تداعيات وأفكار في بعض أولويات العمل السياسي وعلاقة تياراته بالناس

تيسير عبدالجبار الآلوسي

 

tayseer54@hotmail.com

 

 

ينظر الناس لمن يتقدم الصفوف باهتمام لما يمثل ذلك من انعكاس في حيواتهم ومن ثمّ في تلبية مطالبهم من عدمها على وفق من يدير الشأن العام وطبيعته. ولعل طريقة تقدم الصف تأتي أما باختيار حر أو بفرض قسري فوقي وإذا تركنا الثانية كونها واضحة بأغلب ظروفها في المجيء الانقلابي لسلطة القرار في الغالب تحقيقا لمآرب ليس بين أولوياتها الناس ومصالحهم. فإن طريقة الوصول للسلطة عبر الاختيار ليست دائما إيجابية وتلبي تلك المصالح لأسباب تتعلق بآليات الاختيار ووسائل انضباطها بشروط تمثيل الصوت الشعبي في خياره الفعلي الحقيقي فضلا عن آلات مهولة للتضليل تلك التي تأتي بالنتائج بما لا يلبي الإرادة الحقة للناس...

أسوق هذه المقدمة للحديث عن وسائل [وأولويات] قوى العمل السياسي في كسب أصوات الناس ودرجة تعبيرها عن مصالحهم بوصولها إلى مركز القرار حيث تتبدى هناك الحقائق في تلبية مطالب من جاء بهم لهذه السلطة أو في التنكر لهم ولتلك المطالب؟

والمشكلة هنا لا تكمن في جمهور الناس وخياراتهم ولكنها تكمن أيضا في جهات التعريف بالتيارات ودرجة العمق في تحليلها وتقديمها التيارات موضوعيا كما تكمن في برامج العمل وصيغ التحالفات وفي أولويات المستهدفات في التنافس السياسي؟ بصيغة أخرى أن المشكلة تكمن أيضا في التيارات ذات المصداقية والصواب والأفضلية في التعبير عن تطلعات الناس عندما تكون تلك القوى غير ناضجة ذاتيا للنهوض بالمهمة وعندما لا تمتلك وسائل الوصول الأنجع إلى جمهورها ربما أحيانا لأخطاء في الانشغال بتعزيز مصداقيتها عبر توزيع نقدها ومهام نضالها بين مفردات يتطلب بعضها التأجيل لحساب أولويات بعينها...

 

وأختار هنا مفردة في هذا الإطار تتعلق بتوجه التيار الديموقراطي إلى جمهوره بخطاب تنويري وبشفافية ملموسة تفصح عن تطابق أهدافه وتطلعات الناس. ولكنه يجابه اليوم منافسة جيَّرت أصوات كثير من البسطاء باتجاه تيار (الإسلام السياسي) أو بدقة أكثر موضوعية وتطابقا في التسمية تيار (الطائفية السياسية).

و قبل أن تذهب بي تداعيات مناقشتي هذه نحو العامل الذاتي للتيار الديموقراطي، أجد ضرورة البحث في المنتظر من خطاب التيار الديموقراطي وما ينبغي أن ينصب عليه لفضح أبرز إشكاليتين تتسبب في اسستمرار استغلال الناس ووضعهم أسرى خيارات تيارات ومصالحهم وتطلعاتهم. وهنا أعتقد ضرورة التركيز على أبرز آليتين يستخدمهما تيار الطائفية السياسية في تجيير أصوات الناس وجعلهم أسرى توجهاته وتلكم الآليتين هما:

1.          ادعاء تمثيل (الله) وإسقاط القدسية على ممثلي هذا التيار! وزعم تطبيق الشريعة!؟

2.          تجيير تضحيات الناس لتيار الطائفية السياسية والتضليل بشأن إيمانه بتلبية مطالب الضحايا وحقوقهم.

