في اليوم العالمي للتسامح

 من أجل الاستقرار والسلم الأهليين لشعوبنا وبين بلداننا كافة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

يتأسس التسامح على الاعتراف بالآخر واحترام وجوده على أساس من المساواة والعدل، والتفاعل إيجابا مع حقوقه وحاجاته، وفي ضوء ذلك فإن التسامح  يمثل فلسفة تقوم على قبول التعددية والتنوع في الثقافات وفي الهويات التي تميّز المجموعات البشرية قوميا أثنيا عرقيا دينيا مذهبيا واجتماعيا وفكريا سياسيا وبكل تلك الصفات التي تمثل بصمات الإنسان فردا أو جماعة، الأمر الذي يتطلب حظرا لأشكال التمييز على أي من تلكم الأسس وتجاوزا أو ظلما يقع من طرف على آخر لأي سبب مما ورد هنا...

إنّ ممارسة التسامح يشكل الأساس لإشاعة ثقافة السلام ومحو ثقافة العنف والحرب والعدوان.. وهي لا تنحصر بكونها سمة أخلاقية سلوكية بل التزاما سياسيا وقانونيا بات واجبا يفرضه القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقات الدولية الملحقة به كما في إعلان اليوم العالمي للتسامح وما تضمنه من قيم مجسدة بصيغة قانونية...

على أن التسامح المطلوب لا يعني البتة التنازل عن الحقوق؛ أو الخنوع لقوة أو سلطة أو طرف أو آخر يمارس تجاوزا أو اعتداء على طرف.. وقد يمتد إلى ممارسته حتى مع المتعصب لكن بحدود لا تقبل تهديد الاستقرار والسلم الأهليين.. ومن ممارسات التسامح ما يعبّر عن الأنشطة والمعايير أو القيم التي تؤكد حظر أشكال التمييز العنصري، العرقي، القومي والديني. وبالتقاطع مع هذا يستخدم مصطلح "التعصب" للتعبير عن التمييز في المجالات المحظورة.

إنّ أول ظهور لمصطلح "التسامح" كان في إطار محاولات تجاوز الأزمة التي دخلت البشرية فيها بسبب من حروب الطائفية وآلتها الجهنمية الطاحنة في القرون الوسطى، ولاحقا توطدت في تجاريب إنسانية مهمة ربما كان من بين آخرها  ما جرى في جنوب أفريقيا..  وما مورس مع الجماعات والأحزاب السياسية في ذلك الإطار.

وبين ممارسة التسامح وعدّه تساهلا غير مقبول يثور الجدل بشأن حدود المفهوم والممارسة وسقفها في كل حالة بعينها.. حتى أننا أحيانا نجد أن من يقبل بفلسفة التسامح على مضض قد يعدّ ما يتسامح معه بتقنين وبأسقف ومحددات فوقية، أمرا شاذا ربما يستحق المعاقبة أو وضع المسافات الحاجزة معه على الرغم من (تجرعه) فكرة التسامح بحدود ضيقة، وكأنّه يتفضل بعفو مما يعتقد أنه حق يملكه!  ومن هنا دفع بعضهم باتجاه الرؤية التي تمارس مفاهيم التحضر أو التمدن وقبول التعددية والتنوع بأوسع مساحة رفضا للتحديد والأسقف الخجلى بل الباحثة عن ذرائع للتمييز وإجازة التعصب  أو أيّ شكل له...

إن التسامح هنا في حقيقته هو الأساس المكين لما تفرضه حقوق الإنسان وحقيقة تعددية البصمات الخاصة للهويات الشخصية والجمعية إنسانيا، أي أنه أساس مبدأ التعددية والقبول بها بل تعميدها والعمل على أساس لا الاكتفاء بالاعتراف بالتعددية والتنوع حسب بل احترامها والتعايش مع متطلباتها وفروضها فعليا.. مثلا تنفيذ مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وممارسته حياتيا، ومثلا إنهاء سلطة الاستبداد والطغيان والتمييز والقمع وإحلال مبادئ احترام حقوق الغير في ممارسة ثقافاتهم وهوياتهم وما تتوافر عليه من مفردات وطبائع.

