مخاطر أن تقع العملية السياسية في قبضة الزعامة الفردية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

محلل سياسي أكاديمي

ناشط في مجال حقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

 

منذ الدورة الانتخابية السابقة ومرورا بتشكيل حكومة السيد المالكي الحالية، ظهرت بوادر لمعالجة حالات الاختلاف في التوجهات عبر اختزال مركز القرار بيد رئيس وزراء لا رئيس مجلس الوزراء.. أي بالتحول من نظام العمل المؤسسي الجمعي إلى نظام الزعامة الفردية...

واليوم، بدت تصريحات واضحة من السيد المالكي لتجسد فلسفة التوجه للفردية والانعزال بأغطية ومبررات لا علاقة لها بما يجري فعليا.. فإشكالية خيار حكومة أغلبية بديلا عن حكومة الشراكة أمر له فلسفته وواقع حال الممارسات والانفراد بالقرارات أمر آخر.. وهذا يختلف جوهريا مع مسائل حسم الأمور وإنهاء العرقلة والجمود مزعوم الأسباب التضليلية..

إنّ لعبة تحميل الآخر مسؤولية ما يجري والتظاهر بمظهر المخلص الوطني واتهامات التخوين إلى جانب خطاب التسقيط وتحميل الآخرين مسؤولية العرقلة ومسؤولية توقف مسيرة العمل السياسي، هي ممارسة خطيرة تمرر لعبة ليس منتهاها غير الانفراد النهائي بالسلطة والانقلاب على الدستور!!؟

لنلاحظ أولا مسألة الاحتفاظ بالوزارات الأمنية والمماطلة التي مضى عليها لا الأشهر الأخيرة بل عمر انتهاء الانتخابات أي أكثر من عام ونيف! ومثل هذا جرّ ويجرّ مشكلات أخطر من مسألة الانفراد بالقرار؛ إذ هذا التمسك بحصر مسؤوليات هذي الوزارات بمهامها الخطيرة في ظروف العراق يعني المزيد من مستنقع الجريمة الإرهابية وتهديد العملية السياسية برمتها ووضعها في قبضتي قوى الإرهاب وقوى الدكتاتورية التي تنشأ بادعاء كونها بديلا عن الواقع المزري ولكنها انحدار من مأساة إلى أخرى أسوأ...

كما ينبغي في رصدنا للتداعيات أن نلاحظ التنصل من اتفاقات الشراكة ومفرداتها وهي لا تقف عند حدود اتفاقات أربيل حسب بل تندفع باتجاه التنصل عمليا من مجمل فكرة التوافقات التي جرت بين أطراف العملية السياسية.. والأمر مرة أخرى تتم عملية تمريره تحت غطاءات وادعاءات من قبيل التحول لحكومة أغلبية وأبعد من ذلك إشاعة خطاب التسقيط وتخوين لا حركة سياسية بعينها بل مكونات عراقية رئيسة في بنية الشعب العراقي!!

إنّ مرجعية مثل هذا الخطاب السياسي واضحة سافرة في كونها مرجعية توجه ثابت نحو تأسيس دكتاتورية جديدة تتقنع بمحيط  نشأ في كنف شيوع الفساد والمستفيدين المنتفعين وفي كنف السطو على حركات سياسية وتخويف أعضائها من عداء مفتعل متوهم مع الآخر الوطني سواء بعبع البعثفاشية أم بعبع الرعب الطائفي، ولكنه في النهاية يقصد إيجاد أرضية انقضاض على السلطة وحصرها باسم حركة سياسية وهي في الجوهر مجرد إعداد لطغيان الزعيم الفرد من جديد وربما بحاشية كما هو معهود بكل الطغاة؟!

إنّ الخطورة في هذه المساعي تهدد أولا فديرالية كوردستان ومن ثمّ بنية وجود عراق فديرالي بحق وربما تعيدنا إلى مربعات أسبق من مربع 2003 حيث رحى مطاحن مأساوية بخاصة في ظل وجود تحالفات إقليمية استراتيجية بين اتجاه من يخطط ببغداد ويحكم القبضة تدريحا على الأوضاع [بوعي وإدراك أو من دونه] وبين جهات إقليمية معروفة وأدوارها وتدخلاتها..

