أجواء ما بعد الانسحاب الأمريكي؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

 

تقترب ساعة الصفر ونهاية  وجود القوت الأمريكية في العراق باقتراب الموعد المفترض في نهاية هذا العام. ومن أجل قراءة موضوعية هادئة لما يُحتمل أن يكون ما بعد اكتمال انسحاب القوات.. لابد من التذكير أنّ جملة الحقائق الإحصائية الدقيقة تقول: إنّ العراق يملك عديدا ولا يملك عدة من القوات المسلحة وهي بهذا العديد ليست مؤهلة بشكل حاسم وجوهري في المجال الجوي ولا في الأسلحة الاستراتيجية الثقيلة.. بسبب من عدم توافر السلاح ذاته وبسبب من تغير المدرسة أو العقيدة العسكرية وضرورة إيجاد كوادر مدربة على الأسلحة الجديدة المنتظرة مع إجراء التمرينات التي تختزل مسافات زمنية كسبا للخبرات في محيط يمتلك باعه الطويلة فيها...

ولسنا نجافي الحقيقة بشيء عند قولنا: إنّ القدرات الاستخبارية الوطنية تظل أسوأ من محدودة وربما هزيلة. دع عنك أمورا من نمط ما يكتنف جميع أسلحة الجيش من علامات الفساد التي افتضح أمرها عبر السنوات الأخيرة؛ ومن خروقات ومن تعدد المرجعيات وتوزع بعض القوات بين جهات وكتل حزبية الأوامر أكثر منها مهنية عسكرية..

إذن فلا جاهزية واقعية عسكريا؛ يضاف إليها أنّ الوضع العام برمته لم تتم تهيئته بشكل سليم يخدم قيام دولة مؤسسات، تأتمر بالقانون وتسيِّر أعمالها به مهنيا وعلى وفق التخصصات والكفاءة والأهداف.. ومن هنا فإنّ الوضع العراقي تكتنفه تهديدات ومخاطر مستقبلية قريبة عديدة...

 

إنّ أبرز تلك التهديدات لا تكمن في قوة الإرهاب.. فمنطقيا تعرّض تنظيم القاعدة لضربات في قيادته وأخرى في تنظيماته ما جعله يتهاوى ومثله تنظيمات متشددة أخرى قد يكون بينها البعث الصدامي وقواه العنفية التي جرت تصفيات عديدة ومحاصرة لها، من بينها ما جرى ويجري خارج الحدود كما يحصل من تداعيات في الداعم الاستراتيجي لتنظيم البعث بسوريا.. إذن فالتهديدات من ضعفنا وما يتبقى من مخاطر قد تكمن في عدد من المحاور وفي جبهات الصراع الساخنة التي ربما تكون ممثلة في الآتي:

1.       أول تلك الجبهات تكمن في التدخلات الإقليمية الراعية الداعمة لأصابعها الممتدة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ولا ينبغي الاستهانة بالأمر لحجمه النوعي البارز...

2.       وثانيها في الخلافات السياسية المحلية بين أقطاب كثيرة في السلطة حيث يُرصد ميل ربما من (طرف) للانفراد بالسلطة ببغداد وربما وصل الأمر إلى تهديد فديرالية كوردستان بوسائل شتى مع استبداد ومركزية مقيتة في التعامل مع المحافظات أحيانا..

3.       وثالث جبهات الصراع والاشتعال ربما تتمثل بالأرضية الهشة لقوات حفظ الأمن الداخلي والحدود والخلل البنيوي في الجهود الاستخبارية وربما ابتعاد لكثير من عناصر هذه المؤسسة عن العمل المهني الوطني لصالح آفاق ضيقة...

4.       مخاطر النقص الجوهري في تشكيلة الحكومة وعدم توافر برنامج عمل وزاري جدي. والنواقص في عمل المؤسسات المدنية وخضوعها لآليات عمل لا تستجيب لأهداف المؤسسة المدنية بقدر ما تستجيب وتُجيَّر لمصالح اقتسام الكعكة الغنيمة بين بعض (أطراف أو عناصر) يتحكمون بها في الغالب بلا دراية ولا تخصص ولا برمجة؛ ولابد من توكيد القول: إن هذا أمر غالب شائع ولكنه ليس مطلقا، فلا تخلو المؤسسة الوطنية من تطورات إيجابية وإنْ كانت محدودة لا ترقى لمستوى المهام الفعلية وتلبية الأهداف المنتظرة...

