المصالحة الوطنية
لا تُوقِفُ مُحاكمَةَ المُجرِمين والقصاص من جرائِمِهِم

القسم الأول: رؤية المصالحة ومبادئها

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  12 \  29

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

Published on ELAPH website (ASDAA)

 

تنطلق دعوات المصالحة الوطنية في عراق اليوم انسجاما مع التوجهات الجدية لإنشاء عراق ديموقراطي تعددي؛ يوقف زمن الأحادية والتفرد بالسلطة وإخضاعها لقرارات الدكتاتور ومصالحه. إنَّ أكثر مَنْ يحمل راية المصالحة هم دعاة الديموقراطية الحقيقيون..

ولكنَّنا يمكن أنْ نجد تشويشاَ َ على مسار هذه الدعوة انطلاقا من محاولة استغلالها لتشمل قوى لم تؤمن بالديموقراطية ولا تريد حتى الاعتذار عن جرائم ارتكبتها في ظل حكم الطغيان والاستبداد وتلتزمها فكرا وبرنامجا سياسيا خاصا بها من دون التراجع عنها...

و تشدِّد هذه القوى على [حقها في التعبير عن فكرها الأصولي الفاشي العنصري] على أساس أنَّ الديموقراطية التي لا تستوعب تعبير [الجميع والجميع هنا يخص وجودهم فقط] تظل ناقصة ومشوهة بل هم يعلنون الحرب عليها, لوقفها حتى تتاح لهم فرصة عمل العنصرية الفاشية في أجواء الديموقراطية المنشودة...

إنَّ تلك الدعوات تنطوي على أمرين اثنين الأول يكمن في  التغطية على كلّ الجرائم التي اُرتُكِبت في ظل النظام السابق وعلى العناصر التي شاركت في الجريمة بحق شعبنا وبحق شعوب العالم ودولـِهِ.. على أساس أنَّ المصالحة تقتضي التسامح وعفا الله عمّا سلف!!! ولا تتمّ مصالحة [حسب رؤاهم] بغير وقف محاكمة أولئك المجرمين والاقتصاص من جرائمهم؟!!

والأمر الآخر بعد طمس الجريمة ومعالمها والتغطية على المجرمين, يكمن في البحث عن موطئ قدم ومكان لهذه القوى التخريبية في الوضع العراقي الجديد. ونحن نرى أنَّ سياسة إرهاب الشارع ما زالت ماثلة في خططهم عبر ترويع الأصوات التي تريد الفكاك من إسارهم ومن رؤاهم وأساليب عيشهم وعدم الاكتفاء بالتهديد للقوى الديموقراطية وقوى السلم الاجتماعي الوطنية العراقية..

إنَّ إشادة مجتمع السلم والديموقراطية والحريات العامة والتعددية, لايعني البتة إجازة قوى لا تؤمن بتلك المبادئ وهي تعمل جهارا نهارا ضدها.. كما لم تعن ِ الديموقراطية يوما إتاحة الفرصة للمجرمين أنْ يعبِّروا بحرية عن رؤاهم العنصرية الفاشية!! وأنْ يمارسوا الجريمة!!! ولكنَّ الديموقراطية ذاتها تستدعي إلزاما للقوى العاملة في ظلالها لكي تضع نصب عينيها موضوع السلم واحترام الآخر وأنْ تضمّنهما في جوهر سلوكها..

الديموقراطية أيضا لا توافق على شعار الفاشست الجدد [الحرية قبل العنصرية أو فوقها] بمعنى حق القوى الفاشية والعنصرية في العمل السياسي؟!! ولاندري كيف سيجتمع العمل السياسي السلمي مع الفكر العسكري القتالي المعادي لأمن المجتمع وأمانه واستقراره وكيف لنا أنْ نقبل قوى التخريب الاجتماعي والسياسي لتعمل من دون محاسبة؟!!

كيف يقنع هؤلاء شعبنا العراقي بأطيافه العلمانية والليبرالية ومن اليسار واليمين كيف يقنعون أبناء الضحايا والضحايا أنفسهم.. أنَّ من المصلحة الوطنية استمرار المجرم الذي عمل على اغتصاب الكرامة والشرف منهم وأخذ ورد شبابهم وحياة أعزّ الناس, استمرار ذاك المجرم بالعيش آمنا لمجرد كون شعبنا متسامح ويريد العيش بسلام؟!

إنَّ إشادة الديموقراطية والمحافظة عليها تحتاج إلى تنظيم الحياة على أسس مغايرة جذريا وهو الأمر الذي يفرض التأكيد على محاسبة أيّ طرف يخترق تلك الأسس ومحاكمة جرائمه بحق حرية التعبير والأمن والسلام بوصفهما قاعدة الديموقراطية وأسّ حمايتها والسير في طريقها.. بمعنى انطلاق المجتمع الجديد من إنهاء العهد الدموي  السابق ومحاكمة جرائمه الكبرى إنذارا لكلّ مَنْ تسوّل له نفسه للعودة بنا إلى ذاك الماضي البغيض.. وإيذانا بأنَّ العهد الجديد هو عهد الطمأنينة والأمان...

أما مَنْ المقصود بالمصالحة الوطنية فهم كلّ فئات شعبنا العراقي من دون استثناء سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين, وسواء كانوا شيعة أم سنّة, وسواء كانوا كردا أم كلدوآشوريين أم تركمان أم عربا, وسواء كانوا علمانيين ومن اليسار أم من اليمين.. كلّهم مدعوون لحمل مبادئ التعايش السلمي ومن ثمَّ المصالحة الوطنية الحقيقية التي تصمد أمام كلّ الهجمات وأعمال التخريب من أجل جيل عراقي يحيا بسلام وحرية...

الاستثناء الوحيد ليس استثناء بالمعنى الطبيعي لأنَّه يُخرِج القسم الذي يرفض الانتماء للحياة السلمية الطبيعية للمجتمع الإنساني.. إنَّه استثناء منقطع [كما يعبر عنه قول النُحاة بدقة] وليس متصلا بمعنى أنَّ المستثنى لا ينتمي بالمرّة إلى جنس المستثنى منه ولا يتصل به لا من قريب ولا من بعيد وعليه فهو ليس استثناء ولكنّه تجنيب القاعدة والكلّ والمجموع شرَّ فئة دخيلة لا تختلف مع هذا الكلّ وقواعده بل تعمل على تقويضه وتدميره وإخضاعه لاستبداد الفئة المريضة التي لا تكتفي حسب رؤيتها الخاصة بما بين يديها بل دوما هي في طمع وعينها على ما في يد الآخر حتى أنفاسه تريد امتلاكها وتطويعها لمآربها الرديئة.. فهل هذا استثناء ونقص في الديموقراطية؟

 

 

1