والخطورة أيضا تكمن في اتجاه تعميق شروخ الوحدة الوطنية وتهيئة مناخات الانقسام الطائفي على الأرض، وهي لم تقف عند انقسام شيعي سني بل نفذت مهمة إفراغ مجموع محافظات الوسط والجنوب من كل المكونات التي مثلت تاريخنا وبناة حضارتنا ووجودنا الوطني بهويته التعددية الغنية بتنوعها.. وهنا إشارتي واضحة إلى مذابح الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية  التي تعرض لها الصابئة المندائيون والمسيحيون من الأرمن والكلدان الآشوريون السريان ومن غيرهم  حتى  كادت تفرغ مناطق وجودهم منهم...  

يضيف المواطن العراقي وكل متتبعي قضية حقوق العراقيين، مسألة السياسة الاستبدادية القمعية التي طاولت التظاهرات في بغداد والبصرة والناصرية والديوانية وغيرها من محافظات تخضع لسلطة مباشرة لتحالف أحزاب الطائفية التي أرسلت قوات خاصة برئيس الوزراء شخصيا!؟ إلى الموصل والأنبار كون تلك المحافظات لا تخضع على وفق الادعاء لفلسفة الخنوع ولأوامر مركزية باتت مشبوهة الاتجاه..

دع عنك مسألة التحكم الوظيفي المتعلقة بالانتماء لحزب السلطة وحلفائه بدرجة ما والتحكم بالوظائف العليا بطريقة مبيتة مسبقا لأهداف بعينها..

إنّ هذه االأوضاع المأساوية قد اقتربت من حافة الهاوية ولحظة إعلان الانقلاب لا على الدستور وإنما على الوجود الوطني الجديد للعراق، ولعل أول الغيث ليس قطرة ولا قطرات بل انهمار زخات الجرائم التراجيدية بحق الناس فقد تجاوزوا مسألة حصر التشريعي بيد سلطة التنفيذي وثم إلغاء السلطة التشريعية وباتوا ينذرون عبر استعراضات ميليشياوية بصريح الخطاب بمقابل اعتقالات وسجون وتعذيب وممارسات من زمن كدنا نغادره  مرة وإلى الأبد لولا هذا الالتفاف..

إن الشعب والقوى الوطنية الديموقراطية وتلك الممثلة للتنوع القومي والديني والقيادة الكوردستانية، هي القوى الحقيقية صاحبة المصلحة الأساس في التصدي لاتجاه الدكتاتورية والطغيان في سلطة فردية غابوية بشعة.. وسيكون موقفا حاسما منتظرا اليوم قبل الغد أمرا مطلوبا لحسم  اتجاه العملية السياسية وإعادتها إلى مسارها الطبيعي السلمي وإطلاق حركة البناء والحياة الحرة في عراق ديموقراطي فديرالي تعددي يحترم غنى التنوع ويمنح فرص الحياة للعراقيين كافة..

وينبغي التوكيد هنا على أن إدانتنا لهذه التوجهات لا تقصد إدانة شخصية سياسية أو حركة حزبية بعينها ولكنها تتطلع لوقف التداعيات التي تخدم قوى إقليمية ولكنها لا تخدم في جميع مفرداتها ولا أية جهة وطنية ولا أي مكون عراقي ولن تخدم سوى مافيات الدم والجريمة بجناحيها قوى الفساد والإرهاب وبجوهرها المعتمد اليوم على فلسفة الطائفية..

وليس هذا التحليل سوى محاولة إنقاذ لجميع الأطراف بلا استثناء من أجل عراق حر وشعب يمتلك وجوده ومقدراته وما يحقق له حقوقه.. ومن ثمّ فدعوة هذا الخطاب لا تقوم على شعار يسقط يعيش بل على أساس إصلاح جوهري وعودة لنظام دولة مؤسسات مدنية ديموقراطية ودستور يلبي تطلعات جميع المكونات وقوى الشعب العريضة ...