فأما بشأن القدسية المدعاة وزعم تطبيق الشريعة، فإنّ أول أمر لكل أفرع تيار الإسلام السياسي يكمن في أنه يغشّ الناسَ بادعاء تطبيق الشريعة أو مبادئ الدين، فيما كل الحقائق تفضح زيف هذا الادعاء المزعوم. ففي الشريعة قيم أخلاقية سامية نبيلة ومهمة.. فيما لا يمكن لتيار الطائفية السياسية أن يحمي تلك المبادئ والقيم ولا تطبيق شيء منها، وفي ظلال سلطته شهد الناس أعلى نسبة فساد عالميا وليس محليا في أي نموذج نختاره هنا. وفي عهدته شهد الناس أسوأ حالات افتقاد الأمن والأمان بسبب ألوان الإرهاب (الإسلاموي) فمنه ما يعود لفرع الإسلام السياسي التكفيري ومنه ما يعود لفرع التشدد الطائفي وحروبه المفتعلة.. ومنه أيضا حروب المافيا وما يعود لبلطجة الشوارع الفردية والجمعية؛ دع عنك بروز إرهاب الدولة في سياسة ممنهجة استخدمت المؤسسات (الأمنية) أداة لقمع الناس ومصادرتهم واستعبادهم وإذلالهم جهارا نهارا في سلسلة متصلة مستمرة من الممارسات التي لم تنقطع ولم يظهر لها ما يوقفها ويحسم أمرها... ويزيد الطين بلة هو استيلاد سلطة أخرى ممثلة بمن يقدمون أنفسهم على أنهم رجال دين أو جهات حماية الأخلاق التي يعرف الناس اليوم أنهم أول من خرقها واستباحها بكل المقاييس خذوا أمثلة في أفغانستان وإيران والسودان والعراق!

أما بشأن الإشكالية الثانية فهي تلك التي تخص الحقوق والحريات والمطالب الإنسانية. ففي ظلال الطائفية السياسية لا سكن صحي ولا بيئة صحية ولا شوارع ولا مواصلات ولا اتصالات في عصر التكنولوجيا! ولا لقمة الخبز ولا نقول الغذاء الصحي ولا الدواء حيث تنعدم الصحة ورعايتها؛ ولا ماء ولا كهرباء؛ ولا تعليم ولا ثقافة حيث غذاء العقل والروح. ولا حتى أبسط حقوق الإنسان ممثلا في حقه في الحياة إذ حياته مهددة في غدوه وفي مرواحه! فأية حقوق للناس يمكن التحدث عنها في ظلال سلطة أحزاب الطائفية السياسية؟

وبالعودة لإشكالية الشريعة وتطبيقها، فإنه لا يمكن للسارق القاتل أن يكون هو المصلح الاجتماعي، الحامي للأخلاق، إذ كيف لناهب ثروات البلاد والعباد أن يكون حارسا حاميا راعيا!؟ وكيف لفاسق لا يحتفظ لحرمة بواجب، أن يكون راعيا للقيم ومرجعا يؤتمن على دين الناس؟ وكيف لجاهل مريض بكل تشوهات القيم أن يعلّم الناس دينهم؟ لقد مرت قرون في تاريخ الناس القديم وعقود في تاريخهم الحديث والمعاصر وهم  أنفسهم من يتمسك بالقيم ويعيد إنتاجها جيلا بعد جيل. فهل أدعياء التقوى من الفاسدين هم من يعلمونهم تاريخهم الروحي ويقوّمون معتقداتهم وقيمهم؟؟

إننا لا نتحدث جزافا فالتجربة اليومية الراهنة قد اثبتت أن ظواهر الفساد ليست حالات فردية محدودة بل هي حال من الاستشراء في بنية أدعياء التدين السياسي وأحزابهم وقياداتهم وأن الفساد بات منهجا يوميا شائعا في ممارسات ممثلي الطائفية السياسية أو أحزاب الإسلام السياسي، إن الفساد ظاهرة ملازمة لأدعياء التدين وسياسة ممنهجة وليست بظواهر خروقات فردية وأخطاء من عنصر أو آخر...

ولو افترضنا محدودية الفساد وقلنا إنه حالات فردية فلا يمكن لعاقل إلا أن يحسم أمر ذاك الفساد المحدود [افتراضا] في سقف محدود من الإجراءات،  أما والحال في ظلال سلطة الإسلام السياسي فإن الفساد بات الظاهرة الأقسى التي تلوث حياة الإنسان يوميا.. والجميع يعرف أن الأمر ليس فيمن يسرق دينارا لقوت أبنائه  وليس في لقمة تلتقطها أيادي الأرامل لأيتامهن من المزابل ومن بقايا أطعمة القصور الفخمة بل الأمر يعود سببه في أصحاب تلك القصور من المعممين الجدد!

