العنف ضد المرأة عنف ضد الإنسانية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

حال المرأة في مجتمعاتنا مذ ولادتها لا تبشرها بخير.. فهي تولد لتجد وجها متجهما مكتئبا من مجيء المولود أنثى وليس ذكرا. وأمّها [المسكينة] وأخواتها وخالاتها وعمّاتها وبيئتها النسوية بأكملها تبدأ معاناتهنّ  وآلامهنّ من تلك الولادة، حيث ترى كل واحدة منهنّ فيها، تجددا لأوصاب حياتها وكل واحدة منهن تجرّ حسرة لمجيء أنثى أخرى.. ولا تجد تلك الوليدة البريئة في طفولتها سوى انطلاقة التمييز بينها وأقرانها الذكور، ولا تجد تفسيرا لما ينالها من عقاب متصل مستمر! وما أن تدرك الثامنة حتى يجري بعض أهلها إلى القمَّاشين لجلب ما يلفونها به من رأسها حتى قدميها حتى تكاد تختنق، وهذا ليس من الدين بقدر ما هو الإعلان والإيذان بأنّ البنت بلغت سنّا باتت فيه ((عورة)) البيت وأهله الذكور..

أما عن عمر المراهقة والفتوة والشبيبة فحدِّث ولا حرج.. فقد باتت (الأنثى) همّا ثقيلا يجب التخلص منه سريعا وإلا بارّت وصارت عانسا علّة برقبة أبيها أو وارثيه من الذكور يرثونها كما يرث أيّ منهم الأشياء والحاجات المادية! وليس للمرأة الأم وهي في وسط العمر أم  عتيّه أن تدير أمرَ نفسها مادام عندها ولد ذكر بلغ العاشرة وإنْ كان مازال يعبث بأغراض لعب طفولته..!

عجائب كثيرة تقذف بها التقاليد البالية لمجتمعات التخلف والظلام مدعية أنها من الدين ومن المقدس وكل الأديان والأقداس من تلك التقاليد الوحشية الظلامية براء...

وكلما تحدث امرؤ عن تحرر المرأة  ومن ثمّ المجتمع الإنساني برمته من تلك العادات والتقاليد السوداوية، اُتُهِم بالكفر والزندقة والإلحاد وبالفسوق والفجور وما طاب للظلاميين أن يستخدموه في محاولة لإثارة الرعب وإرهاب المجتمع بخاصة منه أصحاب الحكمة والرشاد والتنوير الفكري...

ها نحن نشهد في القرن الحادي والعشرين، تكرار مجريات وقيم عفا عليها الزمن منذ 14 قرنا.. ومن يعيدها اليوم كرها هم أدعياء التديّن ممن يفرضون أنفسهم قسرا [وبالتأكيد كذبا وزيفا] ناطقين باسم (الله) على الأرض. إنهم في حقيقتهم ليسوا أكثر من ((الكهنوت السياسي)) الذي يمنح وجوده سلطة جبرية قهرية مُلْزِمة بوساطة ادعاء السلطة الروحية الدينية وتمثيل القدسية الإلهية والنيابة عنها؛ بقصد إسقاط السلطة النافذة على ما يأمرون به وينهون عنه.

فماذا تجد المرأة من ضغوط عامة وخاصة في حياتها بمجتمعات التخلف؟

·                  إنها تجد القوانين مصاغة بأيدي ذكورية لمصالح ذكورية..

·                  وتجد الأعراف والتقاليد مصاغة ذكوريا لمآرب ذكورية..

·                  وتجد القيم السلوكية والتوجيهات التربوية الفوقية مصاغة ذكوريا لتقديم الذكور وإعلاء كلمتهم..

·                  وتجد استباحة لشخصيتها الإنسانية، وتفريغا لكينونتها بشرا يتساوى في وجوده مع الآخر في اعتداء صارخ بالتمييز لجنسها..

·                  وهي تجد صورة متشائمة عنها قبل ولادتها.. فولادة الأنثى شؤم..

·                  وهي دوما ناقصة عقل وناقصة آدمية حتى وهي تمنح البشرية خلاصة ما ينتجه العقل العلمي الأنضج، وحتى وهي تحيا باستقامة لا يبزها بها أبعد المراجع الذكور...

·                  وفي البطولة لا وجود لها على الرغم من التضحيات وقدسية الأم وما تنهض به كما تذكِّرنا كل الأديان والشرائع فالبطولة لا توصف إلا بالرجولة نسبة للرجل كونه ذكرا..

