الأزمة السياسية في بغداد وآفاق الحل

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

تفاقمت تداعيات الخلافات بين زعامتي أكبر إئتلافين في الحكومة العراقية على خلفية جملة من الاخفاقات التي جابهت التفاهمات التي جرى الانحراف عنها أو التخلي عن مواصلة استكمال التنفيذ لبعض مفرداتها. فيما المهام التي تجابه  الحكومة من الحجم ما لا يمكن لطرف حزبي أن يجابهها منفردا.. ومن هنا كانت التوافقات على أساس تشكيل حكومة شراكة وعدد من الهيآت والمجالس التي تتطلبها المرحلة الانتقالية..

غير أن المشكلة الحقيقية الأعمق تكمن في معاناة المواطن العراقي؛ وما لحق به من أذى وتضحيات جسام.. مع استثناء نسبي ملموس لأوضاع إقليم كوردستان وخصوصيتها.. فهذا المواطن مبتلى بانعدام للخدمات الحيوية الرئيسة  وانهيار في الدورة الاقتصادية ما خلق نسبة بطالة غير مسبوقة، وتدن في الأجور واتساع رقعة المشمولين بخط الفقر فضلا عن مشكلات الكهرباء غير المتوافرة والماء الملوث وتعقيدات الصرف الصحي وندرة الدواء وفساد كثير من مفردات الغذاء وتلاعب بالحصة التموينية  وانهيار وتراجع في التعليم وشيوع للفساد الإداري والمالي إلى مستوى بات فيه العراق طوال السنوات المنصرمة من بين أعلى أربع دول عالميا في الفساد!؟

أما في مستوى الإدارات التشريعية والتنفيذية الاتحادية ببغداد فإن البلاد ما زالت في أداء غير موفق للبرلمان الذي تتجاذبه آليات عمل مرتبكة أو غير مبرمجة بموضوعية.. فيما الحكومة  لم تولد إلا بعملية قيصرية تجاوزت خط مدة الحمل المعتادة محليا وعالميا وما زالت إلى يومنا بلا وزراء لأهم الوزارات السيادية الأمنية والعسكرية.. وكان تركيز تلك الوزارات بيد السيد (رئيس مجلس الوزراء) سببا في انفلات أمني من جهة وفي تركيز هذا الملف بشكل مباشر بيد شخصية رئيس مجلس الوزراء وهو بهذا يلغي من قائمة آليات العمل الحكومي فكرة العمل المؤسسي الجمعي على وفق الدستور حيث ينبغي أن يعمل بصلاحيات بعينها كونه رئيس مجلس وزراء وليس رئيس وزراء ولكنه استبدل آلية العمل بمركزية حادة أفضت إلى حالة من الفردية تخرق العمل الدستوري الأمر الذي يقلق الشركاء وجمهور الشعب..

لقد أثبتت الأشهر والأسابيع المنصرمة  حالة من القصور في الأداء الحكومي؛ وربما أشرت القوى الشعبية أعمالا تتجاوز على الحريات والحقوق التي كفلها الدستور والمواثيق الدولية.. إذ تم الاعتداء المباشر من قوى أمنية على التظاهرات السلمية ببغداد وعدد من المحافظات وفتحت نيران الأسلحة باتجاه الصدور العارية  واستخدم الرصاص الحي كما جرت اعتقالات عشوائية ومورس التعذيب بحق المعتقلين من المتظاهرين فضلا عن تلفيق تهم باطلة بحقهم واتهامهم بالإرهاب تارة وبالمخالفات القانونية تارة أخرى! فيما الحقائق كلها تدل على ممارسات صنفتها المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بالقمعية  المعادية لحق التعبير والتظاهر..

وكان من بين آخر وأخطر الحلقات تمرير اعتداءات مبيتة لعناصر البلطجة وأشقياء الشوارع المزودين بالأسلحة البيضاء من عصي وهراوات وسكاكين وآلات جارحة، حيث أصيب عدد من المشاركين والمشاركات بالتظاهرات السلمية في ساحة التحرير بتلك الاعتداءات.. وعمليا تمارس المؤسسة الأمنية سياسة قمعية  عدائية وتشيع الهلع والرعب في الأوساط العامة في محاولة للحد من التظاهرات..

وفي مثل هذه الأجواء استغل بعض زعماء أو قادة كتلتي القانون والعراقية الفرصة فتبادلوا خطابا اتهاميا تسقيطيا ما زاد من الاحتقان في الواقع وبات ينذر بتفجر صراعات غير طبيعية ربما تعيق العملية السياسية وتهددها بل تهدد  إمكانات السير بالعراق نحو استكمال مشوار بناء مؤسسات بمبدأي الديموقراطية والفديرالية..

وأمام هذا المشهد تبقى الآمال منعقدة على المستوى الرسمي بمبادرات جدية فاعلة  بالتزام ثابت بوقف خطاب الاتهامات والتسقيط والشحن الحزبي الضيق.. وبالعودة إلى طاولة تفاوض على وفق مبادرات  سبق أن دفعت الأوضاع خطوات إلى أمام  أبرزها مباردة السيد مسعود البارزاني.

فيما الآمال من جهة أخرى منعقدة على نجاح قوى التظاهر السلمي في خلق أرضية تغيير حقيقية بانعقاد مؤتمر وطني للقوى المدنية العلمانية المؤلفة من قوى التيار الديموقراطي وقوى حركة التحرر القومي الكوردية والزعامات الكوردستانية وكل تلك القوى الليبرالية والقوى المؤطرة تنظيميا بتشكيلات مدنية والمعبرة عن المجموعات القومية والدينية المهمشة وتلك الممثلة لمنظمات المجتمع المدني من نقابات واتحادات وجمعيات ومنهم ممثلو العمال والفلاحين والطلبة والشبيبة والنساء..

