مؤتمر الدوحة يطلق مشروعا نهضويا للغة العربية، يستجيب لمتغيرات العصر ومنطقه

عنوانه: منتدى النهوض باللغة العربية

 

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس الجمعية الهولندية لأساتذة اللغة العربية

tayseer54@hotmail.com

chancellor@averroesuniversity.org

 

 

قبل البدء: توافدت الشخصيات العلمية المتخصصة من ممثلي المجامع اللغوية والمؤسسات البحثية ومن منتجي خطاب النهضة الثقافي المعرفي الجديد وممن تصدوا لإشكاليات اللغة ومعاجمها ومناهج دراستها وتفعيل أدوارها الحياتية والارتقاء بها لمستوى متغيرات العلوم وطبيعة العصر؛ لتلتقي في  دوحة قطر، بدعوة رسمية من منتدى النهوض باللغة العربية. وقد سجل أعضاء المؤتمر عميق الشكر والامتنان لحفاوة الاستقبال التي جسدت قيم الإيجاب والتفتح لشعب قطر وحكومته، ولتلك الرعاية المباشرة من صاحبة السمو الشيخة موزة بنت ناصر ولاهتمامها بأن تكون المبادرة بعمق استراتيجي يتخذ من حركة النهضة المتجددة علامة ويلج باللغة عالم الحداثة والمعاصرة بما يفتح آفاق التطور والتقدم بمشاركة ميادين التغيير والانعتاق والتحرير الجارية اليوم في عالمنا ومنطقتنا. ولقد جسدت قرارات المؤتمر في توصياتها  علامات إجرائية لتمكين المنتدى من التحول إلى مرجعية علمية والتحول من تأسيسية المبادرة إلى منهج عمل نوعي جديد يحقق دفعا عمليا فعليا لمسيرة نهضوية في إطار لغتنا العربية كما يحقق التفاعل بينها وبين مسار التغيير الثوري العاصف بمجمل مفرداته.

 

اللغة والحياة الإنسانية: عاش الإنسان في تاريخه القديم ظروفا بتنا ندرسها من بوابة بدائية أشكال الاتصال والتجمعات البشرية وطبيعة الأنشطة الحياتية. ولم يتقدم أيّ من تلك الفضاءات إلا بوساطة تعزز قدرات الاتصال بتقدم اللغة ومن ثمّ تنامي إمكانات الإنسان في التعبير والتفكير. وكانت (اللغة) وسيلة تمدّن البشرية واستقرارها، قد جاءت عبر ثراء المنطق العقلي واشتغاله بغنى ثروته اللغوية وتقدمها... إذ ليس من طاقات للإنتاج الفكري المعرفي من دون آليات اشتغال العقل وامتلاكه أداة الاشتغال الرئيسة، وهنا الإشارة إلى اللغة تحديدا وتوكيدا.

واليوم في ظل الحديث عن التنمية ومنها التنمية البشرية لا يمكننا توفير مصداقية التوجه ولا تحقيق مفردات تنموية، ما لم نمتلك عناية بأولوية اللغة. إذ كيف يمكننا أن نساعد أحدا في امتلاك فكرة أو علم أو في التعامل مع منطق العصر وتقدم علومه وتعقيدات التطور التكنولوجي، ما لم يمتلك ثروة معجمية مناسبة من لغة بعينها... إنّ تحقيق التنمية لا يمكن أن يتمّ من دون ثروة لغوية وافية.. ومن ثمّ وجب علينا بهذا الخصوص أن نوجه الاهتمام جوهريا نحو مستويات اللغة وآليات تفاعلنا ومع محاور وجودها واشتغالها..

لقد أشارت التجربة البشرية إلى أنّ لغة القوم تتبادل التأثير مع واقع  منظومة وجودهم ومستويات تمدنه وتحضره. ومن هنا فإن نموذج اللغة العربية بين اللغات البشرية الأخرى كان مؤثرا في كثير من اللغات يوم كانت مدن العربية حاضرة الدنيا ومقصدها في تلقي العلوم. يومها كان معجم العربية يتسع وينمو بتسارع جسّد تلك التطورات المعرفية وبنية الحياة العامة. ومع تدهور وتراجع حضاري جرى في مرحلة تالية، بات المعجم يعكس في تلك المرحلة، خطابا متكلسا ضمرت فيه ثروته اللغوية وانحسرت فباتت بحدود نتاجات شعرية تحاكي قضايا هامشية في الوجود الإنساني وبحدود انغلاق التفكير ومغادرته التفتح والتنوير وتركه منطق العقل العلمي.