فأي حقوق للناس والجياع في فجوة فقر رهيبة وأية حقوق ونسبة الفقر في الريف تكاد تساوي نسبة الفوز المزيف بالانتخابات التي عادة تعادل أكثر من 90% [في العراق مثلا نسبة الفقر في ريف السماوة 89%] وهي أرقام بقراءة أحزاب الإسلام السياسي وسلطتهم الحكومية التي ((غنموها))؟ وأي حقوق والقتل اليومي لا يتوقف على أيدي القتلة من الميليشيات ومن عناصر قوات ما ينبغي أن يكونوا حماة الأمن؟ أية حقوق والبيوت ليست محرومة من الماء والكهرباء حسب بل محرومة من أبسط شروط الحياة الكريمة؟؟؟

إن التيار الديموقراطي ليس بحاجة لتعريف الناس بنكباتهم وويلاتهم التي يحيونها يوميا.. ولكنه بحاجة إلى إنقاذهم من الاحباط واليأس من قدرتهم على التغيير، وعلى توضيح الحقيقة ليس فيمن يرتكب كل تلك الجرائم بحقهم بل في البرنامج الذي ينقذهم من براثن المجرم الذي بات معروفا...

إنّ جلّ الناس يعرفون الفاسد والمجرم ولكنهم لا يعرفون كيف السبيل للخلاص... لعل أول دروب الخلاص هو تقوية بنية أحزاب التيار الديموقراطي معرفيا ثقافيا لكي يكون سلاحهم في عصر المعارف والعلوم هو العقل العلمي ولكي يتمكنوا من أدواتهم في سياق الصراع المحتدم..

فليس أقوى من الإنسان؛ عندما يؤمن بقدراته ويثق بنفسه، لأنه في تلك الحال سيستطيع أداء الفعل الأقوى والتأثير الأشمل وسيجتذب الآخرين ويمضي في وحدة إنسانية (شعبية) واسعة وليس أقوى من الشعب إذا وجد قيادة رشيدة وبرنامج عمل صائب..

والنيات الطيبة لوحدها لا تكفي..فلقد عُرِف ديموقراطيون بأنهم أصحاب الأيادي البيضاء [النموذج العراقي]  ولكن تصويتا كافيا لم يأتِهم! إذن القضية تكمن في وسائل الوصول لجمهور التيار المدني الديموقراطي وبرامجه الصحية الصحيحة.. حيث ينبغي إزالة حاجز العداء بين التيار التنويري وجمهور الناس ذلك الحاجز الذي اختلقه المعممون المزيفون كي ينفردوا بالمحبطين ويمعنوا في استغلالهم..

كما ينبغي إزالة حاجز إرهاب الناس من الآخر ومعاناتهم من التقسيم على أسس طائفية وعرقية وغيرها.. فالمعممون الجدد يمتلكون نظاما ثيوقراطيا يساعدهم على إشاعة الانقسام بأسس دينية طائفية ومن ثم اختلاق حاجز الخوف بل الرعب من الآخر ما يجعل الإنسان المرعوب أسير من يوجهه بلا مقاومة فعلية..

وينبغي إخراج الناس من حاجز الانقسام السياسي بين القوى المدنية التنويرية ولابد هنا من عدم المساواة بين سلطة ثيوقراطية غاشمة وبين قوى أخرى يلتقي التيار الديموقراطي وإياها في التوجه المدني ولابد من أولويات  تكون أولا بتحالف واسع بين كل القوى الديموقراطية وتلك المدنية التنويرية الرافضة لفسلفة الحكم الديني المزعوم..

إن الانشغال بصراعات ثانوية أو بتضخيم لأخطاء الحلفاء أو ممارسة النضال السياسي بلا تحالفات تنظر إلى الأمور بواقعية تعترف بالميداني وبأولوياته، أمر خطير يجعلنا أضعف ما يكون في مجابهة تيار يستغل الجهل من جهة وكل أشكال التزييف والتحريف والتضليل لمواصلة سلطته الفاسدة..

