مصطلح الفلول بين القانون والسياسة: في مصر، هل سينفع مصطلح فلول التضليلي في كسب الأخوان المعركة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

جرت في عدد من بلدان المنطقة تغييرات في النظم السياسية سواء بقوة عسكرية أجنبية كما هو الحال في العراق، وبثورات شعبية سلمية كما هو الحال بتونس ومصر أو تلك التي اكتنفتها تداخلات عنفية دموية تسببت بها محاولات يائسة للتشبث بالسلطة من قوى النظام القديمة ولجهات ذات مصلحة كما جرى في ليبيا واليمن وكما يجري اليوم بسوريا. وفي أغلب تلك البلدان بات يطلق على بقايا النظم القديمة الفلول. ولعل الأمر قانونيا يبقى سليما بمقدار ضرورة محاكمة أعمال الفساد والجريمة ومن تسبب بها من رأس النظام وحتى آخر المشاركين بتلك الجرائم.

من الطبيعي للأمم والشعوب وهي  تمر بمرحلة انتقالية بين ماض قاس مدلهم وآفاق وضع جديد، من الطبيعي أن تتضمن قوانينها حالات استبعاد أو منع جهات كانت تنتمي للنظام القديم، من العمل السياسي مؤقتا مرحليا من دون حرمان من الحقوق المدنية. والأمر لا يتعلق بتمييز أو اضطهاد من أي شكل، ولكنه يتعلق بمنطق يقوم على أساس أن نستجيب لخيار الشعب لبديل مختلف نوعيا من أجل بناء المرحلة الجديدة.. وألا يدخل في مسيرة التجديد ما ربما يقع في إطار العرقلة بخاصة أن من ساهم في المرحلة السابقة قد يمثل مشكلة أو معضلة أو قوة سلبية متعارضة وعمليات البناء الجديدة.  وبحسب القانون فإن النظم السابقة وجرائمها ومن قام بها يخضعون جميعا للمساءلة القانونية القضائية ويخضعون لنتائج التقصي وربما المحاكمة إذا ما ثبت قيام أحدهم بجريمة أو أخرى على وفق المعايير القانونية التي يعتد بها دوليا أمميا ويجري تبنيها وطنيا..

إلا أن  ما يمكن الحديث بشانه قانونيا يبقى محددا بها من جهة ولا يمكن لطرف أن يُعمِل  الأثر القانوني بطريقة العقوبات الجماعية أو بطريقة تنتهك مبادئ حقوق الإنسان وإعلانها العالمي. كما لا يجوز أن نوسع من إطارات من يكون مشمولا بما يسمى العزل السياسي.. إذ الأصل في القانون تعزيز احترام العدل والمساواة ومنع التمييز. وعليه فاستغلال هذا الأمر يتحول بالخطاب السياسي الجديد إلى وضع يماثل أساليب التمييز التي مورست سابقا على أن من ليس معي فهو ضدي ومن يقف ضدي يصدر بحقه فرمان الحرمان من العمل السياسي و\أو العمل بتفاصيله. والسؤال في هذه الحال: ماذا فعلنا من تغيير إذا أعدنا العمل بذات آليات النظم القديمة التي اعتمدت الإقصاء والاستبعاد واستلاب الآخر حقوقه في العمل العام؟!

إن نموذج جنوب أفريقيا القائم على فلسفة التسامح والمصالحة الوطنية يبقى أفضل النماذج في الانتقال من مرحلة الإقصاء والعزل إلى مرحلة ممارسة الديموقراطية واحترام الحقوق والحريات. وعلى الرغم من دخول مهم لشخصيات عملت في النظام القديم وعلى الرغم من ممارستها مسؤوليات كبيرة وقيادية إلا أن النظام الجديد بات بديلا نوعيا جوهريا في التغيير. وأصبح يمارس آليات الديموقراطية ويحترم الحقوق ويدافع عن مطالب الناس وحاجاتهم بخاصة في موضوع الأغلبية وموقعها في إدارة الحكم واختيار النظام الجديد وتوجيهه. ولم يجري الحديث عن فلول بالطريقة التي يجري فيها في دول منطقتنا الشرقأوسطية.؛ كما أنّ الشخصيات التي انخرطت في العمل العام من تلك التي كانت تعمل في النظام القديم، لم تهدد النظام الجديد ولم تعرقل مسيرته بل ساهمت في تعزيز المسيرة عبر الخبرات التي استثمرتها في البناء...

