العملية السياسية بين مطب الأحادية والفردنة وتطلعات الشراكة والتوافق

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

في ظروف الأزمات بخاصة تلك التي تعقب الحروب والانهيارات المركبة الكبرى، تلجأ الشعوب إلى أشكال من الاجتماع السياسي الوطني الشامل .. إذ ما لـِ سفينة وسط بحر عاصف من فرصة للنجاة سوى تكاتف جميع من فيها في أداء موحد مشترك.. وفي الوضع العراقي كانت سنة 2003 علامة مهمة بين عهدين ونظامين تطلع الشعب  وحركاته الوطنية إلى تغيير نوعي جوهري في نظامه العام بكل تفاصيله.. ومن أجل ذلك علا صوت الخطاب الشعبي المتمسك بالوحدة الوطنية وبتوكيد آليات الديموقراطية واحترام التعددية والتنوع  ومشاركة جميع الأطياف العراقية في مجابهة مهام المرحلة...

وإذا كانت فلسفة  التوافق والشراكة الوطنية هي خيار التأسيس [شعبيا] الأمر الذي تطلع الشعب لانطلاق العملية السياسية به لإعادة إعمار البلاد والاستجابة لمطالب الناس وتطلعاتهم، فإن أيّ تحول نحو مراحل جديدة من العملية السياسية وآليات عمل مختلفة ينبغي أن يتم بقرار  يلتزم بهذه المبادئ التي يُفترض أن تكون العملية انطلقت بها، أو أن يجري العودة إلى الشعب لاختيارات مسالك التغيير والتجديد..

لقد كان عمل الرئاسات الثلاث ووجودها أصلا، وعمل الطاقم الوزاري قائما على أساس التوافق والشراكة.. وما جاز لطرف أن يضع رأيه الخاص موضع العمل من دون حوار مشترك..  وباتت المحاولات من أطراف العملية تحاول الوصول إلى قواسم  وسطية في البرامج والأداء.. الأمر الذي تطلب تنازلات من جميع تلك الأطراف لصالح التصور المشترك الذي يتم التوافق عليه..

هذا الأمر جرى نظريا بتلك الطريقة ووسائل الأداء التي شهدناها؛ إلا أن الوقائع أشارت إلى عقبات جدية أفشلت خطوات منتظرة على جميع الصُعُد التشريعية والتنفيذية وربما القضائية.. فتشريعيا أخفق البرلمان السابق في عدد من أبرز الأمور التي تمثل نقاط تأسيس أولها تخص بنية الهيأة التشريعية التي لم يتم استكمالها وتم وقف تشكيل المجلس الاتحادي ولم تتم صياغة قانونه ولم يجر تفعيل فكرة انتخابه فجاء البرلمان في دورته الجديدة منقوصا مرة أخرى ما عزز إغفال ممثلي الأقاليم والمجموعات والأطياف العراقية وساهم في زيادة عثرات التمثيل الوطني الأشمل والأوسع.. وتشريعيا أخفق البرلمان بتركيبته النصفية شبه المشلولة في إصدار القوانين الناظمة للعمل العام فجابهت المسيرة حالات تقطيع أوصال وامتناع عن الأداء؛ وطبعا هنا الإشارة إلى دور شخص السيد رئيس  مجلس الوزراء سواء في تقديم المشروعات الأمر الذي لم يتم أم في أمور وصلت حدا قلل فيه (رئيس الوزراء) من دور السلطة التشريعية وتحدث بخطاب وضع فيه المعادلة الدستورية السلطة التنفيذية فوق التشريعية أو قبلها وتلكم إشارة خطيرة لم يكن صحيحا تمريرها لأنها مدخل لمخاطر الاستبداد والانقلاب على السلطة الدستورية  بأكملها..

وسأتجاوز ما يخص السلطة القضائية وكثير من مفرداتها الاستثنائية والخطيرة تحديدا منها محاولة رئاسة الوزراء ضمها لسلطته هي الأخرى؛ كيما أركز هنا على السلطة التنفيذية نفسها وأدائها، ففي الحكومة السابقة شاهدنا أن كل وزير يعمل بشبه انفصال عن الأداء الموحد وهو يتخذ من رؤية انتمائه الخاص منطلقا لأدائه.. وربما كان ما كبح هذا السلوك لا المعالجة الحقة بل بروز بديل سلبي تمثل في قطع فرص الصلاحيات وقطع أية موارد تمكن الوزير من أدائه وحصر الصلاحيات في شخص السيد رئيس الوزراء [وليس ما يقره الدستور بمسمى رئيس مجلس الوزراء] الأمر الذي كان يعني شللا فعليا في الأداء دع عنك عدم وجود لا برنامج خاص بالوزير ولا برئاسة الوزراء ولا بالحكومة بشكل مشترك كما ينبغي.. ولا يسعف هذا الوضع الخطط والمحاور العامة المطروحة في الخطابات والبيانات إذ البرامج ليست بيانا حكوميا ولا بلاغا لمسؤول...

