من يثيرالخوف في الحياة العامة ولماذا؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

 الخوف شعور يرافق الكائن الحي، وربما كان هذا الشعور عاديا وأفاده في تجنب ما قد يهدده في أمر أو آخر.. وهو مقبول بدرجة بعينها أو حينما يكون المنبِّه من أمر يجري موضوعيا في محيطنا.. ولكن للخوف درجات من مستوى القلق والتوتر والخشية، الرعب، الهلع، الرهبة والذعر.. وللخوف نتائج انعكاسية بجهة إمكانات الإنسان من تفكير وسلوك وعمل. والخوف يشمل كل مراحل حياة الإنسان من طفولته حتى كهولته...

وإذا تركنا لعلماء النفس أن يتمعنوا في دراسات تخصصية لهذه الظاهرة المرافقة لحيواتنا ووجودنا فرديا  ولعلماء الاجتماع دراستها جمعيا.. فإننا يمكن أن نمرَّ على الظاهرة من زاوية تجمع بين أدوات السايكولوجيا والسوسيولوجيا من جهة وبين الأداء الإنساني في المجتمع بخاصة في لجوء (سياسة) أو أخرى لاستخدام (الخوف) آلية في عملها ومسار تحقيق أهدافها؟

إنّ علامات الخوف المرافقة تتمثل في طبيعة استجابة الجسد وتوجسه من تهديدات ربما تحيق به؛ كما تتجسد في حال من التوتر والقلق ومن الشدّ النفسي الذي يصل إلى تشتت الذهن وانخفاض قدرات التركيز وإمكانات رؤية الأشياء بوضوح.. وإذا ما تضاعفت شدة الخوف وتحولت من حال عادية إلى حال مرضية من الرهاب والهلع فإنها ربما لا تقف عند شلل الفرد ومنعه من قدرات التفكير الطبيعي السليم بل يؤدي الأمر إلى شلل عصبي نفسي يشمل جسد الإنسان وفي مدى زمني ربما يكون سببا في أمراض السكري والضغط والقصور في اشتغال الغدد وفي أمراض نفسية عديدة من مثل الانفصام والهلوسة وانعدام الثقة بالنفس والتردد والاكتئاب وغيرها.. ومن الطبيعي أن يرافق مثل هذه الظواهر انطواء وعزلة وانقطاع عن التواصل مع المحيط..

وفي الحياة الاجتماعية سنجد ظواهر من مثل الخوف غير المبرر وغير المتأتي عن ردود الأفعال وهو خوف داخلي أو قلق من أمور مفترضة متوهمة.. وربما سنجد مسمى الفوبيا  من مختلف الدواعي.. لكن المشكلات التي نود التنويه إليها هي تلك التي تتعلق بعلاقة الطفل  ثم الشاب بمحيطهما من البيت والمدرسة والمنتديات والميادين والأنشطة العامة..

ولنتذكر هنا أمورا تتعلق بالامتحانات والاختبارات المدرسية وحالات التنافس الشائعة والعادية في تفاصيل اليوم العادي التي يصادف من يحتله شعور الخوف انكماشا وارتدادا عن المشاركة الإيجابية فيها.. ما يحيل في الغالب إلى حالات الفشل والإخفاق والهزيمة غير المبررة سوى بهوس الخوف..

لكننا بشكل أبعد نشير إلى ما يشيعه الرهاب والذعر في الوسط العام، حيث شلل الأفراد والعوائل والجماعات التنظيمية تحت سطوة الخوف من تهديدات مصنوعة بقصد لهذا الهدف.. وطبعا سيكون الشلل منعا للجماعة البشرية من سلامة التقدم والسير إلى أمام...

إنّ إشاعة الأعمال (الإرهابية) من تفجيرات عشوائية ومن جرائم الاغتيال والاختطاف والاغتصاب والسرقة وما شابه من اعتداءات قد لا تكون مجرد هدف مباشر ونهائي ينتهي بارتكاب الجريمة انتقاما وثأرا وتطمينا لبشاعة الرغبات الهمجية الوحشية لدى من يقوم بها.. ولكن تلك الجرائم خير أداة لإرعاب المجتمع ووضعه تحت تأثير قيود صناعة الذعر العام الشامل للجموع الواسعة بقصد آخر أبعد من حدود الجريمة جنائيا تلكم ستتمثل في هدف شلّ المجتمع عن أعمال البناء والإنتاج الطبيعي المؤمل من أنشطة الجماعة البشرية..

لقد عمل الحكام الطغاة على إشاعة الرعب والذعر في الحياة العامة عبر أنشطة أجهزة القمع [الأمنية]  البوليسية بتسريب أنباء الاعتقالات وأشكال التعذيب بطريقة  تعتمد الإثارة والتهويل لقوة تلك الأجهزة وذكائها بقصد إضعاف قدرات التخطيط لدى القوى الشعبية وهزّ العزائم وشل إمكانات التحدي والتصدي..

كما استخدم الحكّام وتستخدم ميليشيات ومافيات وسائل التهويش والتخويف باستعراض عضلات القوة في الشوارع من جهة وبإرسال البلطجية والأشقياء والقبضايات والشبيحة والاعتماد عليهم في أشكال التحرش والتجاوز والاعتداء بما يعمل على استغلال عامل الخوف المرضي في شلّ فرصة اتساع الاحتجاجات والتظاهرات في الشارع السياسي..

