المشاغلة والتعمية آلية للتعتيم على سياسة الانفراد بالسلطة والدكتاتورية؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

دفعت رئاسة الحكومة الاتحادية ببغداد بأصوات إعلامية وتصريحات حزبية محتدة ضد ما قاله السيد رئيس إقليم كوردستان الأستاذ مسعود البارزاني بشأن تنصل كتلة بعينها عن اتفاقات أربيل.. ومن المعروف أن ما صرّح به  تضمن التوكيد على أن الممارسة الفعلية  التي تتحكم بإدارة الحكومة الاتحادية في بغداد تشير إلى تنصل من جملة من بنود الاتفاق بل تشير في بعض مفاصلها إلى تنصل من مواد دستورية تحديدا منها على سبيل المثال المادة 140...

وفي الحقيقة، فإنّ الإشكالية الجوهرية ما عادت تتمثل بتنصل  كتلة دولة القانون  وشخص السيد رئيس مجلس الوزراء عن تلك الاتفاقات وعن الالتزامات الدستورية حسب بل بات الوضع ينذر بانفراد مشهود في إدارة الحكومة وأعمالها وتكوّن لرئاسة الحكومة الاتحادية ما يفوق حجم مكتب مساعد (لدولة رئيس الوزراء!) حيث بات هذا المكتب بديلا لمجلس الوزراء وانفرد رئيس المجلس بالقرار بما صار يملك من أدوات  مؤسساتية بخاصة أمنية عسكرية..

ولم  يتم الاكتفاء بهذا بل حصر طوال المدة المنصرمة من سنوات وأشهر طوال مسؤوليات عدد من أهم الوزارات بيده وسلطته المباشرة.. وهكذا  جرى تمرير تغييرات هيكلية وتنفيذ برامج جوهرية في الوزارات الأمنية وإجراء حركات غير مبررة أدى بعضها لإشكالات خطيرة منها حالات الانفلات الأمني والمخاطر المهلكة التي تعرض لها المواطنون طوال تلك المدة..!؟

إنَّ مجرد مرور كل هذه المدة الزمنية من دون الإيفاء بالخطوات التالية من الاتفاقات، ينسحب مباشرة على الالتزامات بل الإجراءات التالية التي ينبغي اتخاذها  لوقف التداعيات في الأجواء العامة في البلاد.. فالقضية لا تتعلق بمسؤولية عادية أو ثانوية بل بأعلى مسؤولية في العراق الفديرالي وهو ما يعرض البلاد والعباد لكوارث وهي بالفعل جارية في أرض الواقع..

إذ لم يستطع برنامج السيد المالكي أن يخطو بالأوضاع أية خطوة إلى أمام بل جابه كل من حاول تعديل الأمور بالإهمال وعدم الإنصات له فيما جابه المنتقدين من الحريصين على تفعيل العملية السياسية وتجاوز كبواتها بالصد وفي بعض الأحيان تمت تصفية الخصوم بالكواتم من دون التعرف إلى الجناة!؟ وانتهت التحقيقات الشكلية للحفظ وعدم التوصل للجناة ما ربما يؤشر تشخيصا نوعيا خطيرا، يجب حسم الإجابة عنه عاجلا...

كما أن بعض المناطق (مثلا جلولاء والسعدية وبعض مناطق كركوك) تعرضت لجرائم عنصرية وإعادة مهاجمة مواطنين أبرياء على هويتهم (كونهم كوردا) في محاولة لترحيلهم من أماكن إقامتهم التي ولدوا وعاشوا فيها. ومثل هذا جرى بغطاء و\أو بوجود قوات تتبع السيد المالكي شخصيا ومباشرة.. وعرض مشاريع قوانين على البرلمان بطريقة التصيّد (مثل قضية قانون النفط والغاز) لتمريرها بما يعرض وحدة البلاد لهزات خطيرة حيث لا يؤخذ بمعالجات الخبراء والعقول العراقية الوطنية ولا الحلفاء في إطار الشراكة الوطنية التي تمّ ركنها وتحويلها لمشاركة شكلية في الحكومة الاتحادية...!!؟

مؤشرات عديدة هي في الحقيقة جوهر يمثل خلفية الهجمات الإعلامية والتصريحات السياسية لعدد ممن يدور في فلك السيد رئيس مجلس الوزراء  تعرضت لخطاب السيد البارزاني ووصفته بالطريقة التي تحلو لها في محاولة لإثارة مشاغلات للتعمية على الأوضاع والتعتيم على برمجة صارت تهدد مجمل الوضع العراقي في صميم  وجوده الجديد المعتمد على  الأساس الفديرالي في الأداء والمسيرة...