على أن البرنامج الكفيل بحل المعضلات اليوم بات واضحا لدى القوى الديموقراطية الحية.. وهو الاتجاه إلى حكومة تكنوقراط من المستقلين بمشاركة وزراء يمثلون القوائم الفائزة وتتركز مهام الحكومة على استكمال برنامج بناء وإعادة تفعيل الدورة الاقتصادية وحل المشكلات المباشرة على وفق دراسات  تستجيب لمطالب الحياة العامة ومعضلاتها وتعمل على إعداد القوانين والمؤسسات اللازمة تحضيرا للانتخابات التالية..

والحل الثاني يكمن هو الآخر بمباشرة التحضير لانتخابات مباشرة تنجز في ضوء الآتي:

1. إعداد وتشريع قانون الانتخابات مجددا بطريقة تلغي أشكال القصور فيه وتستجيب لنظام انتخابي ديموقراطي يمثل الوضع العراقي بظروفه المخصوصة..

2. إعداد وتشريع  قانون  الأحزاب على  أسس مدنية وعلى وفق المتعارف عليه في الديموقراطيات الحديثة..

3. تشريع قانون مجلس الاتحاد على وفق ما نص عليه الدستور كيما تجري الانتخابات للهيأة التشريعية مكتملة غير منقوصة كما جرى في الدورات السابقة.. وكيما يلتحق ممثلو المكونات العراقية بالبرلمان بنسبة تحترم وجودهم الفعلي..

4. التحضير لتركيبة مستقلة للمفوضية العليا للانتخابات بما توافق عليه جميع القوى والحركات الوطنية من داخل البرلمان وخارجه ممن يؤمنون بالعملية السياسية وبالخيار السلمي للمسيرة..

5.  استقالة الحكومة وحل البرلمان والدعوة للانتخابات على وفق الاستعدادات الفعلية المكتملة التي تقرها جميع القوى الوطنية بخاصة  قوى التيار الديموقراطي المبعدة قسرا من العمل العام..

 

لقد أكدت الوقائع أن القوى الديموقراطية قد تعرضت  للاعتداءات ولمحاصرتها واستلابها حق العمل العام بحرية، سواء بحظر النقابات وحلها أم بمنعها من حق التعبير ومهاجمة مقرات الأحزاب الديموقراطية ومحاصرتها ومطاردة ممثليها ومنعهم من الظهور في وسائل الإعلام والتضييق على إعلام الحركة الديموقراطية إلى غير ذلك من الأعمال المنافية لتكافؤ الفرص والمساواة في العمل السياسي الحزبي الحر..

ومن هنا، فإنّ أية انتخابات لا تأخذ بعين الاعتبار المواد الدستورية في المساواة وفي حق العمل السياسي بحرية وعلى وفق القانون وأية ممارسات بالتضييق واستخدام القمع بوساطة  ميليشيات غير شرعية لأحزاب الطائفية السياسية وأي استغلال لمؤسسات الحكومة والدولة بعامة لتجيير العمل لصالح تلك الأحزاب والقوى على حساب القوى الديموقراطية سيعيد المشهد  المتردي ولكنه هذه المرة لن يعود بنفس الوتيرة بل بمزيد من الاحباطات وبتداعيات مأساوية غير محسوبة العواقب..

ولابد هنا من الإشارة الواضحة إلى أهمية تعزيز دور القضاء واستقلاليته وحرية مؤسسته في العمل بالمسؤولية الدستورية تامة كاملة وضمان عدم التدخل بشؤونه ومنع اية ضغوطات وأعمال منافية للابتزاز وما شابه..

ومن الطبيعي هنا أن تكون هذه هي المقدمة لحسم مئات وآلاف القضايا التي تمثل الجريمة والمجرمين وواجب إصدار القرارات الصارمة بحقهم وإطلاق سراح المحتجزين والمعتقلين بلا مسوغات قانونية وأوامر قضائية مسببة..

كما سيكون مهما منع توفير أشكال الحماية لمسؤولين كبار أو صغار في حملة جدية فاعلة ومسؤولة لتطهير المؤسسات من الفساد بأشكاله.. وأن يكون الأمر معمولا به بأثر رجوعي لكل القضايا السابقة التي جرى تمريرها وتهريب عناصرها بغطاء رسمي أحيانا..

وسيكون إطلاق حريات التعبير والصحافة والإعلام وتوفير الحماية الأمنية اللازمة للعقل العراقي ومنحه الصلاحيات في رسم الخطط وتنفيذها من المهام الإصلاحية المؤملة التي تؤسس للشراكة الوطنية ولبدايات جديدة مختلفة نوعيا..

إن فكرة تغيير الحكومة لا تعني إسقاطا سياسيا لطرف أو آخر بل تعني وصول الأمور لوضع مسدود بحاجة لتحريك واستبدال وتداولية.. ولابد هنا من تعزيز أواصر العلاقات الوطنية والحوار وتوطيد الثقة ووقف خطاب الاتهامات والتسقيط وتهدئة الأوضاع.. بدخول حوار موضوعي لما ينتظرنا جميعا معا وسويا من أجل عراق ديموقراطي فديرالي موحد..