كوردستان: حق تقرير المصير بين الإرادتين الدولية الأممية والوطنية القومية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

(1)     حق (تقرير المصير) في (القانون الدولي)

 

حق تقرير المصير مكفول في الشرعة الدولية وقوانينها والمعاهدات والاتفاقيات التي عنيت بالموضوع؛ وهو مبدأ أساس في القانون الدولي بل تحول إلى  تعريف جديد أعمق من محدد كونه مبدأ فقط. ويمكننا اليوم عدّه (قاعدة قانونية) بالاستناد إلى مسيرة تاريخية بدأت في القرن السادس عشر. وقد تأكد هذا الحق فعليا في بيان الاستقلال الأمريكي في تموز يوليو 1776، وفي وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية عام 1789. كما أنّ ميثاق الأمم المتحدة تضمن في فقرته الثانية  المادة الأولى ما نصه أنَّ من أهداف الأمم المتحدة: "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها" وأكد الميثاق في ديباجة المادة 55 هذا الحق بالنص الآتي: "رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم المتحدة مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، .." وسنرى أن العهد الدولي بجزئه الأول مادته الأولى قد نص على عديد من الأمور المهمة بالخصوص حيث نقرأ فيه النصوص الآتية:

1. لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها. وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

2. لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي. ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة.

3. على الدول الأطراف في هذا العهد، بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسئولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية، أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.

لقد استخدِم لتوصيف حق تقرير المصير تعبير حرية الإرادة وعرِّف بأنه: "حق الشعب في أن يختار شكل الحكم الذي يرغب العيش في ظله أو السيادة التي يريد الانتماء إليها". إلا أنّ اختلافا بيِّنا قد حصل في التعاطي العملي مع هذا الحق وتفسيره بغاية غمطه وتجنب تنفيذه إمعانا في مسيرة استعمارية معروفة تاريخيا.. وهذا الأمر دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة لطلب توصيات محددة من لجنة حقوق الإنسان بالقرار 421 الصادر عام 1950 بشأن الوسائل التي تكفل ضمان حق تقرير المصير للشعوب، وكذلك أوصت، بقرارها 545 لعام 1952، بتضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة مخصوصة بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وجرى توكيد ذلك في عام 1952 بالقرار 637 الذي بات في ضوئه [حق الشعوب في تقرير المصير] شرطا جوهريا  للتمتع بالحقوق الأساس كافة.

وقد أوجب هذا التزام أعضاء الأمم المتحدة باحترام هذا الحق وتنفيذه؛ وبات الأمر يستخدم بالخصوص الاصطلاح القانوني (الحق) بدل (المبدأ) منذ العام 1957 بالقرار 1181. وفي العقد السابع من القرن العشرين صدر القرار الأممي 1514 لعام 1960 ليمثل الأساس القانوني  الذي تستند إليه  جميع حالات الاستقلال وتقرير المصير التي تلته..

ثم توالت القرارات التوكيدية الحاسمة التي أدخلت حق تقرير المصير في معجم القانون الدولي (قاعدة قانونية) راسخة  فصدر القرار 2955 عام 62 حاسما واضحا بشأن حق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال، ثم وضعت الأمم المتحدة جميع ما ورد بشأن حق تقرير المصير في قرارها 2625 لعام 1970؛ وبات كل أمر ذي صلة بهذا الحق موضوعا تحت" الإعلان العالمي لحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة والاحترام العالمي لحقوق الإنسان"    . وفي القرار 3070 عام 73 طلبت الأمم المتحدة من جميع الدول الأعضاء: أولا الاعتراف بحق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال وثانيا يالتزامها بالعمل على تحقيق هذا الهدف ودعم تطبيقه على الأرض، بمظهريه الخارجي والداخلي على التوالي من جهة تحقيق الاستقلال و\أو الاندماج في إطار دول أو كيانات بأية صيغة يقررها الشعب من دون تدخل خارجي. ومن جهة أخرى بحق أغلبية الشعب [من المجموعات القومية والدينية الصغرى] في نطاق الدولة في ممارسة السلطة وخيار نظام حكمها وطبيعة المؤسسات عندما لا يتضمن حق تقرير المصير لتلك المجموعة حق الانفصال، ما جعل القانون الدولي يفرض حقوقا تحترمها الأغلبية  وتصونها  في إطار احترام حقوق الإنسان.  وهكذا فإنَّ ممارسة حق تقرير المصير لأي شعب لا يتم اعتباطيا؛ فهو مكفول قانونيا كما أوردنا ببعديه في تحرير الشعب والأرض وفي إزالة مختلف العقبات التي تمنع الشعب من التعبيرعن إرادته بحرية، وعند ظهور أية مشكلات معرقِلة، فإنه يلزم إجراء استفتاء يمكنه أن يعكس إرادة الشعب في تقرير مصيره.

