مدنية المؤسسات والنظام العام في كوردستان وقضية المرأة في خطابي التخلف والتمدن

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

ناشط في مجال حقوق الإنسان \ المرصد السومري لحقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

 

منذ انطلاقة الثورة الكوردية، كان الهدف النهائي لها هو الدفاع عن الحقوق والحريات العامة والخاصة؛ وتلبيتها عبر قنوات مؤسسية تدير تفاصيل اليوم العادي للإنسان وتستجيب لحاجاته ومطالبه.. وهكذا كان العمل دائبا على استكمال بنية مؤسسات حكومية  تحتكم لقوانين صيغت بعقول متفتحة مثلت بنات كوردستان وأبنائها...

فلقد انبثقت المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية في ضوء مسيرة من افتتاح نهج الديموقراطية والتقدم بمسيرتها بخطى ثابتة.. مع توظيف جدي فاعل لعمليات التطوير والتحديث من جهة ومشاريع الإصلاح ومعالجة ما يستجد بمجابهة مسيرة البناء والتقدم...

وفي ضوء آليات الديموقراطية التي فتحت آفاق الحريات العامة وحقوق التعبير في أجواء من احترام التعددية والتنوع، ظهرت حالات الحوار وأجواء النقاشات التي تحتكم بمنطق الدستور وقوانينه (ديموقراطية الاتجاه والجوهر).. ومن الطبيعي أن يكون الاختلاف حال صحية إيجابية تدفع بالمسيرة إلى أمام...

إلا أنّ أية مسيرة للدولة المدنية الحديثة كما تؤكد التجاريب في البلدان الديموقراطية العريقة بخبراتها، لا يمكن أن تسمح بأفكار وحركات عنصرية أو شوفينية أو شمولية من تلك التي تريد أن تفرض رؤاها قسرا على الحياة العامة.. فلعل من بين أول ما غادرته البلدان الديموقراطية وتركته وراء ظهرها في الماضي البعيد، هو نظام الحكم الديني وسطوة سلطته التي تدعي الحكم باسم الله على الأرض.. فذلكم النظام حاق بشعوب أوروبا بتضحيات دموية مهولة وأدخلها في حروب وكوارث إنسانية عصيبة قبل أ، تتخذ من النظام المدني حلا حازما. فحسمت تلك الشعوب والدول أمرها في اختيار نظام الحكم المدني وقوانيه وآليات الديموقراطية ومبادئها...

ويبدو اليوم في المجتمع الكوردستاني عدد من الأصوات التي تريد العودة بالمجتمع إلى أطر ماضوية حيث الحكم الديني. ومثل تلك الأصوات  تستغل الجوامع لإطلاق خطابها علنا ولتوسيع دائرة نشره جماهيريا.. فأصوات عدد من الخطباء باتت  تتجاوز في استغلال آليات الديموقراطية وحق التعبير لتسفر عن رؤاها المسمومة في مهاجمة مبادئ الديموقراطية والتعريض بجوهرها المتمثل في حقوق الإنسان وسعيه لتحقيق العدل والمساواة بغض النظر عن الجنس واللون والدين..

إنّ آلية عمل القوى المضادة لمسيرة الديموقراطية والمؤسسات المدنية للحكم  تتمثل في استغلال الغطاء الديني وبيوت العبادة محوِّلة إياها بدل ممارسة الطقوس الدينية إلى مقار لحملاتها السياسية ضد القوى المتنورة  المنتخبة شعبيا وضد مؤسسات الشرعية الدستورية والحكم الديموقراطي المدني!

وهي تستغل العلاقة الإيمانية للإنسان بدينه من جهة ومن جهة أخرى تعمل على استغلال تأويل  آيات النص الديني وحرفها عن معانيها الجوهرية لوضعها في تعارض مع مسيرة إقرار  الحقوق وعلى رأسها حقوق المرأة في الحياة الإنسانية الحرة الكريمة.. وأصحاب تلك الحملات الظلامية يحاولون تصوير النص الإلهي بأنه يأمر بدونية المرأة إنسانيا ومن ثمَّ تبعيتها بل عبوديتها للرجل! وهو مسعى لإشاعة أفكار الجهل وقيم التخلف الماضوية  ولتوكيد سطوتها على مجتمعنا المعاصر... بالمجمل يصورون أنفسهم ممثلين لا للنص الديني وتفسيره حسب بل وللإرادة الإلهية فيضعون كل من يقفون بحملتهم ضده بموضع التعارض مع الإلهية كما يزعمون زورا وبهتانا...

إنّ ابتزاز البسطاء من المواطنين يجري بالتهديد بغضب الله على من يخالفهم الرأي أو لمن لا يخضع لسطوتهم وتفسيراتهم المعوجة التضليلية لنصوص الآيات الدينية المقدسة.. كما باتوا اليوم يسفرون جهارا نهارا بصرخات تحريضية ضد السلطة المنتخبة وضد مبادئ الدستور والحقوق المدنية.. وهم يحاولون الآن نقل الابتزاز والتهديد باتجاه أعلى سلطة منتخبة في رئاسة الإقليم والبرلمان، في محاولة لانتزاع قرارات تبقي على المرأة الكوردستانية خانعة لقيم التخلف التي ما أنزل الله بها من سلطان وطبعا سيكون هذا أداة لسطوتهم في  مجمل الحياة العامة...

