القائد الكوردي البارزاني: المسيرة ودروسها المستفادة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

تحتفي الشعوب بمناسبات متنوعة، تختار لها أحداثا ووقائع وأسباب تشكل علامات فارقة في تاريخها.. ولطالما اختارت الشعوب والأمم  أعلاما من قادتها التاريخيين ليكونوا رموزا دافعة في  خطى بناء حضارتها ومساراتها إلى أمام.. وللشعب الكوردي أبطاله الذين قادوا معارك الأمة الكوردية في تاريخيها القديم والمعاصر.. وهم من المكانة ما  صنعته أدوارهم المهمة في بناء حاضر الأمة واستشراف مستقبلها الأفضل.. ومن بين أبرز قادة الأمة الكوردية كان لولادة الملا مصطفى البارزاني  في مطلع القرن الماضي دفقا مخصوصا تعمَّد بسيرة هذا الزعيم التي شهدت تجاريب إنسانية أغنته ووفرت حنكته وقدرات تأثيره في صنع الحدث وتوجيهه توجيها يخدم آمال شعبه وعلاقاته الأخوية بالشعوب الأخرى...

لقد كانت مسيرة البارزاني حافلة بالتجاريب التي لا تنساها الذاكرة فمنذ طفولته الأولى ولج عالم السياسة وصراعاتها ومعاناة أمته وشعبه في وقائع القهر والاعتقالات والاعدامات الأمر الذي دفع لخلق التحدي النضالي العنيد في داخله، دفاعا عن الحقوق والحريات. فكانت مشاركاته في الثورة الكوردية بمختلف أرجاء كوردستان التي قسمتها نتائج الحرب الكونية الأولى وإرادة تلك الدول التي تحكمت بالقرار باتجاه مصالحها وعلى حساب وحدة الأمة الكوردية أرضا وشعبا وهو ما نعرف كيف جاء في اتفاقات التنصل من الوعد الدولي للكورد بدولة مستقلة أسوة ببقية شعوب العالم.. ويسجل التاريخ مساهمة البارزاني الفعلية في الانتفاضات القومية التحررية بكوردستان الشمالية بتركيا والجنوبية بالعراق في العقد الثاني من القرن العشرين وبحركات بارزان منتصف الثلاثينات وبالتأكيد في  إشادة أول جمهورية كوردية في مهاباد شرق كوردستان، وطبعا تخلل هذا السِّفْر النضالي البارز عقبات وآلام الاعتقال والسجن والنفي ودروسها أيضا؛ الأمر الذي شكَّل أهم الخبرات والعبر  التي أعدّته لمساهمة قيادية فاعلة في تأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني ولاحقا في رسم أسس العلاقة في  إطار الدولة العراقية التي تتركب من مكونات وأطياف ينبغي أن تكون حرة مستقلة في إرادة التعبير عن بناء الدولة الوطنية التعددية...

فعلى المستوى الوطني عراقيا كان البارزاني زعيما وطنيا لا تقف حدود تأثيره عند قيادة الكورد نحو أهدافهم القومية. ومن هنا فقد كان رقما نوعيا غنيا لا يمكن تجاوزه في حسابات السياسة العراقية . ولطالما كان في هذا الاتجاه، الركن الأمين لبناء العلاقات الوطنية على أسس صحية صائبة مثلما كان على المستوى الإقليمي يحمل أسس العلاقات الاستراتيجية بين الكورد والعرب عبر تمتين علاقاته بالوجود العربي كما في العلاقة بمصر وبزعيمها معبرا بذلك عن أهمية ترصين بناء العلاقات الكوردية العربية بأسسها التاريخية المكينة الصحيحة.. ولكن بالمقابل عملت السلطات الانقلابية في العراق على التفاعل قمعيا عدائيا مع الكورد الأمر الذي كان دائما سببا خطيرا وشرخا فادحا أضرّ بالعلاقة الطبيعية بين العرب والكورد وشوه أسسها.

ولقراءة أعمق في ولادة هذا الرمز النضالي الكبير، ينبغي التأكيد على أنّ ملا مصطفى البارزاني ما كان يوما اسما عابرا أو شخصية عادية في تاريخ القضية الكوردية بل كان قائدا التحم بالشعب معبرا عن قضاياه وقضايا الأمة  الكوردية في أرجاء كوردستان كافة؛ بدليل مساهمته القيادية الفاعلة في أغلب الانتفاضات والثورات بأجزاء كوردستان الشمالية والشرقية والجنوبية والغربية، وهذا ما جعله رمزا قوميا ليس للثورة  حسب بل لمعاني الكرامة والهوية القومية وفي الدفاع عن الحقوق والحريات وعن الشخصية الكوردية بعمقها الإنساني.. إن ذكرى هذا القائد القومي التحرري تعلن عن أثرها عبر احتفال ملايين الكورد بذكرى ميلاده  كونها شعلة خالدة وهاجة بقيم الخير ومثلما أثبت الاحتفاء السنوي بذكرى رحيله لا وقوعا في أسر الحزن والبكائيات بل إعلانا عن الرمز الباقي مع مسيرة الأمة نجما هاديا لا يختفي... إن الاحتفال بميلاد البارزاني يحمل لجملة تلك الأسباب موضوعيته ليس كون الزعيم البارزاني نموذجا وعلما للكورد حسب وهو حقهم بالفخر ولكن لاحتفال مجموع الشعوب والأمم الأخرى احتراما وتقديرا للمنجز التاريخي الذي قدمه بخاصة للعلاقات الإنسانية الأسلم والأنضج...