إن تعرية حالات الادعاء الديني وفضحه تحديدا في وسط جمهور محبط مستسلم أو أسير تيار التأسلم الكاذب أمر يبقى ذا أولوية عليا. فيما تعرية الفساد والإرهاب ومرجعيتهما الكامنة في الطائفية السياسية أو ما يسمى أحزاب التيار الديني الذي يشكل أرضية للجريمتين فقضية تمتلك ذات الأولوية بقدر تعلقها باستلاب حقوق الناس ومصادرتها..

لا عداء بين القوى المدنية ومعتقدات الناس ومن ثمّ لا عداء بينهم وخيارات الناس الروحية بل هم أصدقاء حلفاء؛ وهم أولى في تلبيتها ورعايتها وحمايتها وتفعيل منطق الثقافة الروحية بصورها الصحيحة الصائبة وبما يستجيب لما ينتجه الشعب من تلك القيم الإيجابية تحديدا... وعلى وفق ذلك وُلِدت وتولد القوى المدنية من رحم الناس ومطالبهم وتطلعاتهم  ومن ثم تكون تلك القوى هي ذات المصداقية الأعلى في تقديم برامج البناء وتلبية الحقوق والمطالب الروحية مثلما المادية...

ينبغي اليوم، أن تستعيد الناس صحوتها في تبني من أنجبتهم من رحمها بعقول علمية يمكنها أن تحقق الإنقاذ من براثن الفقر وممن تسبب فيه من مجرمي الفساد والإرهاب وبالتأكيد من أحزاب الطائفية السياسية التي تدعي التأسلم وتشكل تيار الإسلام السياسي الحاضن الفعلي لكل ما يجري اليوم من أسباب معاناة شعوبنا...

 

ليقل كل منا أنه لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وليتصالح كل منا مع نفسه وليمنحها الثقة في القرار وليتجه ليس إلى حيث خضعت في ظروف غسيل الأدمغة والتضليل بزيف ادعاء تيار التأسلم القدسية بل إلى حيث تتطلب عمليات بناء الذات موضوعيا بمنطق العقل العلمي.. وهذي المعالجة ليست ضد الشخص الذي أخطأ الاختيار وليست ضد أعضاء تيار بل هي محاولة لانتشال من براثن الفكرة الخطأ الفكرة التضليل والفكرة التي تأسرنا جميعا وتضعنا في أتون حروب الطغاة والمستغلين؛ فيما كرّم الله بني آدم بالعقل وأمرهم بإعمار الأرض التي استخلفهم عليها ومن هنا فلا قبول بالجهل وأمراضه ولا بالتخلف والظلامية ولا بطقسيات مصطنعة يفتعلها ممثلو تيار الطائفية والإسلام السياسي بقصد مشاغلتنا عن ديننا الصحيح يوم وضعوه بقوالب وجعلوه أسير الزيف والادعاء فيما حقوقنا وبناء حيواتنا وحرياتنا لا يمكن إلا أن تأتي بخياراتنا صحيحة صحية سليمة...

لابد من مراجعة الذات اليوم قبل الغد. وليكن خيارنا إصلاح الذات يعني إصلاح بيئتنا ومن ثم مسارنا ونحن جميعا نستحق الحياة  الإنسانية الحرة الكريمة بغنى ما بين أيدينا وبفعل ما ينبغي أن نمارسه ونتخذه من خيار.. فلا نقبلن التخندق ولنرفض البقاء أسرى التضليل والسير وراء من وضعنا في حضيرة جاعلا منا غنائمه التي استباح فيها كل أمر!

إنَّ هذه المعالجة وما تتضمنه من دعوة، ليست بحثا أكاديميا ولا مناقشة محكومة بشروط المعالجات الرياضية البحتة بل هي تداعيات قد تثير لدى أي طرف وأولهم طرف التيار المدني الديموقراطي للتفكر في الأولويات في مفردات برامجه وعمله وتحالفاته... ولربما برز لقارئي الكريم ما يدعوه للتفاعل والتداخل وإنني لأؤكد احترامي كل الرؤى والمعالجات والشرط دائما أن الثابت النهائي هو الإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته والموضوعية ومنطق العقل في الحوار.. وتحية