لقد خبرت القوى الحكومية العائدة في الدورة الانتخابية الجديدة بعضها بعضا.. كما تلمست تجربتها وما اكتنفها، فجاءت بحذر وحساسية واضحة وربما بانعدام ثقة نتيجة ما جرى في الدورة السابقة.. وكان هذا السبب في تأخر الولادة القيصرية للكابينة الحكومية الجديدة، كما كان سببا لانطلاقة مترددة تكتنفها عقبات ليست سهلة..

إنّ المحرك الرئيس الذي أخرج الأمور من عنق الزجاجة كان محاولة جدية مهمة تمثلت بمبادرة الأستاذ مسعود البارزاني؛ غير أنها هي الأخرى تعرضت لمواقف غير متفاعلة من بعض أطراف العملية السياسية. ولا يمكن إلقاء اللوم على طرف لوحده دون الآخر  بشأن التفاعل.. إلا أن الأمور قانونيا دستوريا يتحملها بالأساس من تسنم المسؤولية الأولى، إذ تقع عليه مهمة حل العقد وتحمل المسؤولية  المناطة به حكوميا ونحن بصدد شؤون دولة وليس شؤون علاقات حزبية محدودة..

ما نلمسه هنا على سبيل ذكر أمثلة لا حصرها عددا.. أنّ رئيس مجلس الوزراء  مارس في خطابه تعبيرا عن خطاب حزبي يتحدد بقائمته وحزبه فيما وضعه القانوني دستوريا يلزمه بالعمل بوصفه رجل دولة  بكامل المسؤولية الوطنية  الأوسع.. كما بات يتحدث اليوم بمنطلقات فوقية وبصفة رئيس وزراء لا رئيس مجلس وزراء بحصر الصلاحيات وسحبها من أطراف في الحكومة عبر وسائل التفاف متعددة كان أخطرها تمسكه بالوزارات الأمنية التي أخرجها من إطار المساءلة التي اقترحها بنفسه لما سُميّ مهلة المائة يوم للتعديل والإصلاح!

لقد قدم خطابا بطرياركيا يكون فيه شخص رئيس مجلس الوزراء منزها يحاسِب ولا يُحاسَب..!! وعقد جلسات محاسبة لوزرائه من دون أن يكون قد قدم هو برامج عمل مطلعِ المائة يوم ومن دون أن يتحدث بذات الآلية مع نفسه بوصفه وزيرا لعدد من الوزارات السيادية الأخطر في مسار العملية السياسية..

ونحن ومجموع أبناء الشعب نتساءل عن أي نجاح تحقق في ظل حصر المسؤولية المباشرة بين يدي رئيس مجلس الوزراء؟ فالعمليات الإرهابية ما زالت بوتيرتها المعروفة من استنزاف وإثارة الرعب والجراحات في مجتمعنا.. أما القوات المسلحة والأجهزة الأمنية فلا تمتلك أية جاهزية فعلية سوى بالخطابات الإعلامية الرنانة..

وربما تعود هذه الإشكالية الخطيرة إلى فساد في عقود التسليح وفي الإدارة وطبيعة العمل كما يتم تناقله... كما قد تعود إلى إنعدام وجود استراتيجية عسكرية واضحة المعالم و إلى انعدام خطط تعبوية مناسبة مثلما يعود بالتأكيد إلى خلل خطير في هيكلة  بنية القيادات العسكرية الوسطية والميدانية حيث اضطلاع وجوه جرى ترقيتها إلى رتب عسكرية من دون خبرات ومشاركات فعلية حتى بات الضابط ينتقل من رتبة ملازم إلى لواء في مسافة زمنية لا تؤهله في أفضل الظروف أن يكون  في الرتبة العسكرية التالية!؟ وطبعا نشير هنا إلى إدخال عناصر الميليشيا بطريقة غير معدة وغير محسوبة العواقب.. فيما لا يحصل أن تكون عناصر الشرطة أو الميليشيا في هرم الجيش بأية تجربة موضوعية معروفة!!