 على أننا دعما لما أسلفنا القول به نشير إلى  إبراز سمات كثيرة مثلت جزءا من الدروس والعظات الوارد ذكرها؛ فمبادئ التسامح والروح السلمي لسياسته، على الرغم من كل العنف الذي ربما فرضته  ظروف الصراع المسلح ومحاولات الاغتيال التي تعرض لها شخصيا، هي التي جعلته قريبا من قلوب الجماهير ليس الكورد حسب كما ذكرنا بل ولجموع غفيرة وكبيرة من الشعوب الأخرى التي كان يكنّ لها الاحترام  في تعبيره عن مبدأ أن احترام امرئ لأمته يفرض عليه أيضا احترام الأمم والشعوب الأخرى ومبادلتها العلائق الإنسانية الأعمق والأصدق.

 وكثرما أشار الدارسون والساسة إلى أنّ الثورة الكوردية المسلحة  تجنبت أفعال التخريب والتفجير والاغتيالات التي كانت ستؤدي إلى ضحايا من الأبرياء ومثل هذا السلوك الذي جمع بين السياسة وحتى بين أعلى أساليبها احتداما حيث المعارك والحروب وبين الالتزام بالمواثيق التي تدرأ العنف عن الأبرياء المدنيين الأمر الذي جعل ساسة أوروبيين معروفين يصفون الثورة الكوردية التي قادها البارزاني بالثورة النظيفة.. وبخلاف قوى سياسية اصطرعت مع النظم الدكتاتورية المتعاقبة في العراق وغير العراق مُستخدِمة أساليب الاغتيالات والتفجيرات رفض الزعيم البارزاني حتى الرد على محاولات اغتياله بمحاولات شبيهة  بناء على تمسك وطيد بمبادئ رسمها وسار في هداها حيث أنه لا يقابل خصمه بممارسة جرائم ما يرتكبه ذاك الخصم بل يواصل العمل بأداء نضالي لثورة تعرف أهدافها بدقة وتضبط ممارساتها وأساليبها بموضوعية وبروح إنساني سليم..

ونشير إلى دروس أخرى للثورة ولتعاليم الزعيم  في ممارسة المرونة من جهة وفي تعامله بأسلوب التسامح والعفو مع الآخر على الرغم من أخطائه سواء تجاهه شخصيا أم تجاه الشعب والأمة؛ وقد عفا البارزاني يومها عن أولئك الذين عادوا عن نهج الخيانة وتركوا جحافل (الجحوش) التي آذت الشعب الكوردي. في توكيد منه على مبدأ يؤكد أنّ تصحيح الأخطاء بوسائل سلمية وبأداء إنساني يجنِّب الشعب مزيدا من الصراعات وحالات الانقسام العدائي.. فكان بديله في الوجود الكوردي وحدة في التنوع وقوة في بناء أسس السلام والتعايش والاعتراف بالآخر وتصحيح ما ارتكب سلميا لا عنفيا...

ومن هنا كان منطلق الاتفاقات مع الحكومة ببغداد وأهمها ما تمّ بمنتصف الستينات وبعده في اتفاق آذار 1970 الذي جسد لأول مرة صورة مقبولة للعلاقة  الكوردية العربية. على أن الدرس المضاف الآخر بعد تلك الاتفاقات وما شهدته يتمثل في أن الأمور لا تكمن في النصوص وإنما في بناء مؤسسات ديموقراطية ضامنة لتطبيق تلك النصوص بدليل ما جرى لاحقا من تنصل حكومة بغداد من الاتفاق بل توجه الدكتاتورية للغدر وتجديد العدوان على الشعب الكوردي الآمن حتى وصلت الأمور في وقت تال لمحارق الكيمياوي المعروفة وجرائم الأنفال.

وفي ضوء ذلك يمكن أن يسجل أحد دروس البارزاني عظة لمسار العلاقة الفديرالية في العراق الجديد ، إذ تشير تلك التجربة إلى رفض أن توجه سهام التهجم على [تلك العلاقة الفديرالية] كونها على وفق وصف بعض القوى المتشنجة أنها مقدمة (انفصال) ومن ثمّ فالعظة هنا تقول: لا يمكن ضمان العلاقة [الفديرالية] في ظل تلك الفلسفة العدائية الغريبة وإنما الضمانة الحقيقية المستفادة من الدروس تكمن في تطبيق الديموقراطية الحقة في عموم البلاد وفي وجود أنضج لمؤسسات الديموقراطية.