لكن أبناء العربية وبناتها، عادوا ليطلقوا نداء نهضويا مذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ إلا أننا سرعان ما جابهنا عقبات وتحديات أجهضت المشروع النهضوي الأول، ووضعته خارج مسار التطور المعاصر للشعوب والأمم. وعلى الرغم من تحولات واعية من الجهود الفردية إلى الجهود المؤسساتية، فإنّ كثيرا من تلك الجهود كانت تولد خاوية أو محاصرة مقيّدة لأسباب مختلفة يمكن دراستها في مواضعها. ولعل أبرز حال يمكننا فيها رصد الكبوات هي تلك التي رافقت مسار الجمعيات الأدبية والثقافية والمجامع اللغوية وأقسام اللغة العربية في الكليات والجامعات وليدة القرن الماضي، وهي مازالت تئن من مناهج ماضوية ومشكلات عقدية كثيرة...

وقبل الإشارة إلى تلك الظروف المركبة وأوصابها، نجدد الإشارة إلى أنَّ التنمية البشرية لا يمكنها أنْ تتحقق في ظرف شيوع الأمية الأبجدية التي تكاد تصيب ثلث سكان البلدان الناطقة بالعربية. وهي تزداد في بعضها لتقترب من نسبة أكثر من 50% اليوم. دع عنك النتيجة الطبيعية لهذه الأمية الأبجدية حيث الأمية الحضارية \ الثقافية. وأنت إذا تقدمت نحو المدارس والجامعات فستجد ضعفا وهزالا وسقما، حتى أنك تجد في قراءة إحصائية  ابتدائية لمتوسط الثروة المعجمية لدى الطلبة هي أضعف بكثير من مستوياتها بالمقارنة مع أقرانهم في مستويات نظيرة في البلدان المتقدمة.. وهذا انعكاس لهزال ثروة أساتذتهم من جهة ولعلل النظام التعليمي برمته من جهة أخرى.

وأمة اقرأ لا تقرأ؛ وهي تتكئ على أمجاد الماضي التليد وتتغنى به، في زمن يقول: "إنّ الاتكاء على وسائد التراث لا يكفي لإنجاز فعل معاصر". ولا أشير هنا بعبارة (أمة اقرأ لا تقرأ) إلى الأميين حسب بل إلى المتعلمين الذين لا يقرأ أحدهم من كتبه المقررة سوى الحد الأدنى مما يجعله يجتاز واجب الاختبارات السطحية في آلياتها وفيما يشكل معدل قراءة الفرد في الدول المتقدمة عشرات الكتب سنويا لايصل المعدل لصفحة واحدة عندنا بل يمكننا أن نشاهد تكرارا لهذه المأساة في انتشار الأمية بين أبناء جالياتنا في المهاجر وهم يمثلون عشرات الملايين ما يفقدهم الهوية والشخصية العلمية ويجعلهم بمواضع أدنى ويبعدهم عن التأثير بمحيطهم والتفاعل معه، دع عنك افتقاد كثير من علمائنا وأساتذة الجامعات والدرس اللغوي تحديدا لفرص العمل وتشغيلهم هناك في تلك المهاجر ومنى ثمّ افتقادهم للقراءة ومتابعة البحث والإنتاج المعرفي.. وبالاتجاه نحو الباحثين، تحديدا المتخصصين باللغة في عموم منطقتنا، نجد أنّ كثيرا منهم لا يجد سوى كلاسيات الكتب العتيقة يكررون اجترار ما فيها على وفق نظم الدرس التقليدي في الكليات والمعاهد. بالمقابل فإن التكنولوجيا الحديثة وأجهزة الكومبيوتر صرفت بعضهم الآخر عن الكتاب فوجهته إلى قراءات ولكنها بأغلبها خارج دوائر العلوم والمعارف...