 وهكذا فعلى مستوى الدول ينبغي لها المصادقة على الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تنص على الحقوق والحاجات والمطالب الإنسانية كاملة تامة.. وعليها أن تسن التشريعات الملائمة لحظر التجاوز والاعتداء والقمع. كما عليها التمسك بمبادئ التعايش السلمي مع الجيران وألا تهدد السلم الدولي وأن ترعى حال التفاهم والصداقة بين الشعوب وأن تجنّب العالم مصادر الهزات الراديكالية والحروب..

من جهة تالية فإنّ التداخل الاقتصاسياسي بين بلدان العالم ومناطقها الاقتصادية وتحالفاتها السياسية قد أوجد الميادين التي ربما إذا لم يتم ضبطها ولّدت احتكاكات واحترابات غير مبررة.. مثلا نشوء جاليات مهاجرة في بعض البلدان التي باتت تجابه أزمات ما ووفرت فرصا لظهور التمييز ومعاداة الأجانب ومشاعر الكراهية، فكل هذا يتطلب من الدول قرارات حازمة باتجاه إشاعة فلسفة التسامح وقوانيها...

على أن التسامح يبقى منطلقه تربوي نفسي يتأصل في الأنفس من المراحل التعليمية الأولى ومن داخل الأسر والعوائل.. الأمر الذي يتطلب تنشيط الفعاليات الثقافية المناسبة تفعيلا لهذه الفلسفة الإنسانية التي تعود لتحضر الإنسان وتمدنه.. ولابد هنا من عناية جدية بالعلاقات البشرية من أولها وأكثرها تفصيلا حتى آخرها وأكثرها تعقيدا اي من الأحوال الفردية الشخصية والعائلية مرورا بالتجمعات من مدارس وجامعات ومعاهد وإلى المجموعات القومية والشعوب والدول...

فإذا تعرف الفرد إلى حقوقه وواجباته، عبر مناهج التعليم المدرسية والجامعية أوجدنا فرصا أكبر للتسامح.. وإذا ركزنا بحوثنا النفسية والاجتماعية والسياسية على أسباب سلوكيات العنف والعداء وأشكال الاحتراب وتوصلنا إلى أفضل السبل الكفيلة بمعالجتها وسبل حلّ النزاعات فتحنا آفاقا أخرى لممارسة التسامح سلوكا شخصيا جمعيا...

وإنه بإمكاننا تحقيق هذه الممارسة عبر المنتديات والحركات والجمعيات والروابط الحقوقية منها والثقافية والتربوية وعبر المؤسسات التعليمية بمناهجها الدراسية وتدريسييها وإداراتها.. وربما أفادنا على سبيل المثال هنا عقد مؤتمرات وطنية في كل بلد من بلدان التغيير التي عانت من أزمنة الدكتاتورية والقمع وفلسفات العنف والإيقاع بين مكوناتها لكي يتم اتخاذ الإجراءات العملية والخطوات المرسومة فعليا وببرمجة تتناسب وخصوصية المجتمعات والدول التي نعنيها هنا...

وربما مؤتمرات حوار الأديان والمذاهب ومؤتمرات ومسابقات مدرسية ومكافآت وجوائز مخصوصة لممارسات اللاعنف والتسامح ستكون دافعا قويا لتمتين الوحدة الوطنية وتطبيع الأجواء وتفعيل مسيرة السلم الأهلي؛ مثلما من جهة أخرى ينبغي قبول اللاجئ وإكرامه والتعامل الإنساني معه ومثله المهاجر وأي من أبناء الجاليات وكذلك من المرضى بمرض بعينه وغيرها من أمثلة وما يصادفونه جميعا من أشكال تعامل يعود للتعصب والعنف والتمييز..