·                  وفي تسنم المسؤوليات في الحكومات والأحزاب والجمعيات عادة ما يُقدَّم الذكور ولا يُكلف أحد نفسه بالبحث بين الكفاءات النسوية.. وأزيد هنا أنّ الثقافة الذكورية السائدة لا تدفع إلى البرلمانات سوى الأغلبية الساحقة ذكوريا. وطبعا لا أنسى توكيد تشوّه ثقافة الوسط النسوي العام نفسه بتلك الذكورية وفلسفتها فيشاركن في جلد الذات واستلابها وتقديم الذكور..

·                  والمدرسة والجامعة والنادي ليس لها ما تقرره من دون أولوية بل سطوة ذكورية في أنشطتها..

·                  وعلى الرغم من أعلام الصحافة والإعلام من النسوة الخالدات وأقلامهن الكبيرة اللامعة فإنّ الإعلام يبقى وجهه ذكوريا بحتا  وهو لا يقدم المرأة إلا حيث تملأ مساحة تلبية رغبات ذكورية  بحتة...

·                  ويُمارس التمييز ضد المرأة في التوظيف وفي الأجر عن ذات العمل وربما عن جهد أكبر تنهض به ولكنها تبقى مغبونة الحق..

·                  وفرديا ليس للبنت ما للابن وليس للأخت ما لأخيها وليس للأم ما للأب وليس للخالة ما للخال ولا للعمة ما للعمّ ولا مكانة للزميلة كما الزميل وأنكى وأسوأ ما للصديقة إنْ مورست تلك العلاقة الإنسانية بمثل ما للصديق، فهي محط اختبارات  وتجاريب لا تعد خيانتها خيانة أمانة ولا خيانة عهد بل تبرَّر بأنها هي التي جرّت الآخر لأي خطأ محتمل...

كل هذه الضغوط العامة والخاصة هي بعض مفردات  تعيشها المرأة في عنف مسلّط عليها ليس لأمر أو سبب سوى لكونها امرأة أنثى!!

والعنف تجاه المرأة يكرّس في مجتمعات التخلف إلى حد تمرير جريمة قتلها باسم غسل العار ويتنهي الأمر وينسى بأشهر معدودة هي نزهة أو أجازة يحتفى بعدها ببطولة الجاني وقتلها يجري على قدم وساق وبات بالآلاف اليوم في بلداننا حتى لو كان القتل لمجرد اشتباه في تلكم الضحية الإنسانة البريئة، التي تغادرنا وهي لا تدري لماذا اغتيلت بوحشية قاتل مجرم؟ ترى هل سيقف ذاك القاتل أمام محكمة الله ليبرر فعلته النكراء باشتباهه ووهمه؟

إنّ العنف يبدأ نفسيا بأنواعه بدءا من مشاعر الاحباط والدونية التي يغرسها المجتمع في أحد مكونيه أي في المرأة لكونها أنثى ولا ينتهي بحرب شعواء من المحاذير والمحظورات التي تبقى سيفا عنفيا مسلطا على رقبتها حيثما اتجهت وتحركت!

وهو عنف اجتماعي كونها ليست أهلا لأية علاقة إنسانية كما ترى فلسفة التخلف، حتى لو كانت علاقتها الأخوية في عائلتها فهي حتى هنا معزولة في غرفة الحريم [من حرمة حركتها وحضورها]  ولو أنها مازالت في منزل العائلة إذ يبقى عليها فرض قسري بالجلوس في مكان أدنى أو أبعد أو أسوأ... إنها الخادمة بالعادة وعنف سلطتها.. ولو فعل الذكور عملا منزليا  فهو مساعدة ورعاية ومما يتفضلون به إن كان عندهم مزاج فمن هامش ما لديهم... أليس هذا ضغطا وعنفا قهريا؟

ومن العنف عليها أنها قاصر يجب أن تصغي فلا كلمة لها وهي من قبر في بيت أبيها لقبر في بيت بعلها إلى مثواها الأخير... ولا رأي لها فيمن تتزوج وإن وُجِد فلابد من موافقة الأهل ليس من باب ما كان لبعض السلف الصالح تطمينا وحفظا لها بل من باب أمر للذكر وانتهى كالقضاء والقدر!

أما التحقير المرافق لوجود المرأة فليس أدناه العنف البدني أو الجسدي بالضرب وسواه.. فما يُمارس يصل حد تعريضها للعاهات والإعاقة قربانا لنزوات ذكورية مريضة... والذي يغتصب امرأة، طفلة أم بالغة، لا عقاب عليه. وكثيرا ما يفلت من العقاب لأن الجريمة لا يمكن أن تعلن أو تكتشف ويفتضح أمرها.. إنها نكاية بذوي المغتصبة والعنف ينصبّ عليها وإن كان الاغتصاب جريمة عنفية وقعت عليها كرها وقسرا...