ولقد بات معروفا تحريض أئمة جوامع بالأمس القريب عندما حاولوا التصدي لتعيين كوردي متخصص وخبير بشؤون وظيفته ومناضل وطني معروف بتاريخه لمجرد كونه ليس ممن يرضى عنه الإسلام السياسي فجرى التشهير به وبدينه وانتصرت في النهاية إرادة الحياة المدنية وسيادة القانون والدستور المدني بتعيينه قائمقاما إحدى الأقضية، بعد حملة شعبية تضامنية ضد ذاك الصوت النشاز موقف رسمي شجاع.. واليوم يحاربون في قضية أوسع وأشمل؛ تلك هي المتعلقة بحقوق المرأة وصيانتها من الاستغلال والامتهان ومن مصير وضعها محتجزة في موقع اجتماعي يحكم عليها بالدونية والتبعية والعبودية...

والسؤال الآن، لا يقف عند حدود كل ممارسة مجتزأة لهذه الأصوات التحريضية المعادية للسلام الاجتماعي ولجوهر القيم المدنية الديموقراطية للمجتمع الكوردستاني الجديد.. بل القضية تكمن في الحريات الممنوحة لقوى لا تعترف بالنظام العام وقوانينه.. كما أنها تمارس أدوارا تخريبية تعرقل مسيرة التقدم وتعترض على عمليات التحديث والتطوير في  مسيرة إصلاح النظام العام.. وهي بذلك عامل تخريب وتراجع وهي قوة ردة تمثل تهديدا خطيرا إذا ما تركت تعمل بلا ضابط قانوني يحكم أنشطتهم...

إنّ كل النظم الديموقراطية تحمي نفسها بمنع استغلال أفكار العنصرية والشمولية والشوفينية والطائفية السياسية وحظر أنشطتها العامة.. فيما سيجلب استمرار فسح المجال لمثل هذه العناصر للحركة والتحريض المعادي لتحولهم في لحظة تالية إلى قوة لا تكتفي بالتهديد والابتزاز وإنما قد تنتقل للضرب بطريقة عدائية  تجاه تطلعات المجتمع والدولة المدنية...

من هنا ينبغي أن يكون واضحا، أن الديموقراطية والحريات التي تتيحها، لا يعني  بالمرة انفلات الأوضاع  ولا فسح المجال لكل من هب ودب بخاصة من حاملي ألوية التخلف ومن القوى الظلامية.. وعلى مؤسسات الدولة المدنية أن تأخذ المبادرة في حملة  شاملة تتضمن:

1.  مراجعة قوائم أئمة الجوامع وإلزامهم بدورات ودراسات ذات شهادات تأهيلية تمر بقنوات المعاهد والجامعات  معلومة البرامج والمناهج وجوهر المعالجات وفلسفتها...

2.  حظر خطاب التحريض ضد الدستور المدني والقوانين الدستورية التي تكفل الحقوق والحريات العامة والخاصة.. وعدّ ذلك جريمة يحاسب عليها القانون، وهي كذلك الآن ولكن ينبغي تفعيل الإجراءات القانونية الملزمة بالخصوص..

3.  حملة إعلامية شاملة تتحدث عن طبيعة الخطابين الديني والمدني في الحياة العامة وفي الفصل بين الخطابين قانونا لأداء المؤسسات العامة للدولة..

4.  إيجاد البرامج الكفيلة بالرد على التأويلات والتخرصات المنتمية لفكر التخلف والظلام لا إلى الدين والتعريف بحقيقة النص الديني ومخاطر التأويلات التضليلية..

5.  تنشيط أدوار الشبيبة والنساء في برامج مخصوصة للتوعية والتثقيف بالقيم الإنسانية الجديدة والمعاصرة تلك التي تحقق المساواة والتكافؤ والعدل بين الجنسين..

6.  تفعيل الممارسات والأنشطة التي تعلي من قيم التمدن والتحضر في الحياة العامة بدءا من المدرسة ومرورا بتفاصيل الأعمال المؤسسات المهنية الوظيفية المختلفة  كالجامعات والمعامل والحقول..

ويبقى الأمر مرهونا بتقدير حجم التجاوز من جهة ومستوى التهديد الجاري على وفق دراسات دقيقة تنهض بها جهات مسؤولة في نطاق الأجهزة التنفيذية والتشريعية للدولة، مع الرد الحازم على وسائل الابتزاز بوسائل مدنية وبرامج متحضرة تتناسب والمنتظر المؤمل واقعيا، مع تعزيز خطاب الديموقراطية وأنشطة قواه الاجتماعية وركنها الرئيس ممثلا بنصف المجتمع \ المرأة  بكل ما حفلت جهودها من عطاء إنتاجي ونضالي ثرّ...