ولا تخضع القوات المسلحة بوضعها الحالي لأوامر رئاسة الأركان بشكل فعلي. وتوجد تشكيلات خاصة تخرج عن مسؤولية الدفاع وترتبط بمكتب رئيس مجلس الوزراء أو به شخصيا وتمارس هذه القوات حركات ميدانية وصلاحيات تعرض الجيش لأزمات ستظهر لاحقا ليس بعيدا! وأبرز المخاطر استخدام هذه القوات في عدد من المحافظات بصفة شرطي القمع الجماهيري؛ فيما سكتت تلك القوات ذاتها عن التصدي بآلية مناسبة للاعتداءات والخروقات على الحدود البحرية والبرية  والأمر لم ينته بأشكال القصف الذي تعرضت له الحدود بل احتلال بعض المناطق ومحاولة تغيير الحدود من أطراف معروفة كما بالبصرة والعمارة وغيرهما.. فهل هذه الأمور تثير الثقة بين أطراف العملية السياسية وتعزز تطبيق التوافق والشراكة؟

في مجال السياسة الخارجية سجلت الدبلوماسية العراقية خرقا بروتوكوليا فاضحا إذ عادة ما تقوم الخارجية بمسؤولياتها سواء بإعلان مواقف ثابتة معتادة من جهة التصريح تجاه العدوان والتجاوز من طرف أو بممارسة دورها بإرسال اسم سفير أو آخر بالطرق الدبلوماسية المتعارف عليها لكن تجابه هذه المواقف السليمة بروتوكوليا بمواقف مختلفة من رئاسة الحكومة وممثليها من العاملين في مكتب رئاسة الحكومة.. هذا ليس تدخلا فضا في التخصصات حسب بل خروج على كل المعايير ليس الدستورية والعمل الحكومي في داخل العراق بل في السلوك الدبلوماسي مع الدول الأخرى ولطالما وردت ملاحظات سلبية ذات مساس بالعراق بسبب هذه السلوكية غير الدبلوماسية من طرف رئاسة الوزراء..

إن قائمة طويلة يمكن تسجيلها على الأداء الخاص بزعامة حزب الدعوة لمجلس الوزراء لا تقف عند أشكال التعيينات العليا والوسطية للمسؤولين ولا للخروقات في الأداء الحكومي بل لمعنى حصر الصلاحيات والتفرد في اتخاذ القرار مع الإمعان في التسلح بقوات مسلحة ((خاصة)) برئيس مجلس الوزراء وقوات بوليسية وميليشيات سرية خاصة لتنفيذ الأوامر.. فضلا عن تكتيكات الإيقاع بين أطراف العملية السياسية بالتقرب من طرف والتفرغ لضرب آخر والانتهاء منه.. وتلك سياسة تعيد إلى الأذهان سياسة صنع الطاغية والدكتاتورية السابقة وهو تهديد فعلي بات الآن شبحا ينال من مسيرة عملية سياسية كان يُنتظر تقويمها وتصحيح مساراتها لا التراجع عنها والتنصل من إلزامات الدستور ومحدداته فيها...

إن الحل الأمثل للتداعيات الجارية تتمثل في العودة الفعلية للتمسك بمبادرة الحل التي وضعتها القيادة الكوردية وفي ضوئها وضع خارطة طريق لتنفيذ الالتزامات الدستورية من تعديلات ومن استكمال تطبيق ما وضع فيه ومن إنضاج القوانين التي تبني مؤسسات الدولة وتستكملها وتتجه لانتخابات مشروطة بقوانين للأحزاب والمجلس الاتحادي ومفوضية انتخابات ووسائل وضمانات النزاهة الانتخابية ممهورة بقانون انتخابات لا يفصَّل على مقاس إعادة  تركيبات سياسية تحنطت بفلسفة الطائفية سبب الخلل الحقيقي في البلاد..

ولكن الحل المؤقت يكمن في توزيع الحقائب الوزارية والصلاحيات بطريقة قانونية وباعتماد الشراكة الحقيقية بما لا يقبل باختزال الحكومة بشخص رئيس مجلس الوزراء.. وبما يمنع تسليح التفرد بقوات داعمة خاصة فوق القوات المسلحة الوطنية وفوق السلطة الدستورية الشرعية، وبما يمنع قطعا أية تجاوزات على سلطة منظمات المجتمع المدني  وحرية التعبير الشعبي.. إن العمل على وفق برامج مشتركة وتقديم الخطط والبرامج على الأشخاص وسلطة القانون على سلطة المسؤول أمر لا يمكن التهاون فيه  اليوم بعراق التعددية والتنوع واحترام الآخر ودوره الوطني شريكا رئيسا أساسا في المسيرة...

وللدراسة بقية