السلوك والقيم بين النظامين القديم والجديد؟!

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

هذه مجرد تداعيات أهمس بها في أذن كل مواطن عراقي، كيما ينظر بتمعن فيما يجري حوله.. وكيف يجري تمرير الأمور على حسابه وتمرر الجرائم باسمه وأحيانا بيده وبدور يضعونه على أكتافه.. فهل سيرضى باستمرار وضع جهوده في خدمة أسياد جدد.. أم ينتفض من أجل كرامته وحرياته وحقوقه في أن يتكلم ويعمل باستقلالية تامة وبلا تبعية ولا خضوع ولا خنوع.. وبلا خديعة ولا تضليل؟!

 

لنلتفت إلى الأمس القريب حيث كان كثير من الناس مكرهون على أن تكون أولوياتهم تتمثل في تقديس (فرد) ورفعه لمستوى التأليه وجعل كلماته أوامر مطاعة حتى الموت من أجل تلبيتها وتنفيذها بالتمام والكمال.. وباستثناء المناضلين الذين حملوا الوعي واستحقاقات الهدف الإنساني المنشود فقد كان أولئك الأتباع أما مجبرون فعلا وبشكل قسري على الخضوع أو مضلَّلون وقعوا بإيمان مغشوش بخديعة أو ممن لا حول لهم ولا قوة..

وقد استبدل أولئك المخدوعون الوطن والشعب وباتوا يرون في الدفاع عن شخص ذاك الفرد هو الدفاع عن الوطن والشعب بعينه.. حيث الدفاع عن الزعيم القائد هو دفاع عن المبدأ والقضية.. ولم يدرك أغلبهم أن مثل تلك التضحيات التي يبذلونها في طاعة ذاك (الفرد) قد خلق منه طاغية مستبدا ووحشا آدميا وحولهم إلى كواسر بشرية تأكل بعضها بعضا، في وقت تحيا بذل وبافتقاد الكرامة الإنسانية الحقة..!

ومن الطبيعي أن تكون نتيجة حكم الاستبداد والطغيان حال من السحق النفسي من جهة ومن إعداد جموع من تلك التي باتت متعايشة مع آليات تفكير ومنهج عمل يكتنفهما (الكثير) من الأمراض العقدية فكريا سياسيا دع عنك في مجالات وميادين إنسانية أخرى..

وبتنا اليوم مع هزيمة سلطة النظام القديم و رموزه، بمجابهة مع شخصية بشرية تسطو عليها بعض سمات من سلوكيات التخلف  ومن التعاطي بمبالغة، ربما مرضية، في الحيطة والحذر مع الآخر فرديا جمعيا.. ففرديا لا مجال لحوار مباشر مفتوح ولا علاقات بشرية سوية طبيعية.. وكثيرا ما اكتنف العلاقات مطبات التشنجات والتفسير الخاطئ لخطاب الآخر ووصلت الإصابات حتى داخل الأسر والعوائل والصداقات والعلاقات الحميمة.. فيما العلاقة بمستواها الآخر بين الفرد والجماعة البشرية باتت تقوم على افتراضات مسبقة وعلى روح من الشك وتداعياته...

وتستغل هذا الواقع قوى تتحكم اليوم بالمشهد العام.. فيسهل عليها توجيه وعي من ينتمي إلى تنظيماتها بأنها هي وحدها الصائبة وصاحبة الحق وغيرها لا يكون إلا بين عدو وبين من لا يستحق مكانهم ومكانتهم ويبقى مدينا لهم طوال عمره يشقى لهم..! ويبدأ تعزيز هذا السلوك السلبي المشين بتقديم رشوة التفضيل والأسبقية للجماعة المهيمنة على حساب الجماعات الأخرى المدينة لما قدمه [المناضلون] وكأنهم يقولون اليوم نقبض ثمن النضال والمنة التي تفضلنا  بها على الوطن والشعب..! ويصبح التوظيف واحتلال المناصب والحصول على الامتيازات والمكافآت وغيرها مقدمة لتشكيل سلوكيات جماعة تنظيمية بعينها..

ويجري تبرير الأمور بأنهم ينهضون بمهمة تطهير البلاد ومؤسساتها حيث إبعاد أنصار القديم وإحلال أنصار قوة تطرح نفسها بديلا وهي ليست سوى مسمى آخر للقديم بوجوه استبدادية جديدة.. كيف؟

لننظر إلى  السلوك.. إنّ سلطة النظام القديم قامت على ممارسة التمييز والسطو على المسؤوليات والمال العام وتوزيعها على الأتباع والمقربين والحاشية، من دون النظر إلى الكفاءة في احتلال منصب أو مسؤولية ومن دون أن تكون المكافأة لمن يستحق ولا تمنح مقابل جهد يعود على المجموع بشيء؛ وإنَّما كل ذلك يتم في ضوء خدمة الحاكم الطاغية ونظامه.. وفي تلك المرحلة لا عجب فنحن نعرف السبب والنتيجة...

