احترام الحقائق في عراق التعددية والتنوع أساس لوحدته

أصوات إعلامية تجتر فلسفتها من جرائم الماضي

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

بين الفينة والأخرى تطالعنا بعض الأصوات الصحافية من تلك التي مازالت تجتر من الماضي المأزوم بأمراضه، باستدعاءات لتلك السياسات التي حاولت دائما تغيير الحقيقة وإشاعة التضليل الذي يلائم فلسفتها في إلغاء الآخر وإقصائه بقدر استطاعتها.. وعلى الأرض يعرف الشعب العراقي حالات من نمط جرائم (التعريب) بترحيل عشرات آلاف العوائل من موئل إقامتها واستجلاب عوائل بديلة مكانها وإحداث التغييرات الديموغرافية قسرا....

وإذا ألقينا نظرة في نموذج ما أوردته جريدة الإصلاح في نهاية شهر حزيران المنصرم تحت عنوان "حدودنا في خطر"؛ فسنرى عمق ما يجترح اليوم من مشكلات تعرِّض الوحدة الوطنية لتهديدات غير محسوبة العواقب منها أنها تستهين بحقائق تاريخية، مُعتقِدة أنها يمكنها تضليل الرأي العام وحرفه باتجاه أوهام ماضوية قرر العراقيون طي صفحتها نهائيا بميلاد دستور دولة العراق الفديرالي...

إنّ فلسفة مثل هذه الحملة الإعلامية التي تظهر بين الفينة والأخرى تقوم على الأسس والدوافع الآتية:

1.   استمرار تشطير المجتمع وضخ نهج الاستعلاء وشوفينية (الأغلبية) في النظر إلى ما يسمونه تعسفا (الأقلية).. ومن ثمّ استمرار نهج الإقصاء والإلغاء في التعامل مع الآخر..

2.   التمسك بنتائج جرائم التغيير الديموغرافي التي تمت في ظل نظام الدكتاتورية والطغيان..

3.   اتخاذ حقوق [متوهمة] لهم على حساب الآخر والاستئثار بها بسياسة عدائية تشكل ركنا رئيسا في فلسفتهم التي يضللون بها الرأي العام..

4.   الوقوف بسلبية تجاه إرادة الشعب في وحدته الوطنية القائمة على  مبدأ الاختيار الحر والفديرالية التي تحترم التعددية والتنوع فيه..

5.   العمل وكأن الحياة جامدة لا تتغير حيث الجغرافيا والتاريخ يخضعان على وفق هذه الحملات الإعلامنية لإرادة سياسة قسرية تمارس الإكراه والعنف بالضد من طبيعة المتغيرات الإنسانية التي تتطلب تعاملا واقعيا معها...

 

ومثل هذا الضخ الإعلامي الذي تطل من خلاله قوى وسياسات معروفة لا يؤدي إلا إلى الآتي من النتائج الخطيرة:

1.   الدفع باتجاه تقسيم المجتمع وتشطيره واستعداء القوى المكونة الرئيسة بعضها تجاه بعض..

2.   جرّ الوطن والشعب إلى أشكال من التقسيمات المشوهة على الأرض بطريقة تفضي إلى تقاطعات احتراب مصطنع بين أطراف تعايشت تاريخيا  وتداخلت مصالحها في وحدة احترمت التنوع والتعددية وتبادلت علاقات إنسانية ووطنية صحية سليمة..

3.   خلق أسس قطيعة بين مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والتهيئة لأجواء انفصامات تقوم على نهج الاستعداء والاحتراب...

4.   إيهام المجتمع بوجود حروب حدودية بين مكوناته تفضي إلى استعداء المجتمع ضد طرف بعينه واستلابه حقوقه في ضوء حملات الشحن والاحتقان المدفوع باتجاهها حيث التضليل وتشويه الحقائق..

 

إنّ مثل هذه الأصوات الإعلامية النشاز وجملة الأمور التي تضخها ربما تعود للجهل بالحقائق التاريخية وإلى أمية وانعدام معرفة من زاوية ما.. ولكنها بشكل رئيس وأساس تعود إلى سياسات مقصودة لقوى تتسم بالفاشية وبنزعاتها لمواصلة حرب ضروس ضد الوحدة الوطنية العراقية القائمة على جوهر إنساني في العلاقات بين مكونات الشعب من جهة وعلى احترام مسيرة تاريخية مديدة  معمَّدة بآلاف سنوات التعايش..

إنَّ فلسفة السيد والعبد أو السيد وتابعه ومن ثمّ حصر ملكية الأرض بطرف على حساب الحقيقة  لا يمكنها أن تكون أساسا في العلاقة بين ما يسمى أغلبية وأقلية.. إنها عين الخراب في العلاقات الإنسانية حيث طعن المساواة  والتآخي في مقتل..

