناجمة عن الاحتقانات في بغداد وربما يجري ترحيل بعض الأمور بطريقة غير محسوبة العواقب.. من هنا تتمنى قطاعات جماهيرية واسعة على المعارضة المخلصة لتاريخ المنطقة ولكوردستان أن تعي الواجبات والمسؤوليات التاريخية وأن تتصدى لمعالجة الأمور بموضوعية وحكمة..

إن الانجرار وراء سباق التحشيد والانفعال ليس مؤداه سوى مزيد من الخسائر فيما التوجه إلى مؤسسات التشريع والتنفيذ والشروع بحوارات جادة يعني حصاد تراكم إيجابي لمسيرة مهمة في تاريخ كوردستان.. وبهذا الاتجاه  يتأكد ما لدى كل طرف من خبرات ومن عناصر ناضجة لإدارة المؤسسات وتوجيهها بما يخدم الشعب وتطلعاته..

وبناء على هذا التأسيس سيكون على المعارضة بدل البحث في قوائم من يستطيع التحشيد في الشارع أن تبحث في قوائم من لديها من متخصصين ومن خبراء ومن دراسات معرفية دقيقة للأوضاع بما يرتقي بمشروعاتها وبرامجها لأفضل معالجة للاختناقات التي قد تبدو في بعض المرافق.. وأن تظهر في المؤتمرات العلمية بالخصوص لا في مناطق الانفعال السلبي...

ويتطلع المواطن إلى دورها في اقتراح الوسائل الكفيلة لمعالجة آثار الفساد الذي يظهر مرة هنا ومرة هناك  لهذا السبب أو ذاك.. ومن الطبيعي يوم تتقدم المعارضة بمثل هذه الأفكار والمعالجات أن تحصد الأصوات لصالح البناء مثلما تمضي بمحاولاتها الأحزاب الفائزة بالانتخابات السابقة.. وبانتظار أية انتخابات لن يكون النزول إلى الشارع صائبا إلا بقدر تعنت قوة أو طرف ما وهو ما لا يبدو من جهة حكومة تبحث عن تحولات نوعية في مسيرة البناء..

فيما يبقى الحق ثابتا للجميع لاستخدام الشارع السياسي والتحشيد فيه والظهور في الميادين ولكن الأهم من ذلك في المعادلة الحالية تكمن في موضوعية الحلول والبدائل التي يمتلكها من يدير المؤسسة ومن يتحدث عن البديل لا بالطريقة الانقلابية  التسقيطية بل بالحوار السلمي الأكثر هدوء وموضوعية...

وربما هذه التجربة سيؤكدها جمهور العامة بمنطقه ووعيه والتفافه حول حكومة الشرعية الانتخابية حيثما وجد فيها إرادة التوجه الإصلاحي المعلن والمتجه لتنفيذه وهذا الجمهور هو ذاته الذي سيحمي تجربته الديموقراطية ويرفض التشويش والتضليل ومواضع الإثارة والغليان السلبيين في المسيرة..

والإجابة القائمة اليوم من النخبة والشعب تقول إن كوردستان وتجربة الإقليم الديموقراطية ستمضي في تحصين مسيرتها خطوة فأخرى وسترتقي جميع القوى المخلصة لمستقبل الكوردستانيين لمستوى المسؤولية وتتخذ طريق التفاعل البناء... وأول الطريق اتخاذ خارطته عبر الخطة الإصلاحية المتبناة مؤخرا...