ولكن لننظر في أجوائنا اليوم مَن يتم تعيينه بديلا؟ المفروض أن يتم توظيف المتخصص والكفاءة وفي ضوء ضوابط وقوانين.. فهل جرى هذا أم تكرر سلوك التوظيف بطريقة  حصة الأسد لي وأصحابي؟ وأبعد من ذلك، أن يجري الأمر اليوم على حساب الكفاءات والمتخصصين! وأسوأ منه أن يجري تمرير عناصر هزيلة لا علاقة لها بمنصب أو وظيفة أو مسؤولية؟! هل يمثل هذا بديلا..........؟؟؟ أم هو تكرار للقديم بوجه آخر من نفس طينته وتفكيره وسلوكه؟

ولننظر إلى السلوك في ظل ظروف حصص التوظيف وتوزيع المال العام بين الحاشية ومن في تنظيمي الحزبي وجماعتي  طائفيا فكريا.. وهنا نعيد بهذا السلوك المرضي لعبة الخنوع للرشوة ولمن بيده السلطة.

لقد تولدت سمات سلبية مضافة وشاعت فلسفة المواقف المسبقة وبات كل حوار يتطلع إلى خلق فضاءات مشتركة فاشلا. إذ كل مجموعة [حزب أو منظمة أو جماعة طائفية متخندقة] لا ترى في نجاح الحوار إلا بمقدار انجذاب نتائجه باتجاه ما تراه هي.. وهذا في أفضل الأحوال فالواقع متخم بالاختناقات والانسدادات في مسارات الحوار وهو مغرق في نظرة سلبية مغلقة لا ترى في الآخر إلا كونه عدوا أو يخدم العدو لأنه لا يتفق ومعالجات كل طرف ومواقفه الخاصة..

ولا حوار سوى سجال تعنيف الآخر ومجابهته بالتشنجات وربما الاقتتال بأسوأ مظاهره.. وطبعا كل هذا مبرر ومقبول وهو يركن بتوصيف الانفعال والحقد بالقدسية وبتوصيف المواقف المسبقة بالحكمة ومعرفة بواطن الأمور وبتوصيف خطاب الاتهامات بكونه خطابا مشروعا لأننا نمنح أنفسنا رتبة القاضي الحكَم وأبعد من ذلك أننا نتصرف بفوقية واستعلاء وبفرض أنفسنا مرجعية لكل شيء خارجنا ولكل من عدانا فــ الأنا المتحكّم لا يعترف بمنطق أو قانون وقيمة أو سلوك إلا منطق أناه الفردي لزعيم أو قائد أو رئيس أو صاحب كرسي ومسؤولية و\أو الأنا الجمعي لتنظيم أو حزب بعينه فالأنا هنا هو القانون وهو الأساس والمبدأ والقضية، وكل ما عداه  أما عدو أو خانع لإرادته الأنوية العليا!

إن فكرة الأنا مطلق الصواب والأنا القانون المقدس الذي لا يُمَس بل الأنا الوكيل عن الله على الأرض في ظل شيوع الخطاب الديني المزعوم للطائفية السياسية، إن هي إلا فكرة تتسرب إلى دواخل العامة فتلغي فيهم رحابة الصدر وتحجب استنارة العقل وتمنع صحيح السلوك؛ فتدفعهم إلى حيث التمسك الأعمى والدفاع عن هذا الأنا المرضي!

ومن الطبيعي هنا أن يبرر أولئك لأنفسهم في دفاعهم هذا أنهم يقاتلون دفاعا عن مبدأ! ولكن دعونا نسأل: عن أيّ مبدأ؟ ولن نجد إجابة ؟ وويزعمون أنهم يدافعون عن قضية! ونعاود السؤال عن ايّ قضية؟ و ما محدداتها؟! ولن نجد إجابة حكيمة فكل ما لديهم من تبرير أنهم يجابهون عدوا لدودا يريد تحطيمهم وعليهم أن يسبقوه ويحطمونه قبل أن يسبقهم.. وهكذا تمضي اللعبة وخطابها كما بقي النظام القديم يعول على ارتهان الناس في محبسه وقبضته عبر وجود بعبع أبدي لعدو مختلق وعلى المواطن أن يخضع وينفذ وهو مغمض العينين أعمى البصر والبصيرة!!!

 

وبمقابل هذه الأجواء المرضية على كل شخص أن يراجع ما يدفعه إليه تنظيمه [حزبه] وقائد تنظيمه [حزبه] فليس من معصوم بيننا وتشغيل عقلين أفضل من عقل واحد كما أن وضع أفكارنا ورؤانا على محك مع الآخر المختلف معنا تصبح أنضج وأفضل مما لو حصرناها بإيمان متوهَّم بمطلق صوابنا..