ولعل التهديد بأمور غير محددة واصطناع الغموض في أشكال التهديدات مما يثير تأثيرا أبعد.. ومن ذلك الإيحاء بوجود معلومات استخبارية عن عمليات إرهابية تستهدف المحتجين.. وبوجود بلطجية ومندسين من قوى [طبعا الادعاء المشاع أنهم] من غير الحكومة وعن اعتقالات وما يجري خلف حالات الاختطاف [لا الاعتقال] حيث الاغتصاب والاعتداءات الجنسية دع عنك التعذيب والتصفية الجسدية.. وهذا الخطاب يوجه لمنع النساء من المشاركة وكذلك العناصر الضعيفة أو المسالمة التي تريد قول كلمتها، من دون التعرض لمثل أعمال الابتزاز والتهديد. كما يستهدف هذا دفع الخائفين للالتحاق بحماية الحاكم الطاغية أو الميليشيا أو المافيا وما شابه ذلك من مثل توفير أرضية بهؤلاء المرعوبين للانتاسب لأحزاب تتلفح ادعاء وزورا بمرجعية دينية حيث لا ملجأ بعد انعدام الثقة بالمحيط الإنساني سوى الله ولكنه هنا بسياسة إشاعة الذعر والعرب والهلع ممثلا بوكلاء على الأرض وليس بنقائه على وفق الخطاب الديني الأصل...

إنّ المشكل في مثل هذه التهديدات لا يكمن في إبعاد جمهور واسع عن المشاركة بالعمل العام في التعبير عن الهموم والمشكلات السائدة  حسب بل تكمن مشكلته الأخطر على المستوى الاستراتيجي في تنامي روح الانطواء والعمل الفردي والخنوع والابتعاد عن الشأن العام بطريقة مضرة.. فضلا عن التراجع بأي شكل من أشكال الاهتمام بالانتاج وبمسيرة البناء والتطور والتقدم..

ولكن إرهاب الدولة وقمعها المسلط على الناس سيعود عليها بالضرر هي الأخرى وسرعان ما ستجد نفسها بمآزق لها أول وليس لها آخر.. حيث خواء المؤسسات وتراجعها ولا حل لمعضلات تتراكم تعقيدا وتراجعا إلى الوراء..

إن الرعب حيثما ساد سيخلق مصادر رعب متجددة حتى تلك التي يسمونها الرقيب الداخلي ستكون مقزَّمة أمام أشكال الانهزام والتشتت وتداعيات المرض الناجم عن هول غول الخوف في الفرد والجماعة.. واختلاق هذا الغول أسهل بكثير من محوه وإزالة آثاره ومعالجة نتائجه الكارثية.. المأساة أننا لا يمكن أن نعيد لجيل ما ثقته في الذات الجمعي وربما تطلَّبَ منا أمر العلاج مراحل زمنية طويلة..

 

ما يهم الآن أن يتحدث علماء النفس والأطباء والمتخصصون النفسيون ومن له صلة مباشرة بدراسة هذه الظاهرة.. من جهة فضح الآليات التي تطلقها القوى المتحكمة بمؤسسة الدولة أو بأجهزة إعلام أو اتصال وتأثير في الفرد والجماعة.. وأن يتم تناولها بتفصيل في فئات وقطاعات وميادين متنوعة مختلفة..

وربما تطلب الأمر دراسات إحصائية واستبيانات واستطلاعات تقرأ الأمور ميدانيا  اليوم..

ويعنيني هنا لا أن أكتفي بدعوتي لتفعيل هذه الدراسات بل للإشارة إلى أن بعض السياسات تفرز أدوات تهديد وإشاعة الذعر ربما من دون قصد وبجهل بنتائج آلية أو ممارسة .. ما يعني أننا بحاجة اليوم وتحديدا لمن يرسم سياسته وبرامج عمله العام لمستشارين في مجالات علم النفس الاجتماعي بأوسع تفاعلاته..

فحتى الحزب السياسي الوطني الملتحم بالناس عليه أن يدرس آثار بشاعات إرهاب النظام القديم وبقاياها في الناس.. فضلا عن الدراسة المباشرة لطبيعة الأوضاع السائدة وما فيها من مصادر إرهاب نفسي [ربما حتى في صياغة البرامج الحزبية وآلية العمل الخاصة بالحزب المعني] الأمر الذي يتطلب التعامل معها ومعالجتها بأدوات متنوعة يملكها متخصصو علم النفس وعلم الاجتماع.. وطبعا هنا الحديث سيكون بالخصوص لعلم نفس السياسة وعلم اجتماع السياسة بالمعنى الأوسع لنحت هذا المصطلح وآليات عمله..

 

وبالحديث عن الخوف بوصفه ظاهرة بأسبابها ونتائجها نؤكد أن ردود الفعل والتفاعلات تتفجر في أحيان أخرى بطريقة كسر حاجز الخوف وبطريقة غير محسوبة ما يعني أن على صانعي دوافع الخوف لمزيد سطوتهم، عليهم هم أيضا أن يشعروا بالخوف من ردة فعل لن تكون إلا كعاصفة تزيلهم بقوة لا يتوقعون حجمها ولكن لحظتها لات ساعة مندم..

لابد من الاتعاظ والبحث في إشاعة الطمأنينة والاستقرار النفسي وفتح فرص السلام والأمان التي تؤمِّن مسارات التفكير بهدوء ومن ثم تفعيل دور حركة بناء وتقدم.. ففي ظل الخوف لا يوجد سوى المرض والتراجع والهدم وكل ما يتصل بالسلبية سلوكا وممارسة...

هذه قراءة عامة حاولت بشكل غير مباشر أن تشير إلى من يقف وراء إثارة الخوف في الحياة العامة ومن له مصلحة في شل إرادة المجتمع الهدف الذي يجيب عن سبب استخدام آلية إثارة الخوف المرضي.. مجددا ودائما دعوة لزميلاتنا وزملائنا كيما يرتقوا ببحوثهم التخصصية.........