العلاقات والتحالفات السياسية في العراق

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

برهنت السنوات المنصرمة جملة من الحقائق التي بات مهمّاََ التوقف عندها باهتمام استثنائي يرتقي لمستوى المخاطر ولتهديداتها التي يمكن أن تنجم عن إهمالها أو إغفالها. وأول تلك الأمور تتمثل في أن سياسة الأحزاب التي اعتمدت على فلسفة الكهنوت السياسي وآلية التقية قد زحفت تدريجا باتجاه احتلال أغلب مفاصل الحكومة والانفراد بالقرار العام بطريقة استبعدت أسس الشراكة الوطنية وألغت أي اعتبار للوحدة الوطنية بجوهرها التعددي الذي يعترف بالتنوع وبمرجعية تحترم جميع أطراف العملية السياسية...

ولقد برهنت التجاريب على أنّ نهج الاستبداد عادة ما يبدأ بقمع حريات التعبير، في منطقة من البلاد، مع قوة سياسية معينة وحالما يتمكن منها، يوسع دائرة استبداده ويحولها لشمولية لا تبقي ولا تذر... وطبعا المستهدف اليوم هو رأس القوى الديموقراطية والليبرالية وكل القوى الوطنية وجماهيرها التي لا توافق على نهج المحاصصة الطائفي من تلك الفاعلة في ميدان المحافظات العراقية غير إقليم كوردستان..

ولابد هنا من تشخيص ما يجري في هذه المرحلة بدقة، فمن الأمور ما يجري في نطاق التحالفات القائمة باستهداف الشخصيات العلمانية في القوائم المتحالفة، ومحاصرتها أو تثبيط فاعليتها ومنع إمكان وصولها إلى الجمهور وتأثيرها عليه.. ونذكر هنا أن تلك العناصر موجودة في جميع الكتل الحاكمة ولكنها المغيَّبة عن توجيه القرار بإطار كتلها. ويرافق الحرب الشعواء على تلك العناصر الإيجابية حملات تشويش وتشويه تضليلية تتابع المهمة لصالح قوى الانفراد بسلطة مركزية مقيتة وحتى استصدار قرارات قضائية بحق بعضهم و\أو تصفيتهم جسديا.

ومن الامتدادات الأخرى أو الوجه الآخر لسياسة أحزاب الحكومة ببغداد وقياداتها أنها اتبعت سياسة ممنهجة في مطاردة القوى الليبرالية والديموقراطية واليسارية ومحاصرتها.. ودفعت بكل قواها لقمع وحشي لأي شكل من أشكال التعبير.. دع عنك الحرب والتصفيات التي طاولت العناصر التي أفلتت من فلك الفساد والطائفية السياسية الأمر الذي بات  جليا بما لا يحتاج لأمثلة بسبب كثرتها وانفضاحها..

إنّ الخطوة التالية لهذه السياسة لن تكون سوى الكورد في معقلهم بكوردستان..ولحظتها ستتعاور على المهمة لا القوى الطائفية المتحكمة ببغداد بل معها قوى إقليمية جاهزة لعمليات انتقامية وأخرى مبررة بمشكلات حدودية أو تجاوزات مفتعلة  يكون الرأس الكوردي متهما بها ولكن لن يستثنى من الاتهام أية قوة كوردية بل ستستباح كوردستان [من دول مجاورة] باجتياحات مبررة تحمل معها كل الذرائع  والحجج لتمرير الجريمة.. وسيشارك في هذا الحفل الدموي جميع المخدوعين والمضللين بسبب التساهل مع تداعيات الأمور حاليا وتطوراتها.

إنّ وجود النموذج الكوردستاني الناجح في مسيرة البناء لا يروق لتلك القوى لأنه يظل في النهاية شاخصا لدور الدولة المدنية في البناء والتقدم وخدمة المواطنين.. بخلاف نهج الكهنوت السياسي وبرامجه وجوهرها في الفساد وفي الإرهاب بأشكاله. مشيرين هنا إلى عناصر باتت تتحكم بأحزابها وليس إلى الأحزاب والحركات التي يمكن جذبها للمشروع الوطني...

قد يردّ أحدهم أنه ليس من خيار غير طريق حكومة الشراكة والوحدة الوطنية. وهذا صحيح، ولكنه يبقى أولا بحاجة لمأسسة العمل [جعله مؤسساتيا] ومنع تسلط أفراد وفلسفاتهم ونزعاتهم للطغيان وأيضا بحاجة لحماية تتمثل في تطبيع المسيرة عبر رفض سياسة القمع ومنع الانحدار نحو الانفراد بالسلطة الاتحادية.

أما كيف يأتي هذا فلابد من إعادة نظر بطبيعة التحالفات فمن جهة سيبقى صائبا الاستمرار بتفعيل حال الشراكة الوطنية بين مكونات الشعب ولكن من الجهة الأخرى يلزم امتلاك سلاح تحالفات شعبية تقوم على أسس نوعية مختلفة.. صحيح أن القوى الليبرالية والديموقراطية ليست في دائرة الحكم والقرار ولكنها تمتلك شعبية كبيرة جاهزة في أية لحظة للفعل...