 فكما هي وصايا البارزاني الخالد والدروس المستقاة من سياسته، تتجسد الضمانات في الشراكة الفعلية التي لا يكتنفها التردد في قضية قيادة مؤسسات الديموقراطية [عراقيا] معا وسويا بطريقة لا تقبل التراجع و\أو الغدر كما حصل في نكث العهود والاتفاقات السابقة وكما يدعو للقلق اليوم عندما يُنظر إلى  النكوص عن اتفاق أربيل بما يوحي باحتمالات سلبية شبيهة..

إذن، فالمشكلة ليست في صياغة دستورية للعلاقة بين العرب والكورد ولكنها في وجود أو عدم وجود مؤسسات اتحادية سليمة البنية سليمة البرامج، تقوم على إقرار ثابت واستراتيجي حاسم ونهائي بحق تقرير المصير وبالأساس الاختياري الحر المستقل في اتخاذ قرار البقاء في الاتحاد؛ وطبعا مع ضمان الحقوق والحريات بلا تلك المنغصات التي لا تنمّ إلا عن إمكان التراجع والالتفاف حتى على الأسس الدستورية التي مازالت تخضع لصراعات غير خافية على النبض الشعبي الحذر من الوقوع أسرى جرائم تصفوية كارثية جديدة..

إنّ إزالة أسباب الحذر ومعالجتها جوهريا لا يأتي من التهجم على الخطاب الكوردي القائم على تلك الدروس والعبر الموضوعية، المستقاة من تجربة البارزاني الخالد وسياسته؛  ولا من محاولات التشويه وربما التضليل أحيانا من بعض الأطراف بل يأتي من معالجة  أخطاء الماضي والانتهاء بشكل قاطع من السياسات الشوفينية الاستعلائية  وآثارها ومن ترسيخ التحالف بين الديموقراطي الكوردستاني  والقوى الديموقراطية الأخرى كوردستانيا وعراقيا وفي المنطقة بما يعمِّد  فلسفة التحالفات الاستراتيجية من جهة وبما يجعلنا نستفيد من تلك الدروس والعبر بطريقة جوهرية لا شكلية وبأسس متينة راسخة لا تكتيكية ولا تضليلية كما تقع فيه بعض مفردات سياسة أطراف مهمة ببغداد اليوم..

إننا في الوقت الذي نحتفل فيه اليوم بإشراقة عقد جديد بعد قرن ونيف من ولادة القائد الكوردي الخالد، إنما نستلهم من مسيرة خبيرة فذة قادت إلى انتصارات نوعية نشهدها في حاضرنا  أيضا.. ومن الأهمية بمكان أن نجدد اقتراحنا الذي سبق أن ذكرناه  في احتفاء سابق، بضرورة تعزيز الدراسات الخاصة بتلك التجربة الكبيرة الملهمة سواء بإشادة مراكز بحثية تحت اسم البارزاني الباقي الذي لم يوقف انشغالاته على الثورة ومسيرتها بخطابيها السياسي والعسكري حسب بل امتد اهتمامه الكبير نحو الجانب المعرفي والخطاب الثقافي الفكري للشعب الكوردي ومنتجي خطاباته بتنوعاتها.. وسيكون من بين أبرز الدروس المميزة هو توظيف اسم هذا القائد القومي والإنساني  الشجاع والمتنور بوساطة تبني تجمعات ثقافية ومراكز بحثية وجهود أكاديمية جامعية متخصصة، توجهاته لإعلاء الفكر التنويري وثقافة المجتمع المدني بحداثتها التي تقوم على التفاعل مع منطق العصر وعلى إقامة أفضل العلاقات مع دول العالم المتقدم ومع حضارات الشعوب والأمم الأخرى بمنطق التقدم والتطور وبأسسهما المكينة...  ليولد وسام آخر باسم البارزاني وليكن وسام إعلاء المعارف وأنشطة الثقافة كما كان يعمل هو في حياته بدأب وتميّز من أجله. ثقتي أنّ ورثته لن يتخلوا عن هذا الاتجاه سواء عند الكورد أم في أوساط الشعوب والأمم الأخرى. وثقتي أن هذه الدعوة ستلقى استقبالا حافلا وحيوية فاعلة كبيرة مثلما يجري عمليا وفعليا  منذ أول مشوار البناء السلمي بكوردستان يوم انتصار الثورة في تسعينات القرن الماضي حتى يومنا والدروس المستلهمة باقية متنامية تتقدم نحو صرح بقامة جبال كوردستان الشماء...