إننا نبقى دوما بحاجة لاستقلالية في الموقف والتفكير.. بحاجة لقطع الطريق على فكرة تأليه الزعيم والدفاع عن مواقفه بالمطلق ورفض تلقي الأوامر بلا مراجعة وبلا مناقشة.. فذلك سيجعل من الآمر مستبدا جديدا وطاغية آخر.. إننا بحاجة للعمل الجماعي المشترك ولتداول الأمور ومناقشتها ودراستها دوما وباستمرار وبغير ذلك فإننا نمضي إلى مهلكة الفردنة والتحكم بنا لصالح الفرد المستبد مجددا...........

لا يجوز أن نعد من ينتقد تنظيمنا ومبادئه وزعامته عدوا.. بل علينا أن نجد وسائل حوار مع ذاك النقد.. وأن ندرسه ونلاحظ ما فيه من رأي وعظة وحتى ذاك الذي يأتينا بأسلوب غير مريح يمكن وينبغي أن نغوص في عمقه ونأخذ ما ينضّج تجرتنا منه وبهذا السلوك فقط نكون تخلصنا من قيم سلوكية ينبغي أن نزيلها مع زوال النظام القديم.. وبهذا نكون بديلا عن الطغيان والاستبداد وأمراضهما ..

شخصيا لطالما قلتُ: ليس لي عدو ولكن عدوي كل ما يؤذي الإنسان وحقوقه ووجوده الطبيعي.. ولطالما اعتقدتُ بأنه ربما يوجد من يرى فيّ عدوا له، ومهمتي كانت دائما أن أجد وسائل إقناعه بأنني لست عدوا بل صديقا أو (آخرا) يريد إزالة غمامة الظلمة وعتمتها ومرضها منه.. وكل ما عدا ذلك من التباس ومن حالات عداء متوهمة هو تنوع واختلاف يحقق وجودنا البشري العادي الطبيعي حيث لكل إنسان بصمته ولكل جماعة هويتها..

 

أحيل مداخلتي هذه إلى حيث تلك الأحزاب التي تتحكم اليوم بالسلطة في بغداد وزعاماتها وما يرون في الآخر من المتظاهرين ومن المنتقدين أنهم أعداء ينبغي قمعهم الأمر الذي وصل إلى حد استخدام الرصاص الحي مرات واستخدام وسائل التضييق والمنع والتشويه والتجاوز والاعتداء بالعصي والسكاكين والبلطجة ومداهمة المقرات وكل تلك المفردات والمنهج الذي مثَّل النظام القديم ويستعيده أبرز رموز النظام الجديد الموجود مؤقتا في السلطة وكأنها غنيمة لن يتركها أبدا!!

أحيل مداخلتي لتلك الاعتقادات التي ترى في توضيح الصائب من الخاطئ وكأنه عداء.. بلى سيكون فراق بين الشعب وبين من يرى في اجترار أساليب الماضي مبدأ له ومنهجا يحميه!

إن البديل عن النظام السابق ليس من يمارس أساليبه. والنظام الجديد البديل هو نظام يحتضن الجميع على أساس من المساواة ومن العدل ومن مبدأ التداولية في السلطة حيث التخصص والكفاءة وبناء دولة المؤسسات لا مكان فيها للفردية على الطريقة الاستبدادية... بل عمل جمعي مشترك وتكاتف وتبادل للرأي بما يطوّر وبما يتقدم بنا معا وسويا..

قد أكون مررت بتداعيات أفكار مسترسلة ولكن زبدة الكلام أن نتخلى عن المواقف المسبقة الاستعدائية وأن نتمسك بمنهج ديموقراطي ودولة مؤسسات يخضع فيها الجميع لسلطة العدل والمساواة.. يتبادل فيه الأنا والآخر مواقعهما ورؤاهما باحترام و بودية وبمنطق العقل التنويري الذي لا يقبل باستبداد طرف وجوره على الآخرين.. فهلا وجدنا لأنفسنا مكانا بين شعوب التحضر والتمدن والعصرنة حيث الحريات والحقوق والحياة الإنسانية الكريمة..

أيها السادة، هل يجد أحدكم ما يمنحه قيمة أنه يتباهى بخنوعه لزعيم ودفاعه عن عنجهيات مستبد؟ وإذا كان يرى في زعيمه صورة مختلفة عن الطاغية فليقارن بين الصورتين بحيادية كيما يكتشف إلى أين تقوده قدماه.. وإذا كان يرى في حزبه بديلا ديموقراطيا فليقارن بين سلوكه الفعلي وإجراءاته وما قدمه وما أفرزه من واقع وما يحياه في ظل حكمه جمهور الشعب  وما كان يحياه.. لننصف العقل والحكمة في استخدامنا إياها لمصلحتنا ومصلحة عامة الشعب.. ولنوقف تداعيات أمراض الماضي ونعالجها في أنفسنا أولا.. وإلا فإن العلاج موجود لدى الشعب وإرادته في التغيير والعبرة لمن اعتبر................