إنّ الأمور لا تقاس بمن يتحكم بالمشهد ولا بمن يمتلك مسؤولية رئاسة أو أخرى أو سلطة القرار الحكومي اليوم بل بالقاعدة الشعبية الجماهيرية المحسوبة معه حتى منها هنا تلك التي دخلت في التصويت لمن استغل شعارات تنتمي للقوى العلمانية وفلسفتها لا لقوى الطائفية ومستهدفاتها الحقيقية كدولة القانون والمواطن والمؤسسات وما شابه.. وها هي تلك الجماهير تكتشف بُعد قوى الكهنوت السياسي عن تلك الشعارات وعدم تنفيذها أي مطلب شعبي لا الخدمي منه ولا غيره؟ ما يجعل هذه القوى تحسب حيث وجودها الطبيعي في جماهيرية الليبراليين والديموقراطيين ومجموع القوى المدنية الوحيدة التي يمكنها أن تلبي مطالب الشعب بحق...

ربما سيكون مطلوبا مواصلة مشوار الدبلوماسية في العلاقات على المستوى الحكومي وسيبقى واجبا مواصلة التحالف الحكومي وتلك من دواعي متابعة مُلزِمة في مستوى الأداء المؤسسي الذي لابد من وجوده. بمعنى مواصلة التحالف الحكومي القائم. لكن الجديد في المرحلة هو الحاجة الماسة والضرورة التي إذا تلكأت ستودي بالأوضاع إلى كوارث  تريدها العناصر المتشددة في أحزاب الكهنوت السياسي الطائفية...

والضرورة هنا تكمن في  تفعيل التحالف الاستراتيجي بين حركة التحرر الكوردية والقوى الديموقراطية والليبرالية في العراق.. ويمكن لهذا التحالف أن يكون سندا قويا لمنع تداعيات الأمور نحو الأسوأ بخاصة بشان  الحرب القمعية ضد حرية التعبير كونها المقدمة لا للانفراد بالسلطة بل المقدمة لدكتاتورية تشكل الأداة لقمع  كل منجزات إقليم كوردستان والالتفاف على الفديرالية بعد الانتهاء من رأس الديموقراطيين والديموقراطية...

إن تهديدات اليوم باتت تتعاظم حتى في داخل إقليم كوردستان من جانب قوى [الإسلام السياسي] وهي في جوهرها الحاضن الحقيقي للكهنوت السياسي وفلسفته في العنف والدموية ومعاداة الدولة المدنية وتطلعات الشعب في الديموقراطية.. ومهمة التصدي لهذا التهديد الأخطر تتمثل في الحلف مع القوى الديموقراطية واليسارية قوى المدنية والعلمانية حيث الالتحام بالشعب.

و لا يمكن أن يكون التحالف مع قوى الطائفية وعناصرها المريضة ببرامجها وتداعياتها أساسا مكينا لمستقبل العراق الفديرالي الديموقراطي بل هذه القوى هي أساس تخريب هذا المستقبل ولا يمكن للفديرالية أن تمضي في مسيرة التقدم من دون الديموقراطية في العراق... من هنا وجب الحذر والانتباه للعبة الخطرة لتلك الشخصيات أو الزعامات التي ربما وجد أحدهم شكلا من العلاقة معها لكنها على مستوى مؤسسي هي عناصر الخديعة للجريمة المخبأة ولطالما قهقه الطغاة من طيبة القوى الشعبية التحررية ولكن في لحظة يكون الأوان قد فات لاكتشاف طبيعة تلك القهقهة الحرباوية..

إن حكمة الحديث الشريف الذي يقول: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين لا يمكنها إلا أن تبقى في الذاكرة الحية.. ولا يمكن لنا أن نقبل إعادة إنتاج الطغيان مجددا..

إن المنتظر اليوم هو عقد مؤتمر وطني للقوى المدنية والديموقراطية بأرض كوردستان لتحول الخريف والشتاء القابلين إلى ربيع عراقي يحيا بجناحي البلاد الممثلين للقوي الشعبية وتطلعاتها بحق.. فهل سينعقد هذا المؤتمر بدعوة ترتقي لمستوى المسؤولية في تياري الحركة الديموقراطية والليبرالية والحركة التحررية الكوردية؟ أم أن تأخرا أو تلكؤا سيوقعهما في شراك ما يحاك لهما من مصائد الجريمة؟

ثقتي أن قيادات الحركة الديموقراطية بتوجهها لإعلان التيار الديموقراطي الموحد قد مهدت الطريق لهذا المؤتمر حيث وضوح الحليف وقياداته وبرامجه وثقتي أيضا أن القيادة الكوردستانية تعي ما يجري بدقة وتعرف الاتجاه الصحيح وهي من الثقل ما يمكنها من لعب الدور المناسب لتعديل مسارات العملية السياسية عراقيا وضمان الاتجاه نحو استكمال المسيرة بصواب. ولعلنا سنلتقي ليس بعيدا تحضيرا لانعقاد هذا المؤتمر الوطني الديموقراطي المؤمل...