إنّ الأمم المتقدمة اليوم، تنتج من الكتب والمطبوعات والنشريات الألكترونية العلمية والأدبية والثقافية العامة ما يقدم للفرد ثروة مهمة يعكف على استيعابها وهضمها فرديا وجمعيا مؤسساتيا بأفضل محفزات الدعم والتشجيع. ولكل فرد ثروته اللغوية الغنية ليس بمحفوظ معجمي جامد بل بأداء تفاعلي يجعله من الغنى ما يؤهله للانتماء لعصره وحاجاته... وهذا أمر يذكرنا بالمقارنة ثقافيا بين فرد باريسي أو لندني أو نيويوركي وآخر بيروتي أو دمشقي أو أسكندري وخذ ما شئت من نماذج المقارنة عندها ستجد الفارق الحضاري وطبيعة تأثير التنمية البشرية وانعكاسها في الثراء ءاللغوي بحسب كل لغة ينتمي إليها الفرد.

إن تلكم المهمة لا تأتي من فراغ، بل هي ناجمة عن علاقة الفرد بالعلم وبمستوى التقدم البشري من جهة وعن درجة تفاعل مسؤولة من الجهات المعنية بالتخصص من جهة أخرى. إذ تولد يوميا بل كل ساعة وربما بالدقائق مفردات ومصطلحات في جميع اللغات الحية. وفي أغلب الدول المتقدمة، لا يجابهون عقدة الأحادية اللغوية بل يدمجون الجديد في جسد اللغة كونه أمرا واقعا بات مفروغا منه وحقيقة تنتمي إلى معجم لغة أمة أو أخرى..

والآن، كيف هي الأمور مع واقع لغتنا العربية؟ ما أوضاع فصيحها ومحكيها أو دارجها المحلي؟ ما التناسب في الاستخدام اليومي بين المستويين؟ لماذا غلبة العامي على الفصيح في الاستخدام الشائع؟ لماذا شرخ العمق في الفروق بين لهجي وآخر؟ هل  يساعد هذا على  استخدام موضوعي سليم للغة في الحصول على المعارف والعلوم؟ كيف يمكن توسيع الفصيح اللغوي بلا افتعال وتصنّع؟ وكيف يمكن حلحلة مشكلات الفصيح؟ كيف يمكن للغة العربية أن تستعيد حيوية الاستيلاد ومتابعة التطورات القائمة بدل وقوفها على أطلال المعجم القديم؟ بمعنى آخر كيف نمنح الحياة للغة التعبير العريقة من جهة ولخطابها المعرفي الحديث من جهة أخرى؟ وما المشكلات الفردية والجمعية \ المؤسساتية المعرقلة لسنن التطور اللغوي؟ كيف يمكننا تحقيق إعادة الحياة للمشروع النهضوي ودفعه للارتقاء الجدي الملموس بواقعنا اللغوي تحديدا؟

أسئلة تحيل بإشاراتها إلى المسؤولين عن التربية اللغوية بدءا من الأهل في المنزل حيث مسؤولية الأسرة، التي تكتنفها معالم ضعف بسبب من ظروف انتشار الأمية من جهة وهزال الثروة المعجمية وتراجع الثقافة النفسية والمفردات المعرفية وكذلك الخبرات والمؤهلات المخصوصة فضلا عن الإمكانات المادية والانشغال بهموم اليوم العادي.. أما المدرسة والمؤسسات المجتمعية الأخرى فربما ليس من مهام وجودها ما ينهض بحل أو معالجة لهزيمة مفهوم العمل المؤسساتي الجمعي وسلطان الهموم الوظيفية الفردية حيث الهمّ يكمن في أداء وظيفة للاعتياش والاسترزاق بلا انتباه لسمو المهمة الوظيفية وعظمة الواجب الإنساني المنتظر فضلا عن المحاصرة والاستلاب والتقييد التي تشمل أغلب الجمعيات اللغوية... وبتقدم استقرائنا نصل إلى أدوار المجامع العلمية للغة العربية تلك التي كان لها فعلها الحيوي في بعض المحاور، لكننا عندما نتعمق النظر في طبيعة أبرز مؤسسة تعنى باللغة العربية أي المجامع سرعان ما نصطدم بظواهر وتعقيدات تلف أجواءها نجملها بالآتي:

01.     فأولا نصطدم بولادة تلك المجامع في محيط لا يمتلك استراتيجيات في العمل العام، وبالتأكيد ينعكس هذا في انعدام استراتيجيات الاهتمام بالنهضة اللغوية؛ كما أن المجامع ذاتها غير مؤهلة، بسبب من ظروف ذاتية، لتبني استراتيجيات لغوية نهضوية مؤملة..

02.    ونصطدم بولادة المجامع بإطارات تحاصرها (حدود البلدان) التي تولد فيها، فتنعدم أشكال التنسيق على مستوى الناطقين بالعربية والمعنيين بها.. وهذه السمة، أي سمة الوجود المنعزل المنفصم في حدود كل بلد باتت حاجزا سلبيا ضد توحيد الجهد للغة الواحدة.. ولست أعرف مبررا لعدم وجود (مرجعية علمية واحدة) للغة واحدة هنا طبعا نقصد اللغة العربية وهي توكيدا لغة واحدة وليست مجموعة لغات..

03.    ونصطدم بتكليف شخصيات في إدارة المجامع، هي ليست دائما، من تلك التي يعنيها الهمّ اللغوي ولا التقدم به نوعيا. فضلا عن اصطدامنا بالمرجعية المعرفية الفكرية لكثير من تلك الشخصيات؛ إذ نجد أغلب المجمعيين ينتسبون للمدرسة التي تحنطت واكتفت بالتقليدي القديم والانشغال بإعادة تبويبه لا غير وبخلل (منهجي) في جهودهم...

04.    ويصطدم المتفحص بسوء التفاعل مع المتغيرات العلمية ومناهجها.. ومن ذلك إهمال توظيف مناهج الألسنية الحديثة. إلى جانب إهمال توظيف تكنولوجيا العصر في الجهد المجمعي في كثير من الأحيان والأنشطة وإن تمّ استعمالها ففي نطاقات هامشية محدودة..

05.    وبخضوع جهود المجامع اللغوية في الغالب لسياسات الحكومات المحلية.. ومن نتائج عاملي ضعف قيادات تلك المجامع وضعف استقلاليتها، وقوعها [أي وقوع المجامع] ضحية الإهمال والتهميش وغياب الإرادة السياسية وسلطة القرار الإيجابي...

06.    كما نصطدم بانعزال المجامع اللغوية عن المجتمعات من منطلقات ودواعي عديدة منها السلوك النخبوي المنفصم والمتعالي وانتماء ممارسات أغلب المجمعيين لنتاجات العصرين القديم والوسيط للغة، دع عنك ممارسة دور الوصاية السلبية  على لسان المحكي الشعبي بدل إعمال المعالجات الموضوعية للدارج العامي...

07.    وبإهمال البحث اللغوي العلمي الحديث، وإهمال الصلات بمراكز البحوث وبالأقسام العلمية  المتخصصة في الجامعات مع إهمال المختبرات اللغوية ومعاملها بشأن الدرس الصوتي وغيره من المفردات والدروس أيضا.

08.    وإهمال متعمد للباحثين الجدد في مجال اللغة والوقوف ضد دخول الدماء الشابة لمجامع اللغة – مع وجود حالات إدخال شكلية لبعض العاملين الشباب -  الأمر الذي يمنع صلات المجامع اللغوية بأمرين مهمين هما: 

أ‌.           التحديث ومطاردة الجديد المعرفي لغويا، وإثراء المعجم وأساليب التعبير وتركيبات الخطاب اللغوي المعاصر.

ب‌.                        القدرات البشرية التي يمكنها استعمال التكنولوجيا الحديثة في جهود البحث وإجراءات الأنشطة والأعمال اللغوية.

09.    انعزال عن تطورات العلوم المساعدة مثل العلوم النفسية والتربوية والاجتماعية والفيزيائية وغيرها كثير مما يدخل في تفعيل جهود البحث اللغوي..