ولابد هنا من التوضيح من أنّ حق تقرير المصير المثبت في القوانين الأممية يقصد به معالجة  حالات الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي و\أو تلك الأقاليم والشعوب المشمولة بنظام الوصاية، بما لا يمس وحدة الدول ولا يتدخل بسيادتها. على ألا نغفل عن كون حق تقرير المصير يشمل كل الشعوب بلا استثناء أو تمييز سواء المستقلة منها أم غير المستقلة وفي ضوء الحدّ القانوني لمصطلح شعب وليس مبدأ القوميات، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة..

ونختم هنا بالإشارة إلى أنَّ القرار التاريخي للأمم المتحدة حسم الأمر بتعبيره الواضح غير الملبس الذي نصَّ على: "حق جميع الشعوب من دون تمييز في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على أن تتخذ خطوات مرتبة لمنح الشعوب غير المستقلة استقلالها التام، ولا يُتخذ أيّ سبب مهما كان ذريعة لتأخير ذلك، لأنَّ إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي إنَّما هو إنكار لحقوق الإنسان الأساسية ويناقض ميثاق الأمم المتحدة ويعيق السلم والتعاون الدوليين".

وفي ضوء هذا الحسم يمكننا التوكيد في  إطار العراق على حقوق جميع مكوناته في تقرير المصير بمستوييه الخارجي والداخلي على وفق المحدد القانوني لهذين المصطلحين، سواء ما يخص شعب كوردستان أم ما يخص المجموعات القومية والدينية  الأخرى.. وهذا ما سيتناوله الجزء الثاني من هذه القراءة...

 

(2)         كوردستان وحق تقرير المصير في الإجراءات الأممية والمحلية

      

قضية الكورد مثل قضايا لشعوب عديدة حاقت بها تداخلات معقدة تاريخيا وسياسيا ومزقت أشلاء الوطن اتفاقات فرضت قسرا في نطاق خطاب المنتصر في هذه الحرب أو تلك.. ومذ صراع الدولتين الفارسية العثمانية جرى  التعامل مع الكورد بمنطق الغالب والمغلوب فتم وضع الجزء الأكبر من كوردستان بوصاية الدولة العثمانية في القرن السادس عشر..

فيما تم لأول مرة الاعتراف بالقضية الكوردية بأول معاهدة دولية في العام 1920 وذلك في معاهدة سيفر، التي سرعان ما تمّ تجاوزها وإلغاء ما نصت عليه من حقوق للكورد في حكم ذاتي ومن ثمّ في الاستقلال؛ وجرى في لوزان في سنة 1923 إلغاء كل ما جاء من نصوص تكفل جانبا من حق الكورد بدولتهم في أرضهم التاريخية.. ومضت الأمور بهذه الطريقة على الرغم من سلسلة من الانتفاضات والثورات التي جرت في التاريخين القديم والحديث.. وعلى الرغم من ظهور إمارات مستقلة أو شبه مستقلة عبر هذا التاريخ..

فيما حقق الكورد لأول مرة تاريخيا بعضا من حقوقهم في  الاستجابة لإرادتهم  في الاتحاد الاختياري في إطار العراق الفديرالي بعد العام 2003.. واليوم في إطار هذه المسيرة تخضع القضية الكوردية لتجاذبات متناقضة في المنطقة.. فهناك ضيم واضح في التعاطي معهم في كل من سوريا وتركيا وإيران.. إذ لا يمتلكون في سوريا حتى الجنسية التي تفرضها القوانين الدولية حقا ملزما وهم هناك بلا حق في الملكية وفي ممارسة حياة طبيعية. وتتعقد الأمور أكثر في إيران حيث نظام قمعي ما فتئ يطارد حركة التحرر القومي الكوردية حتى  خارج الحدود الإيرانية ويمارس اعتداءات تخرق  سيادة دول مجاورة  مثلما يجتاح أراضي  إقليم كوردستان الفديرالي في العراق.. وفي تركيا تستمر ممارسة فلسفة التتريك مثلها مثل سياسة التعريب وما شابه من محاولات التذويب القومي الشوفينية..  وتسيطر بتركيا القوات المسلحة بآلتها الحربية وقوى الأمن القمعية على المدن والقرى بطريقة عنفية دموية  بما يدخل بسياسة إبادة شاملة..

وبخلاف نصوص القوانين والاتفاقات الدولية التي أوردنا جانبا منها في القسم الأول من هذه المادة تستمر متصلة ممارسات منع الكورد من حقوقهم الإنسانية المشروعة في العدل والمساواة وأبعد من ذلك منعهم من ممارسة حق تقرير المصير بكل أشكاله ومستوياته!

إنّ القضية الكوردية  ستمر بخوانق معادية للتطلعات القومية ولوجودهم بوصفهم شعبا يستحق الحياة الحرة، إذا ما بقيت حركات التحرر القومي منشطرة من جهة وبلا خطة استراتيجية تمتلك تنسيقها على الصعيد القومي؛ خطة تتجه إلى تعزيز مشهد وجود الشعب الكوردي ووحدته  بمستويات اللغة والتراث وغيرها من أركان مهمة رئيسة في تكوين شخصية الشعب وهويته.. ولابد من ثقافة سياسية قانونية تشكل الأرضية الأساس لمسيرة نوعية جديدة..