إن القضية ليست كما تصف بعض الأصوات القاصرة عن إدراك مسارنا الفعلي أو التي تتقصد التعتيم والتضليل، بل هي أبعد من رؤية ما يعود لحصة مجموعة قومية تمثل أحد شريكين في العراق الجديد، إنها قضية تطورات تنذر بولادة انفراد بالسلطة وتمكين الأحادية التي تقمع في النهاية الصوت الشعبي بآلية الدكتاتورية من جديد ولكن هذه المرة ستكون دكتاتورية مقنَّعة بالغطاء الديني وبالمقدس فيما جوهرها نهب البلاد وتحويل مواطنيها لقطيع عبيد يصلّون في محاريب الفاسدين وفتات ما يقدمونه!!

لا يجب لعاقل أن ينطلق من موقف الحساسيات غير المبررة والقائمة على استدعاء ماض مريض كما تريد سياسة الطائفيون السياسيون؛ بل ينبغي التقدم باتجاه علاقة جديدة تقوم على المساواة بين طرفي المعادلة الوطنية تكوينا للعراق الفديرالي الجديد.. كما ينبغي للعاقل أن يحكم على الأمور بما يجري فعليا من تراجع بمسيرة العملية السياسية ووضعها في خانق منطقة الصفر حيث زمن الدكتاتورية البغيض...

ولقد أثببت التجربة أنّ الدكتاتورية المهزومة  للنظام السابق لم تأت مرة واحدة وبالانقلاب حسب بل تنامت تدريجا وبعد أن كانت في البدء أقرت كثيرا من  الاتفاقات والتحالفات عادت بعد تمكنها من أدوات التحكم بالشارع لتنقلب على كل شيء  حتى صارت الوحيدة المتحكمة بكل العراق بحمامات دم ضد كل ثورة وطنية مثلما جرى مع الشعب في غربه وجنوبه حيث المقابر الجماعية وفي  كوردستان حيث محو آلاف القرى والمدن ودفن عشرات الآلاف أحياء في مقابر مجهولة..

لا يجب الصمت على  مثل هذه السياسة فإنها لا تؤدي إلا للانفراد بالسلطة وستعود تمثيلية انتخابات أحادية يساق فيها الناس لبيعة (القائد) الجديد البديل للدكتاتور المهزوم مع توزيع بضع صلاحيات على أدوات طغيان هنا وهناك .. فهل يوجد من يقبل بهذه اللعبة الخطرة؟

إن ترحيل جوهر المشكلة وصبها في خانة الاختلاف المفتعل مع الكورد وقياداتهم هو فوق كونه تضليلا  يمثل محاولة للإمعان في  سياسة التسلط والطغيان الذي عبرت عنه قوى (أمن تتبع مباشرة وبأمرة تامة للسيد رئيس مجلس الوزراء) بقمع التظاهرات الشعبية بمختلف أعمال البلطجة والاغتيال وحتى الاعتداءات القذرة والتحرش الجنسي الوسخ في الميادين  المنتفضة على النسوة المشاركات وإشاعة الرعب في الحياة العامة .. ومن يعتقد أن ممالأة موقف الاستعداء من الكورد صحيحا فإنّ عليه إدارك إلى أين تسير أعمال الاستعداء جوهريا بالعراق برمته...

يلزمنا أولا أن نتمعن في خطاب القيادات الكوردستانية  وألا نقبل وضعها طرف خلاف بل أن ندرك أهمية وجودها طرفا للحل ومن ثمّ في تلبية الحقوق والالتزامات في عراق فديرالي، في عراق  ينبغي أن يتقدم نحو تعميد آليات الديموقراطية بديلا عن عنتريات وأضاليل تمثل مقدمة متسارعة لإقامة الدكتاتورية بنظامها الطائفي السياسي الذي يتستر بالدين.. وفي اللعبة تبادل أدوار لكل القوى الطائفية المتحكمة بالمشهد حتى عندما تتقرب من الناس ومن مطالبهم زورا وبهتانا... وفيها تعقيدات كثيرة لكنها في النهاية ليست أبعد من لعبة السطو على السلطة في بلاد بدلا من أن تتجه نحو الديموقراطية ستقع في حبائل الطغيان والدكتاتورية.. فهل هذه المشاغلة وأعمال التضليل باحترابات مفتعلة وجرّ الناس للاعتقاد أن الكورد طرف لمشكلة لا طرفا للحل، هل هذه المشاغلة يمكنها أن تمر بلا موقف حازم يحسم تداعياتها؟؟؟