الربيع العربي وتطلعات جدية في نهج احترام التنوع القومي والديني

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

انتصارات إرادة الشعوب في المنطقة تواصل تقدمها لتشمل بلدانا جديدة. وتدخل في مراحل نوعية تتضمن حسم معركة تطهير المؤسسات وإعلان الدساتير الوطنية الجديدة واستكمال بناء مؤسسات الديموقراطية الوليدة.. 

وفي إطار المتغيرات التي تتطلع إليها جماهير عديد من هذه البلدان، تلك التي تنظر إلى ما ساد من سياسة تمييز عنصرية وشوفينية تجاه مجموعات قومية ودينية عاشت آلاف السنوات في أرضها حتى باتت اليوم مما يدعى بـ((الأقليات)) استصغارا واستحقارا..!!

ونتيجة دهر من القهر، تحول جزء من آثار تلك السياسات الرسمية التي همَّشت ما أسموه بالأقليات، ليكون مفردة من سلبيات سادت في الثقافة العامة على أساس من زرع الاختلاف والتنافر واستنبات كل ما يفعِّل روح الاستعلاء  ودعم الموقف الرسمي في فلسفته المرضية المعادية لحقوق هذه المجموعات في الحياة الحرة الكريمة..

ولأنّ تلك السياسة الشوفينية الاستعلائية صارت اليوم من الماضي البغيض، فقد رفضتها الديموقراطيات الحديثة وقوانينها مثلما تمّ تثبيت مبادئ العدل والإنصاف في القوانين الدولية  كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي وثائق المنظمة الأممية.. وصرنا اليوم نستند إلى أسس قانونية في دعوات الانعتاق من أشكال التمييز والفصل العنصري والنظرات الشوفينية البغيضة..

اليوم يضاف أساس آخر للدعوة لانعتاق المجموعات القومية  والدينية من النظرة الدونية للنظام الرسمي الذي يغادرنا.. ذلك الأساس المضاف يقوم على مشاركة متينة قوية ورئيسة في الثورات الشعبية التي سميّت ثورات الربيع العربي..

فالكورد في سوريا هم مكوّن مهم في ثورة الشعب السوري ومثلهم الآراميون السريان، والأقباط في مصر هم مكوّن رئيس في ثورة الشعب المصري ومثلهم النوبيون.. والأمازيغ هم فصيل رئيس في ثورتي ليبيا وتونس ومثلهم الأزواد الطوارق وستتعدد الإشارات الواضحة الملموسة إلى المجموعات القومية والدينية في إطار البلدان التي ثارت وتثور من أجل الحرية والديموقراطية..

وفي جميع الأحوال فإنّ الحاضن الحقيقي المعبر عن التغيير الذي أرادته  شعوب المنطقة، يكمن في دستور  ديموقراطي يضمن احترام التعددية والتنوع ويحميهما في إطار دولة مدنية ديموقراطية لا تسمح للعنصرية والتمييز العرقي الديني القومي بالعودة إلى المشهد مجددا...

ولا يمكن لبنات وأبناء هذه المجموعات أن يقبلوا أشكال الاستهانة والذل وتمييزهما على أيّ أساس قام.. كما لا يمكن لكلمات معسولة وسياسات مراوغة أن تمرر مطلب تثبيت احترام التعددية والتنوع فتهمل تثبيته في الدستور الجديد إذ لابد من أن يكون هذا الحق يمتلك سموّه المخصوص كما جرى ويجري في كل الدساتير المدنية الديموقراطية المعاصرة..

إنّ الاتجاه الوحيد الذي يحترم حقوق الإنسان ويحرر المجتمع من أشكال التمييز يكمن في امتياح الدساتير الوطنية المنتظرة من القوانين الدولية  للديموقراطيات الحديثة الموجودة ببلدان عريقة في مسيرة العدل والمساواة وفي احترامها أسس مجتمعات التنوع كالبلدان الأوروبية وما صاغته من قوانين بخبرات بشرية عريقة في معالجة مثل هذه القضايا...

ومن دون الالتفات إلى احترام التنوع في المجتمعات الوطنية وإعلاء قيم المساواة والانعتاق من التمييز، لا يمكن أن نقول: إنّ الثورات دخلت ربيع التغيير الحقيقي وانتصرت لإرادته.. لأننا سنجابه مجددا أشكال الاستغلال والاعتداء على حقوق الإنسان وسنعيد فلسفة النظام المنهار وإن بتلوينات جديدة..