إن مناقشة خلفية التعدد القومي والديني ومن ثم غنى التنوع الثقافي الروحي والحاجة لإبراز حالات التفاعل مثلا تبادل التهاني ومشاطرة الانفعالات ومشاعر الأسى لجميع الأطراف؛ أمر مهم لتخفيف التوترات.. ونحن نعرف أن أزمات أقتصادية وما تنتجه من بطالة وغيرها توتر أجواء التعامل بين أطراف ومكونات المجتمع سواء الأصائل أم المهاجرين وغير ذلك حالات الاعتداء والتمييز في التوظيف وفي غيره وحالات هشاشة مؤسسات الدولة بخاصة منها التي تحتاج لدمقرطتها وتفعيل آليات المساواة وإنصاف الحقوق.. كل ذلك مما يلزم التنبه عليه..

إذن فالتربية ومهارات الحوار والاتصال وخلق ميادين التفاعل إيجابا وعوامل التحفيز والتشجيع الملائمة لهذا الاتجاه الفلسفي السلوكي سواء بمستويات تخص قادة الرأي العام أم في الجمعيات والأحزاب والحركات هو مما يصب في تطمين حقيقة التسامح وإشاعته وتعميمه...

وعمليا فإن هذه الفلسفة تتطلع لجهود جدية مسؤولة أجد من المناسب أن تبادر أعلى المؤسسات وعيا وقدرات بحثية معرفية ممثلة في الجامعات ببلدان منطقة الشرق الأوسط مثلا لتعيين كرسي التسامح في كلياتها المتخصصة، مثلما تمارسه على سبيل المثال هنا جامعة ابن رشد في هولندا في كرسي أستاذية لفلسفة التسامح بكلية الآداب قسم الفلسفة.. ومثلما تتطلع ذات الجامعة لتعميده في أنشطتها ومؤتمراتها المتخصصة التي تنوي عقدها في كل من مصر والعراق في برنامج السنة 2012...

كما يؤمل هنا عبر هذه القراءة أن توجد القوى والأطراف الاجتماعية والرسمية فرص اللقاءات والرحلات والسفرات ومنها ما تقيمها الجاليات بتنوعات أطيافها لتعزيز سبل اللقاء والمشاركة المباشرة بين جميع التنوعات الإنسانية.. ولطالما كنتُ شخصيا أضع أولوية مخصوصة وعليا لمشاركة أطياف عراقية دينية وقومية وفكرية متنوعة بهوياتها في احتفالاتها وأشدد على الحضور فيها تعزيزا لمعنى المساواة واحترام الآخر وقيمه وهويته وطبائعه ومفردات طقوسه وثقافته.. وسيكون من دواعي المسرة أن تتسع الظاهرة لتشمل لا النخب بل جمهور وجودنا الجمعي العام...

وستبقى من معاني التسامح حالات العفو والصفح والغفران والرحمة وحالات تغليب الصلات الإنسانية على التقاطع والتصالح والتلاحم على التنافر والتباغض.. كما سيبقى التسامح سلوكا رئيسا مهما في العائلة وفي محيط الصداقة والجماعة في مدرسة أو منتدى أو جمعية أو رابطة..

وفي خلاصة قراءتنا هذه في فلسفة التسامح ودعوتنا إلى اعتمادها ركنا رئيسا في حياتنا اليوم نشير إلى أنّ: "النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح" كما يقول جواهر لال نهرو. وفي الحقيقة فإنك إن سامحت أعداءك فذلك هو ما سيضايقهم؛ "فلا شيء يضايقهم أكثر من ذلك" كما يقول أوسكار وايلد وطبعا ربما يكون ذلك مدخلا للتهدئة وتحويلهم إلى أصدقاء.. يقول دوغلاس هورتون: "في سعيك للانتقام احفر قبرين.. أحدهما لك" فيما يعبر تولستوي عن التسامح بقوله: "عظمة الرجال تقاس بمدى استعدادهم للعفو والتسامح عن  الذين أساؤوا إليهم". ويحذر فيلسوف الروح المدني السلمي غاندي من استمرار العداء والاحتراب بقوله: "إذا قابلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟". ونحن نقول مع برتراند رسل: "الحياة أقصر من أن نقضيها في تسجيل الأخطاء التي يرتكبها غيرنا في حقنا أو في تغذية روح العداء بين الناس". فلنكن من يبادر في التسامح ونبني حياة إنسانية هانئة مستقرة...

http://daccess-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N96/170/88/PDF/N9617088.pdf?OpenElement