الصحافة العراقية في عامها الـ 142 مسيرة وضاءة وعقبات كأداء

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

لم تكن بداية الصحافة العراقية في الخامس عشر أو السادس عشر من حزيران يونيو 1969 انطلاقة منفردة بلا جذور بل كان في العراق قبل ذلك بعقود صحافة أخرى تم التوثيق لها ولكنها لم تصلنا.. غير أن صحيفة الزوراء وانطلاقتها ووصولها إلينا بأعدادها الزاخرة فضلا عن مساهمة صحف عراقية أخرى دفع لتثبيت هذا التاريخ عيدا ورمزا لولادة صحفية عامرة بالجهود الغنية الثرة والمتنوعة..

 ولمن يقرأ المشهد الصحافي آنذاك سيقرأ عناوين بالعشرات أصدرت أعدادا بالمئات ولسنوات طويلة من مسيرة مهنة المتاعب.. فلنا أن نقرأ أسماء: الزوراء والموصل والبصرة وكذلك بغداد وتعاون والبرق وحقوق والحقيقة و زهور و روضة و وجدان وبانك كوردستان ومعارف ومكتب ومقتبسات وإرشاد  وسبيل إرشاد وفي البصرة كان أيضا الايقاظ والتهذيب وإظهار الحق ومرقعة الهندي والبصرة الفيحاء والدستور و صدى الدستور أما في الموصل فكان: نينوى والنجاح والثرثار وعثمانلي أجانسي وغيرها كثير..

ونقرأ أعلام من اشتغل بالصحافة من أمثال أبو الصفا طلعت أفندي وعيسى أفندي ريزه لي و عبدالكريم نادر أفندي وشريف نجمي و معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وفهمي المدرس و عبدالحسين الأزري و بيرمي أفندي و فتح الله سرسم و محمد أمين فخري و محمد توفيق أفندي وأحمد مدحت أفندي و خيرالدين العمري و    أحمد رفيق وناطقة برداز ومحمد مهدي الجواهري وشاكر صابر الضابط وسامي خونده وجعفرأسد وخالد الدرة و محمود الملا علي وعطا ترزي باشي وسليمان الدخيل وسليم حسون ورافائيل بطي وداود صليوه والأب أنستاس ماري الكرملي  و إبراهيم حلمي العمر   وغيرهم كثر من الأعلام..

وطبعا لمن يتجول بين تلك العنوانات لصحافتنا وبين الأعلام سيجد أن من بين من انشغل بالعمل الصحافي هم من الشعراء والأدباء وأعلام اللغة والفكر والسياسة..  كما سيجد تبني أسماء بين التغني الشاعري الشفيف وتلك التي تعنى باليقظة والوعي والنهضة الفكرية الاجتماعية في الحياة العامة وهو ما يعكس طبيعة ثقافة المحيط وبيئة العمل الصحافي آنذاك..

لقد ساهمت الصحافة في تبني وعي وطني وإنساني عميق وسارت بأداء بمستويات متنوعة مختلفة ربما ركز أغلبها في البدء على شؤون الدولة والمجتمع والوقائع وسجلاتها في الولاية ومكاتبها.. لكن ذلك لم يسجل عزلة ونخبوية بل اتجهت الأقلام لمعالجة شؤون الحياة العامة وتفاصيلها بطريقة راقية متفتحة نسبة لأوضاع تلك المرحلة التأسيسية..

فيما ارتقت صحافة مرحلة الأربعينات والخمسينات من العقد من المنصرم على سيرتين ذاتيتين للصحافة واحدة علنية بطبيعة ما تجابهه من عقبات ومشارط ومحددات وأخرى سرية عبرت عن العمل السياسي المقهور المختفي بسبب القمع والمطاردة والحظر.. وهنا لابد من الإشارة إلى الصحافة الوطنية الديموقراطية التي تصدت للضيم والظلم وللتعبير عن المطالب السياسية والاجتماعية العامة للشعب وفئاته العريضة..

بلى، لقد كانت بيئة الصحافة السرية محكومة بالروح الحزبي في الغالب ولكنها لم تنشغل بالدعاية الضيقة ولا بشؤون تنظيمية محدودة بل قدمت مساهمة مهمة ورئيسة في تسجيل وثائقي للواقع المريض ولطبيعة الصراعات الدائرة.. وكانت صوت الناس المغلوبين الذين لا حول لهم ولا قوة في التعبير عن مطالبهم.. كما ناقشت قضايا فكرية وثقافية واجتماعية بدراسات علمية موضوعية  ناضجة..

وهذه لوحدها تبقى بحاجة لمدى في قراءتها وتناول مساهماتها الجدية الكبرى.. لكننا بعامة نشير إلى ما تعرض له أعلام صحافتنا من متاعب سواء منها ما نجم عن التخلف الاجتماعي والعتمة التي كانت تلف المجتمع أم تلك التي جاءت من القوى المتحكمة بالشأن العام وبالمسؤوليات الحكومية ومؤسسات الرقابة والقمع البوليسي السياسي.. ولطالما تعرض الصحافيون لعقبات كأداء في ممارستهم مهامهم ومشاغلهم الرسمية..