بعبارة أخرى: فإنّ على من يمثلون ((الأغلبية العددية)) أن يدركوا أن لا تحرر لهم وهم يستعبدون الآخر المسمى ظلما ((الأقلية)).. لأنهم سيكونوا عبيد فلسفة التمييز والاعتداء على حقوق ثابتة لبشر مثلهم...والديموقراطية بجوهرها لا تقف عند ما يسمى بحكم الأغلبية بل هي بوجهها الأعمق والأنصع لا تكون قائمة إلا على أساس احترام وجود ((الأقليات)) وضمان حقوقهم في المساواة والعدل ومنع تهميشهم والاعتداء عليهم وربما إلغاء أدوارهم بمسمى استبداد الأغلبية..

طبعا سيتبع هذا أن نتحدث عن دولة مدنية وعن دولة المواطنة وعن مجموعات قومية ودينية وليس عن مسمى أقليات وسيكون استخدام مصطلح أقلية متروكا لصالح ما اتخذته القرارات الأممية من تسميات تعبر عن جوهر إنساني  ديموقراطي يحترم المساواة ويعلي من قيم التحرر والعدالة...

وأجدني هنا أؤكد على أهمية أن تتشكل مجالس التنسيق في مسيرات الانتفاضات والثورات الجارية اليوم على أسس تمثل بداية التغيير من أجل تعميده في الغد القريب، لحظة الانتصار،  دستوريا.. كما أن أي توجه نحو صياغات قانونية جوهرية يلزم أن تشترك فيه قوى التنوع الاجتماعي الأوسع لأنها عامل حسم لاحترام التنوع القومي الديني المذهبي.. والقصد هنا ألا يبقى المجتمع يسير أعرجا على أساس مظاهر المجتمع الذكوري الأحادي الذي يقمع تشكل المجتمع الإنساني تعدديا من نساء ورجال .. و أي مجتمع يقمع نصفه سيقمع المكونات التي يستغل كينونتها العددية النسبية الصغيرة.

إنّ فكر التنوع والتعددية سيتسع لكل أشكال هذا الوجود الإنساني بأسسه المتسعة لتلويناته وتكويناته..ومن هنا فإن التغيير الذي نطالب أن يبدأ من الدستور ومن استكمال بناء مؤسساته التي ينضوي فيها الجميع على أسس المساواة، نواصل مطالبنا للتغيير الأعمق بتشكيل مؤسسات الثقافة الوطنية المتسعة للتنوع الثقافي مثلما نطالب المدرسة وأجهزة التعليم ومكتباتها والجامعات ومراكز البحوث أن تتصدى للقضية بوضوح وجرأة علمية كيما تضع الحلول الملموسة والمناسبة المباشرة والاستراتيجية البعيدة موضع العمل الملموس...

من جهة مقابلة فإن ضمانة استمرار نهج التغيير ستعتمد على مشاركة فاعلة من هذا الطيف القومي والديني بوصفه وجودا إنسانيا سليما مشاركا غير معطل وغير مسلوب الإرادة وغير مصادر في جهوده بل فاعلا في عملية البناء ومسيرة التقدم.. وهذه الضمانة هي ركن رئيس في مشهد إقامة الديموقراطية في كل بلد وفي المنطقة وربيعها الشعبي الذي لا يقف عند العرب حسب بل يتسع لجميع أبناء بلدان المنطقة ممن ظلوا طوال قرون مهضومي الحقوق ومغيبين مصادرين وحان اليوم أوان ارتفاع أصوات العدل والإنصاف والمساواة والحريات الديموقراطية بحق..

ومن ينبغي أن يتبنى مطالب هذه المكونات الشعبية المهمة هم من بقي معهم مسمى الأغلبية العددية فإن جاء لهم ربيع عربي فلن يكتمل وهم يواصلون نهجا رسميا انهار و ولى بفعل ثورة شارك فيها الجميع أفعالا ونضالات وتضحيات.. علينا أن نطلق الصوت عاليا أن التغيير سيبدأ من احترام أصغر المكونات عددا ومن رفض أشكال التهميش والمصادرة ومن توكيد حقوق المواطنة والمساواة تامة غير منقوصة في كل أنشطة الدولة والمجتمع..

لحظتها سيكون الربيع حقيقيا كما ربيع الطبيعة يجفل بالأزهار من كل لون ورائحة وشكل؛ سيكون الربيع الشعبي للمنطقة يحفل بكل الأطياف والمكونات والمجموعات الإنسانية  بهوياتها  المخصوصة وبوجودها في الإطار الوطني فاعلة حرة تمتلك إرادة القرار والفعل... وربيعنا العربي يكتمل بربيع الكورد والسريان والأقباط والنوبيين والأمازيغ والأزواد وكل المجموعات التي تشكل فسيفساء وجودنا المعاصر...