10.    خلو المؤتمرات من الانتظام ومن العمق لحساب الأداء البروتوكولي الشكلاني.. وتحكم الظروف الطارئة بانعقاد أغلب تلك المؤتمرات بلا دراسات مسبقة... وهي في بعض حالات انعقادها  يحكم المشاركة بها المواقف المزاجية وأحيانا اعتبارات غير موضوعية أو علاقات شخصية.. فتأتي النتائج مخيبة للمرجو منها لخلو أوراق المنصة والبحث من العمق والغنى العلميين...

11.    انعدام إحصاءات متكاملة لخبراء اللغة ومتخصصيها وعدم توافرها لدى المجامع كما نرصد خلو الساحة من هيآت أكاديمية  قومية لأساتذة التخصص مثل الجمعية العربية لأساتذة اللغة وللسيميائيات والأدب وغيره ومن ثمّ خلو فضاء العمل من الإحصاء ومن العمل الجمعي المؤسساتي بما يرتقي بمهام المتابعة العلمية المتخصصة ويقدم تلك الإحصاءات الضرورية، لأية دراسة معرفية علمية منتظرة...

12.    ورسميا جرت وتجري تجديدات على أغلب تركيبات المجامع الموجودة ومن ذلك استحداث "اتحاد المجامع..." وفي حقيقة ما جرى بقيت الأمور محكومة بممارسة إدارية بحتة أو جهود غير ذات تأثير فعلي.. فيما تبقى الحاجة هنا لـ"مرجعية علمية موحدة للغة العربية" يحتضنها المشروع النهضوي المنتظر..

 

 

أما التحديات التي تواجه اللغة العربية بوجهها التعميمي الأشمل، فيمكن إيجاز ما نرصده  بتحديات من داخل وجود الأمة وشعوبها وأخرى من طبيعة العصر وكينونة تطوراته الجوهرية.. أما تلك المخصوصة بشعوب الأمة فتكمن في التخلف والأمية والجهل وسطوة عقلية الخرافة فيما يمثل هذا انعكاسا لخواء الفكر الماضوي وعدم مجاراته للعصر لاعتماد نسبة كبيرة من النخبة المجمعية على آليات الخطاب البياني لا البرهاني وشيوع الإنشائيات والوصفية السلبية على حساب التحليل العلمي والبناء المعرفي الذي يستنطق الحداثي ويتفاعل معه من الداخل وليس بشكلانيات القشرة الخارجية.. فيما التحديات المستجدة تكمن في طبيعة العصر وسرعة المتغيرات العاصفة التي تحتاج لمتغيرات نوعية في مجارات تقدمها الثوري.

 

ومن أجل منهجة القراءة نتساءل: عن المطلب الرئيس والأساس من هذه المداخلة؟ ومن الذي سيعتني باللغة غير أهلها؟ ومن ثمّ ما وسائل النهوض باللغة؟

إنّ السؤال الأساس لابد سيعالج الأزمة الكبيرة التي تحياها اللغة العربية وسط أهلها، معالجة لا تتم وصفيا إنشائيا ولا بخطاب بياني بل تحديدا بما يؤدي إلى العمل على غرس بذرة نهضوية استراتيجية، نوعية في عمق منجزها المتطلع إليه، بعيدة المدى وشاملة مناحي وظواهر متنوعة في إطار الوجود اللغوي. ولن يأتي هنا طرف غريب ليمارس هذه المهمة قدر دور أهلها، يوم يولد في الوعيين الجمعي والفردي موقف يرى أن احترام الذات والاعتناء برقيِّهِا ومن ثمّ بإطلاق تنمية بشرية حقيقية، يبدأ من الاعتناء باللغة وبحل معضلاتها وتفكيك أزمتها ومعالجة ما ينبغي في نطاق مشروع نهضوي شامل.

أما الوسائل التي ينبغي أن يتم استعمالها لهذه المهمة النهضوية فتكمن في مشروع جديد يتجاوز الحدود المحلية ليس اعتمادا لمبدأ انتمائه للغة واحدة فقط، ولكن خلاصا من التبعية لسياسات محدودة وربما مرضية وخلاصا من العزلة ومن تشرذم الجهود ومن وضعها في أبراج عاجية بعيدة عن الناس وكسرا لأقفاص عزلتها عن علوم العصر ومتغيراته الثورية الجديدة..