إن المشكلة لا تكمن في قبول شخصية أو أخرى في العمل العام وفي قيادته، ولكنها تكمن في بنية النظام السياسي. فإذا اعتمدنا بنية بقوانين جديدة وبتعديلات دستورية وربما بصياغة دستورية جديدة بالكامل، فإن الأمر سيكون محسوما لصالح التغيير الذي أرادته القوى الثورية بتضحياتها.. والمشكلة لن تكون بوجود اي من شخصيات عاشت في ظل النظام السابق وعملت في إطار بنى الدولة. ولن يكون بمستطاع شخصية أو مجموعة شخصيات أن تعيد النظام القديم وآلياته لمجرد وجودها في رأس الهرم أو في موقع القرار.. لأن المفترض في النظام الجديد أن يكون نظاما للعمل المؤسساتي من جهة ولتفاصيل آليات العمل الجمعي لا الفردي من جهة أخرى، وعلى وفق ضوابط وأحكام وقوانين تصدر في ضوء إرادة شعبية انتفضت من أجل عالم جديد وأدوات جديدة تخدم مطالب الناس وتطلعاتهم في الحقوق والحريات...

إن الحديث عن النظام القديم ينبغي أن يعالج مبادئ وجوده وفلسفة  عمله التي كانت تقوم على عبادة الفرد وسلطته وسطوته وعلى الاستغلال وعلى تجيير الدولة لصالح الحكام والطغاة بكل ما يتخلل الأمر من إرهاب الدولة ومن فساد شامل ومن خلل في وجود المؤسسات الدستورية وخواء في أداءاتها التي عادة ما قامت وتقوم على التعارض ومصالح الناس وجموعهم. إن معالجة هذا لا يتم إلا  بصياغة دستورية ناضجة وبإصدار القوانين الدستورية التي تكفل إتمام بنية المؤسسات الدستورية بأسس سليمة تقوم على احترام إرادة الشعب في الدستور المستفتى عليه وفي المؤسسات التي يختارها دوريا تداوليا ولا يمكن أن تكون أبدية أو أن تستحوذ على مصائر الناس ومقدراتهم وتخضعها لمفاهيم حزبية ضيقة وإن كانت تشكل الأغلبية في مرحلة أو دورة انتخابية..

من يمثل المصادرة ونظريات الشمولية هم أولئك الذين يمتلكون ميليشيات البلطجة ومن يجير مؤسسات الحكم لفرض إرهاب فكري وإقامة الحد على رقاب المواطنين بالتكفير وبالأحادية في الفكر الذي عادة ما يدعي العصمة ويفرض قسرا الوصاية على المجتمع ومثل هؤلاء ربما اسغلوا الدين وافتراض أنهم القيمين على الدين والدنيا،  ويمتلكون مقاليد الأمر في الدنيا مثلما يمتلكون ايضا مفاتيح الجنة في الآخرة! إن هؤلاء هم من يسرق قوت الفقير ويقول له إن تلك هي قسمة الله! وهم من يقتله ويوقلون إنهم ينفذون إرادة الله! وأبرز هذه الحركات والأحزاب المتأسلمة هي أحزاب الطائفية السياسية التي تمثلت في تلك التي حكمت العراق منذ تسع سنوات والجميع يرى ما حل وجرى بأهل العراق من مذابح بسبب مثلث التاسلم السياسي المعروف بالطائفية والإرهاب وثالثهما  وحليفهما الفساد؛ ومثل حركة الأخوان وتمظهراتها الحزبية وهي ذات التاريخ المعروف بتكفير المجتمعات تمهيدا لإقامة الحد على كل من يخرج على قرارهم في استبداد واستلاب ومصادرة وفي نهب المال العام وإرهاب الناس، ولا عجب....