 

أما أبرز القوى الإقليمية الجاهزة للظهور في المشهد العراقي، فهي (قوات إيرانية) لطالما اصطرعت طويلا مع الولايات المتحدة  في الميدان العراقي واستخدمت في ذلك أرضيتها الخصبة باللعب على العامل (الديني: الطائفية السياسية) المُدَّعاة لاستغلال بعض القوى السياسية..  والمعتمدة أيضا على قوى ميليشياوية عاشت وتدربت  بأمرتها لأكثر من ثلاثة عقود.. أما الذراع الإيراني الثالث فهو قواتها الاستخبارية والعسكرية الموجودة على الأرض ميدانيا تحت مسميات لا حصر لها من شركات بأنشطة (اقتصادية) إلى رجال ومؤسسات (دين) من حسينيات وجوامع وغيرها إلى أعضاء في الأجهزة الأمنية والاستخبارية وفي الميليشيات  سواء ممن بات يحمل الجنسية العراقية أم لا يحملها...

وعلينا التأكد من حقيقة أن عناصر متشددة في النظام الإيراني تمتلك استراتيجيات صراع يمثل العراق أحد ميادينه، فيما تمثل منطقة الشرق الأوسط ومنها الدول العربية الهدف الأبعد. وأولئك يرصدون ميزانيات مهولة بالخصوص حتى باتت ثروات الشعوب الإيرانية تُبدَّد على مثل هذه الأعمال العدوانية  فيما لا تحصل تلك الشعوب على مطالبها وحقوقها.. وبعض تلك الميزانيات تُغطى مما يُؤخذ من التجاوزات المعلنة والمخفية على الثروة النفطية العراقية وربما بعضها الآخر من أموال تجبى من العراقيين بمسميات دينية وغير دينية أتاوة استغلالية تتجسد بأساليب من مثل إغراق السوق العراقي بمنتجات على حساب الوطني بغض النظر عن رداءتها ومن مثل بناء مشروعات ضخمة تعلن عنها  بعض مرجعيات تقيم في العراق فيما تبني بغيره، والحليم تكفيه الإشارة بهذا الخصوص..

 

إنّ الخطورة الرئيسة ستكمن في التعامل سلبيا مع أيّ تدخل إقليمي من دول الجوار أم من غيرها. وأول طريق الخلاص من هذا الخطر يتأسس على إصلاح بنية الحكومة واعتماد نظام الشراكة فعليا واستنهاض العمل ببرنامج مشترك موحد يقوم على تفاصيل استكمال بناء مؤسسات الدولة وطنيا واستثمار المساعدة الدولية في الخلاص من أشكال الفساد وتطهير المؤسسة الوطنية منها...

وما من نجاة من المشكلات المستعصية لدينا من دون توجه مخلص نحو تعديلات دستورية باتت منتظرة منذ أكثر من سبع سنوات على وفق نصوص الدستور ذاته. ومن اتجاه نحو تشريع قوانين الأحزاب والانتخاب واستكمال الهيأة التشريعية بقانون للمجلس الاتحادي لانتخاب برلمان وطني عراقي مكتمل النصاب من مجلسي النواب والاتحاد. ولنطلق مرحلة التأسيس الجديدة وطنيا حرة مستقلة...

ربما تستكمل القوانين المشار إليها  بالعناية بالهيأة القضائية واستقلاليتها وبتحديث التعليم وتوجيهه نحو مشروعات بناء الوطن ومطالب هذا الجهد الكبير هي من النقاط المهمة المؤملة.

وتبقى الإرادة الوطنية تدعو لعدم حصر الحوارات بين الزعامات في ظل توجه نحو تطمين مسيرة باتجاه ديموقراطي حقيقي لا مزيف ومن ثمّ الدعوة الفورية لمؤتمر وطني موسع تشترك فيه كل القوى المخلصة للبناء ولأسس العملية السياسية وطنيا عراقيا برفض مثلث (طائفية فساد إرهاب) وولوج مسيرة العمل والبناء عاجلا قبل أية تداعيات سلبية تهدد وحدة الوطن وسيادته بل تهدد حتى هويته ووجوده..

ولا نريد بالاتكاء والتراخي اليوم أن نمضي نحو تداعيات تهددنا جميعا، فغرق السفينة يهدد الجميع بلا استثناء.. على أنّ تمثّل ذياك المسير الهادئ والموضوعي بكوردستان والاقتداء به، سيبقى نموذجا وطنيا عراقيا لتطمين أوضاع بقية أجزاء العراق الفديرالي ويضعها في طريق التقدم والتعاون مع جيرانها على أساس شراكة تعايش سلمي بنَّاء بدل التدخلات التي تستغِل الانشغالات والثغرات وهامشية مسيرة التطور وضعفها!

فهلا انتبهنا وتصافحنا ومضينا معا وسويا في إعلاء شأن الهوية الوطنية القائمة على تأسيس الدولة المدنية في العراق الديموقراطي الفديرالي التي تعلن قطيعتها مع آثار الماضي الاستبدادي الذي أهمل حقوق المواطن ومطالبه وحرياته؟

ربما يحصل ذلك، طبعا إذا ما أخلصت النيات وبدأنا مسيرة مصالحة مع الذات ووعي بما يتهددنا جميعا.