وسيكون من بين المفردات استثمار بعض المتغيرات الدولية وتطويرها وإنضاجها بطريقة مناسبة تتسق والخطة الاستراتيجية للكورد.. وعلى سبيل المثال فقد شرعت مسؤولة مكتب الشؤون الخارجية والكومنولث بالحكومة البريطانية بإجراء استفتاء بشأن رأي الكورد في التوجه نحو دولة مستقلة أو البقاء في إطر فديرالية  ضمن الدول التي تنتظم بها أجزاء كوردستان بمنطقة الشرق الأوسط، وفي هذا الاستفتاء هناك توصية بدعم خيار الدولة المستقلة على الأقل في كوردستان العراق كما يرد في نص الاستفتاء..

من الطبيعي أن نتذكر ذات الألاعيب التي استخدمتها الدول الكبرى في ممارستها وعلاقاتها منذ سيفر مرورا بلوزان وما أعقبها.. ومن الطبيعي أن نتذكر طبيعة المتغيرات الجارية في دول الشرق الأوسط وما يمكن أن تنفذ عبره تلك الدول ومخططاتها استغلالا للأوضاع ودفعا لها باتجاه مصالحها..  لكن من المؤكد أنّ أية مسيرة ستحسم لمصلحة الشعوب التي تمتلك قيادات حركة تحرر حصَّنت قرارها بخطط استراتيجية وتكتيكات مناسبة..

وسيكون مناسبا هنا التفاعل مع موضوع الاستفتاء وعدم ترك أمر نتائجه وآليات تنفيذه لجهة من شرع به.. فشعب كوردستان اليوم اختار الاتحاد في إطار عراق فديرالي مؤكدا خيار وحدة وادي الرافدين وشعوبه منذ آلاف سني وجود هذه الشعوب في كنف هذا الوطن التاريخي لها كافة بلا استثناء.. ومثل هذا الخيار لم يأت من عبث بقدر ما هو دراسة للأجواء الجيوسياسية القائمة وللتضاغطات الإقليمية والدولية وتفاعلها مع الظروف المحلية بكل جزء من أجزاء كوردستان..

والحركة الكوردية اليوم من النضج بما يملي عليها اتخاذ القرار الذي يثقف بالخيار الأمثل في هذه المرحلة وبما يستجيب لخيار فعلي اتخذه الكورد في كوردستان العراق تحديدا.. على أن خيار الاتحاد الفديرالي ليس قدرا ولا سيفا قاطعا  فلربما تولدت ظروف تتجه للكونفديرالية و\أو أي خيار آخر  يجسد إرادة شعب كوردستان.. ومن هنا فإنه ينبغي اليوم توجيه مراكز الدراسات والجامعات والبحوث العلمية والخطط والبرامج الحزبية ولمنظمات المجتمع المدني بما ينسجم  والتطورات وبما لا يترك القضية لإرادة خارجية ومصالحها بل بما يدخل في صميم المشروع الاستراتيجي كوردستانيا حيث مصالح الشعب هي التي توجه.. وإرادته هي التي تقرر..

وللتوكيد فإن فكرة الاستفتاءات  واستطلاعات الرأي العام وتوجهاته لا ينبغي أن تكون بحدود استفتاء منفرد يجري مرة وينتهي بل يمكن أخذ سياقات استطلاعية تجري دوريا مرتين سنويا  أو أكثر.. كما تجري استفتاءات مرافقة للانتخابات  تسهيلا للأداء ولجهة توفير الكلفة المادية ووقت المواطن؛ وتنصب تلك الاستفتاءات على متغيرات الخيارات على وفق تطورات الأوضاع واستجابتها للمصالح العليا للشعب ولعلاقاته وسياقات الخيارات ونتائجها في كل مرحلة..

إن مثل هذا الاتجاه لا يعبر عن ازدواجية كما تصور الأمر بعض من النخب ذات المرجعية الفكرية الشوفينية أو أولئك الذين يرون الأشياء من منظور المطلقات الثابتة غير القابلة للتغيير.. بل يعبر عن البحث المستمر في أفضل السبل للعيش الإنساني الكريم الذي يلبي الحقوق والحريات من جهة ويخلق وجودا  تحكمه علاقات إيجابية بناءة راسخة مع الآخر وتتسق وخيارات كل مرحلة تاريخية وطبيعتها..

لقد ولدت دول وانتهت أخرى وكان الأمر دائما محكوما بمنعطفات تاريخية فرضتها متغيرات الواقع. ولم يكن من بين مفردات تلك المتغيرات حالات الثأر والكره والانتقام بقدر ما نجحت مسيرة إنسانية سليمة في تقبل كل جديد والتعايش معه من منظور استجابته للمصالح العامة للشعوب..

ولربما يأتي الغد المنظور غير البعيد بشرق أوسط جديد في كينونة دوله وتركيبها وفي خيارات الشعوب؛ وهو ما سيكون أمرا طبيعيا يعكس الواقع. وكل ما على  الإنسان أن يستخلص العبر ويستفيد منها بما يجعله يختار الوسائل الأنجع للتعاطي مع المتغيرات ووضعها في خدمة مصالح الإنسان وحقوقه فرديا لكل إنسان وحق تقرير المصير جمعيا لكل شعب..