وربما كانت سنوات ثورة الرابع عشر من تموز فرصة انطلاقة وبعض حريات  وظهور مدارس صحافة معمدة بالجهد الرصين مهنيا حرفيا كما ستظهر نقابة الصحافيين وتمضي بمطالب مشروعة.. لكن الأجواء سرعان من تقمع دمويا طوال عقود تالية..

إلا أن الصحفي العراقي قدم عطاءه  بكل التنوعات وباتت صحافة عامة وأخرى متخصصة وللفئات من فلاحية وطلابية وعمالية وأكاديمية واقتصادية وفنية وطبية وأدبية وغيرها.. كما قدم الصحافي العراقي منتجه بلغات الطيف العراقي وكانت صحافة عربية ومثلها أشرقت ساطعة صحافة كوردية وتركمانية وسريانية وعالجت بمهنية هموم وموضوعات عبرت عن الطابع المحلي والهوية الثقافية القومية والدينية وعمقها وخلفيتها التاريخية..

وبمراجعة مسميات الصحافة في ولايات بغداد والموصل والبصرة وفي العراق الحديث سنجد هذا التعبير بخاصة منه الصحف التي كانت تصدر باسم كوردستان المكون الرئيس الثاني في الدولة العراقية..

من الطبيعي اليوم في عراق ما بعد 2003 أن يتطلع الصحافيون لظروف أخرى مختلفة نوعيا حيث الحلم الوطني بعراق ديموقراطي فديرالي جديد.. ولكن الواقع شهد وضع  صحفيي العراق وعملهم على قائمة أخطر البلدان تعريضا للمشتغلين بمهنة الصحافة لخطر الموت اغتيالا وخطفا وتعرضا لمخاطر أخرى كالتهديد بأشكال الابتزاز والضغوط  والتضييقات وتحديدا في القسم العربي بمحافظات الوسط والجنوب أو المحافظات المشتعلة بفلتان أمني غير مسبوق..

إن عيد الصحافة العراقية اليوم يأتي وعديد من الصحافيين وصحافتهم ببغداد والبصرة ومحافظات عراقية  أخرى يتعرضون لأشد حالات التنكيل والابتزاز واستغلال النفوذ للتضييق عليهم.. فيما يحرمون حتى اليوم من تشريع قانون يحميهم من تلك الأعمال اللاقانونية.. ريما  سنستثني هنا بعض فرص إيجابية محدودة يحصدونها بجهودهم ونضالاتهم ولكننا نتطلع وإياهم لعهد نوعي جديد في حياة المسيرة الصحفية..

عيد سعيد لصحفيينا وانحناءة إجلال لشهداء المسيرة .. وتهنئة ممزوجة بالآمال الكبيرة  أن يكون هذا التاريخ العريق جذورا راسخة ثابتة من أجل عطاء أفضل وتحد شامخ للعقبات الكأداء التي تجابههم وأن تلعب الصحافة دورها كونها السلطة الرابعة بكل حرية وجرأة كما هو العهد بمسيرة ظافرة مشهودة للصحافة العراقية... وإننا لنتطلع إلى تعزيز كليات الإعلام واٌقسام الصحافة بتنوعاتها في جامعاتنا وافتتاح مراكز بحوث وتدريب وتأهيل إعلامي صحفي ودورات قصيرة ومتوسطة وتبادل خبرات دوليا وأن يتم الاهتمام بالصحافة الألكترونية التي باتت الأوسع تأثيرا وانتشارا.. وثقتنا باهتمام المنظمات والجمعيات والمؤسسات العامة والخاصة والشركات بدعم الصحافة ورفدها ماديا أدبيا بأحدث ما يتاح في هذا الشأن دوليا.. وننتظر وجود صحافة مجانية تصل المواطن في مدننا وأحيائنا وقرانا ومؤسساتنا ويجدها المواطن في وسائل المواصلات.. لِم لا ونحن بهذه العراقة الصحافية؟

إننا نتطلع لأن تحتذي أقسام الصحافة بمشروع قسم الصحافة بجامعة ابن رشد التي باتت تطلق برنامج الاهتمام بالصحافيين وتلبية مطالب التطوير والتأهيل المهني وحجز مقاعد دراسية متقدمة  مدعومة.. وهذا مشروع متواضع صغير ولكنه يمثل بعضا من أشكال الدعم والمبادرة وربما الجوائز السنوية التكريمية فرصة طيبة وربما مفردة صغيرة هي الأخرى ولكنها بحاجة للتفعيل والارتقاء بما هو أبعد وأغنى بالتعميم والاتساع..

وصحفيونا المشرقون علينا بأقلامهم ومداد من دمائهم أهل لهذه الحفاوة، فإلى ملتقى احتفالي  بكرنفال كبير في عيد الصحافة العراقية القابل ببغداد التي نريدها غدا عامرة بالسلام والديموقراطية..