ولو دققنا في عبارة "حدودنا في خطر" وما تضمنته رسالة  جريدة الإصلاح التي أطلقتها من جملة أصوات أخرى، لوجدنا أنها تفترض - تأسيسا لمفاهيمها - الانقسام بين طرفين وكأنهما اختارا الانفصام والاحتراب على حدود بين دولتين.. فيما الواقع يتحدث أولا عن حقائق تاريخية من السهل قراءتها بوساطة المتخصصين والوثائق؛ وثانيا يصرخ هذا الواقع بوجود إنساني حقيقي على الأرض وليس في الماضي ولا في الوثائق والأوراق وهو يسمو على افتعالات سياسية مرضية تحاول محو التعددية والتنوع  وإغماض العين عنها...

من هنا يتطلع المخلصون لعراق فديرالي موحد  إلى التصدي لحملة إعلامية باتت تتمادى في طروحاتها بطريقة تعرّض الوحدة الوطنية لمخاطر مهلكة.. وهي تضع مكونات الشعب التي اختارت الاتحاد (فديراليا) بمواجهة بعضها البعض، الأمر الذي ينكأ  جراحات الماضي التراجيدي ويعمق الشروخ مثيرا أشكال اختلاف محوِّلا إياها إلى أسباب انفصام..

ومن المؤكد أن هذا لا يخدم سوى أعداء الشعب وأطيافه جميعا.. فهل ستترك الأصوات الإعلامية التي تعزف على وتر الإلغاء والإقصاء والتضليل بلا حملة إعلامية مقابلة؟ ليعلو صوت الحكمة ومنطق العقل الممثل لإرادة جناحي الشعب العراقي عربا وكوردا في خيار اتحاد كوردستان بدولة عراقية فديرالية تحترم الحقائق وليعيد الثقة ويوطدها بين الأطراف..

وفي ضوء ذلك ألا يكون مهما للحكومة الاتحادية في بغداد أن تتحول من السلبية في التعاطي مع مثل هذه الحملات الإعلامية السياسية فتتصدى لها بتوكيد كونها حكومة اتحادية  حقيقة وبشكل فعلي ملموس بالسلوك وبالأداء السياسي المجسّد للمواد الدستورية المخصوصة حيث التعبير عن حقوق الجميع بالعدل والمساواة؟

وفي ضوء ذلك؛ ألا يترتب على مؤسسات المجتمع المدني من [الأغلبية] أن تواصل جهودها علانية في توكيد مواقف الإخاء القائمة على مبدأ المساواة من جهة وعلى تعزيز فلسفة الاعتراف بالآخر وبحقوقه تامة غير منقوصة وغير مجتزأة؟

أجدني الآن أمام واجب إدانة سياسة شوفينية تجتر من الماضي تاريخ الجريمة لتعيدها من جديد.. وأمام واجب إماطة اللثام عن التضليل السياسي الذي طاول الواقع بعدوانية سافرة وهو واجب يتطلب قراءات تخصصية للتاريخ والجغرافيا والإحصاءات والوثائق وللواقع كما هو مثلما يتطلب قراءات تؤكد وحدة وطنية قائمة على إقرار التعددية والتنوع وعلى الاستجابة لمتطلبات هذا الإقرار دستوريا قانونيا ومن ذلك تطبيق الحلول الناجعة بشأن المادة 140 بلا مماطلة ولا تسويف وبما يستجيب للواقع وللحقيقة ولمصالح الشعب العراقي بعمومه وبعدالة تشمل جميع مكوناته بلا تكرار لضيم يلحق أحد تلك المكونات...

إننا أمام إشكالية ستظل تتطلع لحسم يؤكد الثقة بين أطراف العملية السياسية على  أسس الخيار الشعبي والوحدة الشعبية إنسانية الجوهر مع احترام لإرادة الخيار الحر من جهة وللحقائق التاريخية وللواقع في حاضره بما يلبي ولادة الحل الأمثل والأنضج..

وسيكون التعجيل بالحل سببا لوأد كل ما يحفر له أعداء عراق ديموقراطي فديرالي.. وهو ليس تعجيلا بعد أن تأخر عقودا من الاستلاب والطغيان وسنوات أخرى من الآلام التي ما كان لها أن تستمر لولا المماطلة والتسويف من أطراف عديدة بعضها اليوم في تشكيلة أصحاب القرار في الحكومة الاتحادية وبعضها الآخر في القوى والحركات السياسية والاجتماعية العريضة...