والعنف ما يكون ماديا مذ مصروف البنت طفلة طالبة في المدرسة وحتى مصروفها في بيت الزوجية فهي إن أصابت حقا فسيكون من هامش بواقي المصروفات... ولا ننسى ماذكرناه بشأن الأجور للعمل المتساوي وبشأن التوظيف وغيرهما...

والعنف المسلط على النساء يجري في ظروف السلم والحرب.. وكثيرا ما كانت النسوة ضحايا  عنف الحروب أكثر؛ لما يجري لهن رغما عنهن... أما أسباب العنف واستمراره فلقد درسته منظمات دولية عامة وحقوقية وحاولت تغطية الدواعي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وربما درسته مراكز بحوث وجامعات ولكنها حتى اليوم لم تغطِ كل تفاصيله...

ونحن ما زلنا بعيدين عن تحقيق ثقافة المساواة البشرية بين المرأة والرجل فعليا عمليا... بخاصة في ظل أمرين:  تشكك بمسيرة المرأة في البلدان المتقدمة وإرجاع معاناتها هناك إليها وليس إلى مثالب النظم.. وادعاء متوهم بقصورها ونقصها ودونيتها حيث أرضية ثقافة التخلف وإحالة هذه الرؤى إلى المقدس الديني زورا وبهتانا...

إن هذا الخلل في الحياة الإنسانية ومواصلة  العنف ضد المرأة يوقع المجتمعات في مطبات خطيرة سواء بشأن التنمية أم التطور والتقدم البشري.. كما يضع البشرية بمجابهة مشكلات تتعقد كثيرا لأنها تُبقي على فلسفة ذكورية المجتمع وأحاديته ومن ثمَّ شلل نصف المجتمع والتأثير سلبا على النصف الآخر..

فماذا عسانا نفعل من مشروعات لمواصلة مسيرة التحديث في بلداننا؟ بخاصة في ظروف صعود تيار  الكهنوت السياسي الذي يدعي الاعتدال والوسطية فيما يبيِّت جريمة إطلاق سعار الروح الذكوري  بكل ما يتصل بهذا من مثالب ونواقص بله من جرائم التبرير للعنف الواقع على النساء...

إنّ تلك التيارات التي باتت اليوم تسطو على مقاليد السلطة مستبدلة دكتاتورية سابقة بأخرى جديدة تنسجم وتمرير جريمة تشديد عنف المجتمع الذكوري وبلطجته والاعتقاد أن الشرف موجود في فلسفة ذكورية بائسة تجعل من المرأة إناء عورة وفضيحة وإن كانت مثال الشرف والعفة...!

فليس للشرف من قيمة معنوية أدبية تتمثل في العهود والمواثيق ومكارم الأخلاق والقيم السلوكية الإيجابية للفضيلة عند القوى الجديدة ما لديها من خزين ماضوي وقيم بالية.. إن كل ذلك أمر لا يقف على قدم مادام في البيت عورة (على وفق أولئك) عفوا أعتذر ما دام في البيت أنثى..

إن انتهاء العنف ضد المرأة بحاجة لما هو أبعد من الدراسات النظرية ومن التشريعات المعطلة، إنه مطلوب في تربيتنا وفي قيمنا وفي جهودنا من أجل المساواة بحق ومن أجل منع التمييز تأسيسا لمنع العنف باشكاله جسديا جنسيا نفسيا اجتماعيا واقتصاديا...

في مجتمعاتنا بخاصة العربية وفي ظل القوى الصاعدة أو التي يحتمل تمريرها رغما عن إرادة الشعوب أقصد صعود قوى الكهنوت السياسي لن يستقيم أمر مسيرة مجتمعاتنا بل ستبقى المرأة عرضة لكل أساليب التعنيف والاستغلال والبشاعات.. ولنا أن ندعو بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف المسلط على رقابهن إلى حملات جدية فاعلة منها الدينية التي تفسر الدين الصحيح وتمنع الكهنوت السياسي من التلاعب بالتفاسير وتبرير جرائمهم.. والمدرسي الأسري التربوي  الذي يُعلي من القيم السلوكية الصائبة في المساواة واحترام الإنسان وحقوقه في العدل والإنصاف ذكرا أم أنثى.. وفي القوانين والتشريعات وفي القيم والعادات وفي تعديل مسارات مجتمعاتنا ومؤسسات العمل والبناء فيها... فهل نحن فاعلون؟