إنّ هذا المشروع الكبير لا يمكنه أن يتحقق ما لم يجد داعما أو رافعا ماديا ملموسا يتجسد بمؤسسة تختلف نوعيا عن المجامع الوطنية ولكنها لا تنقطع عن مهمة تفعيلها وجذبها باتجاه المهام النوعية الجديدة.. وهذه المؤسسة هي الانعكاس الملموس لمتغيرات الشارع المجتمعي بربيع الثورات العربية وشعوب المنطقة كافة. وهي ثورات تعني التغيير النوعي وولوج آفاق عصرنا وحداثته التي تنتظر منا تحديثا لمساراتنا وابتعادا عن الرتابة وعن السلبية والركون للعزلة والانغلاق والتفاعلات القائمة على التذمر وخطاب التعبير البياني بدل معايشة آليات العصر بآليات العقل ومنطق التنوير فيه...

ما ينتظره المتخصصون من النخبة الفاعلة إيجابا ومن شعوب المنطقة هو تفعيل الجهود بأسس علمية وبوحدة المسار للغتنا ولمشروع نهضوي مميز يستجيب لمنطق الثورات التي اكتسحت القمقم وكسرت حواجزه ولكن مؤسسة العقل ولغته هي الأخرى تنتظر ثورتها ومشروعها في التغيير والتقدم.

وفي ضوء أهمية ألا نقع في تكرار الاجتماعات والمؤتمرات والشروع من الصفر باستمرار، بات مهما أن نستثمر آخر المنجزات لتكون موئل الربط بين المؤتمرات والمشروعات السابقة وبين آفاق التحديث والتغيير. ولعل أحد أبرز معالم الانعقاد التي جاءت مؤخرا بحضور اتحاد المجامع وممثلي المجامع اللغوية والمنتديات والجمعيات المتخصصة وأقسام اللغة العربية ومراكز البحث والشخصيات العلمية المعنية، كان انعقاد منتدى النهوض باللغة العربية في الدوحة فرصة لتوكيد أمرين:

1.            ضرورة  ولوج مسيرة التحديث، والشروع بنقلة نوعية من التغيير الذي يمكنه أن يكون مشروعا استراتيجيا شاملا.

2.            والأمر الآخر يكمن في ألا يلغي المشروع الجديد ما سبقه وما جاوره من مشروعات وأنشطة نهضوية بل يعمّدها ويفعلّها على ألا يقف مراوحا عند الماضويات التي تحنطت كما هو الأمر لدى بعض الأصوات..

 

إنّ هذا الملتقى الذي تقرر له أن يكون دوري الانعقاد، بحاجة لرعاية وإدامة كي لا يقع أسير محاكاة التجاريب السابقة كأن ينحصر باستيلاد مجمع لغوي محلي جديد أو أن يكون منتدى منفصلا عن جهتي القرار اللغوي ممثلة حاليا بمتعدد المجامع من جهة وبمستعملي اللغة من العامة من جهة أخرى. وهذا سيتطلب تمكين نخبة ممن صاغوا قرارته وتوصياته على عقد سلسلة أنشطة تحضيرية لولادة مؤسساتية للمنتدى الذي يجسد المشروع النهضوي بحجمه النوعي الكبير.

وسلسلة الأنشطة والاجتماعات تقوم على إعداد ورقة عمل موحدة تتضمن ((النظام الأساس للمنتدى)) كونه المرجعية العلمية الموحدة التي  تتقدم مسيرة المشروع النهضوي وهو المشروع الذي يحفل بـ (مجمع الخبراء) وتتبع له لجان التخصص في ميادين الدراسات الألسنية بتنوعاتها. وأن تنطلق أرضية التنسيق بين مجمع الخبراء والمجامع من جهة وبينه وبين اتحاد المجامع من جهة أخرى مع دعم ولادة الهيآت الأكاديمية القومية للغة عبر منافذ يقننها النظام الأساس للعمل العلمي اللغوي..

وما هو مطلوب الآن، يكمن في استعراض التوصيات مجددا ووضع آليات تجسيدها عمليا فعليا، بدءا من مأسسة المنتدى كونه محفلا عاملا يكون أحد أنشطته المؤتمر السنوي مع تحديد طبيعة هذا المؤتمر ومهامه. لكن المأسسة المطلوبة لن تنطلق إلا من ورقة عمل تتضمن ((النظام الأساس)) الذي يبقى بحاجة لمدارسة من جميع الأطراف والاستماع للرؤى والمعالجات من الجهات التي حضرت المؤتمر التأسيسي الأول الذي انطلق في ضوء المبادرة القطرية ورعاتها...

إنّ انفتاح المبادرة على ضم ممثلي المجامع اللغوية والمنتديات والجمعيات والمراكز البحثية هو جوهر نجاحها المنظور. لأنها رفضت الانكباب على المحلي وكسرت أي احتمال لموضعتها ومحاصرتها بالتقليدي المحدود. وفي وقت ينبغي توجيه التحية لاثنين كانا علامة لمؤتمر منتدى النهوض باللغة العربية؛  تمثلا في رعاية كريمة مميزة منفتحة على المعرفي وعلى العمل الجمعي المؤسساتي.. وفي عقول علمية قدمت رؤيتها لتعميق المبادرة وجعلها على وفق المتطلع إليه من بعد نوعي وتلبية لاستراتيجية شاملة للمهمة النهضوية، ينبغي في الوقت ذاته أن نؤكد على أن سر النجاح سيكون في استمرارية الفعل وافتتاح مقر وإدارة مشروع المنتدى ليتابع خطة السياسة اللغوية النهضوية المؤملة... على أن يشتمل المقر المؤقت على علماء اللغة وأساتذتها المتخصصين وعلى الموظفين والإدارات التنفيذية المساعدة مع الانتباه على مسألة التمويل وحجمه الذي يستطيع متابعة الأنشطة المرتقبة...

إنّ وضع رأسمال استثماري لصالح هذه المهمة النبيلة السامية ليس قرارا طارئا ولا عملا عبثيا محدودا ولكنه بحاجة لانطلاقة في ضوء دراسة موضوعية تقرأ كل جوانب الأداء وخطة عمل يمكن لمن نهض بالتحضير للمؤتمر الأول أن يشارك مجموعة منتخبة من ذوي الخبرة في وضع التقديرات المناسبة للموازنات الأولى.

إنما العبرة الحقيقية ستبقى في رأس المال البشري لا رأس المال المالي. وحيثما اتحد الاثنان في خطة ترسم (سياسة لغوية) مدروسة ولقوانين مؤسساتية ناضجة كان النجاح حليف حركة نهضوية جديدة تستطيع الإجابة عن سؤال النهضة الأول الذي صادفته العراقيل والكبوات طوال قرن. ولربما كان ربيع الثورات في السياسة والنظم العامة الجارية بقوة اليوم في منطقتنا، سببا دافعا آخر لمثل هذا المنتدى وانطلاقة ثورة نهضوية في اللغة وخطاباتها ومناهج الأداء فيها.

تبقى كلمة تحية وتقدير، بهذه المناسبة، ينبغي توجيهها إلى جميع المهتمين بلغتنا وأنشطتهم كافة؛ وإلى المشاركات والمشاركين في المؤتمر الأول لمنتدى النهوض باللغة العربية المنعقد في الدوحة ولخطاباتهم وجهودهم وإلى اللجنة التحضيرية التي خططت للمؤتمر وإلى كل الشابات والشباب من قطر وقد نهضوا بمهمة توفير الأجواء الأنسب لعمل الوفود ومسارات أنشطة المؤتمر.. وبالتأكيد وبشكل مخصوص لابد من تجديد تحية لشعب قطر ولمؤسسات الدولة وللرعاية المميزة الكريمة لانطلاقة تنتظر مسيرة  تعلو بقيم الحداثة والتغيير وبالنهضة  شاملة بفضل إرادة قرار حازمة وواضحة الاتجاه.

ولهذه المداخلة متابعة تتجدد قريبا.