إن الخيار الوحيد لمجتمعات المنطقة في تلبية إرادة الشعوب والاستجابة لمنطق التغيير لا يكمن إلا في خيار الدولة المدنية التي تؤمِّن للجميع حقوقهم وحرياتهم وهي التي تؤسس للعدل والمساواة ومنع الاضطهاد والمصادرة.. وفي الدولة المدنية لا مكان لأحزاب بأسس عنصرية أو شمولية من تلك التي تحمل تضليلا مبادئ التأسلم السياسي.  هنا فقط ينبغي أن نصل إلى حقيقة كون إثارة مصطلح فلول بهذا الحجم هم من يستفيد منه لتوكيد سلطتهم وسطوتهم على الشأن العام.. وهؤلاء إذا كان من صواب في مواجهتهم فإنه يكمن في فضح أنهم لا يمكن أن يكونوا بديلا عن أحادية العمل في النظم القديمة لأنهم يمارسون ذات الآلية. كما أنهم يغطون على محاولتهم نهب الروح المدني والخيار المدني من بين أيدي البسطاء والغلابة سواءء بالإرهاب الفكري السياسي وفلسفته التكفيرية أم بوساطة الإرهاب المادي أي بالبلطجة والتقتيل وما شابه من جرائم..

إن مصطلح فلول ينطبق على مجرمين يقاتلون ويخرجون على القانون ومن يضبطهم ويحاكمهم هو القانون والقضاء العادل على وفق أفعالهم. أما بقية جموع الشعب ممن خضع لضغوط النظام السابق وآليات عمله فهم أحرار انعتقوا من ذاك النظام ومن حقهم أن يحظوا بانتماء لحياة إنسانية كريمة جديدة تطهرهم من أدران ما مضى وتدخلهم في مجتمع مدني سليم مجتمع القانون والعدل ولا يحرمون من حقوقهم المدنية.. وإذا تم حرمان بعضهم من العمل السياسي لظرف المرحلة الانتقالية فإنه لا يجوز أن يتم الاتساع بهذا الحرمان بطريقة مزاجية كيفية مسيّسة لمصالح حزبية ضيقة ولآفاق تجور على شخصية أو أخرى وعلى مجموعة أو أخرى لمجرد تلطيخ هذا الطرف أو ذاك بكونه من النظام السابق..

يجب هنا التمييز بين التهم الجاهزة الخاضعة لخطاب الصراعات السياسية الحزبية الضيقة وبين واجب الاحتكام للقانون وللقضاء في جهودنا في ظل التغيير ما بعد الثورات الشعبية. كما يجب أن ندرك الفرق بين أن يوجد خيار شعبي لشخصية بعينها لكونها شخصية مدنية يمكنها أن تنخرط في بناء الدولة المدنية الديموقراطية الجديدة وبين أن نختار شخصية خاضعة لسلطة حزب شمولي يقوم على مرجعية مطلقة وعلى مبادئ التأسلم وإخضاع المجتمع لطروحات الأسلمة السياسية التي تكفر المجتمع وتجعله خانعا لسلطة ظلامية تدعي التدين ولكنها لا ترتبط بدين سوى بالقشور وبما تحاول تغطية حقيقتها الفاضحة بما تثيره من قيم التخلف وأمراض الجهل والركون لعصور الظلام وآلتها الجهنمية..

وفي الظرف القائم على سبيل المثال في مصر فإن خيار الأخوان هو خيار دخول نفق من الظلام قد يمتد لمئات السنوات من الاستغلال ومن التخلف ومن هزيمة ستأتي على آخر ما تبقى للمصريين. فيما خيار الصوت المدني يمكّن الثورة والثوار من متابعة استكمال مهامهم في بناء الدولة المدنية وإصلاح ما يمكن إصلاحه أمام ما وقعوا فيه من خيار شخصية ربما انتسبت يوما في النظام القديم للعسكر ولكنها أيضا  تبقى شخصية مدنية في الخيار وشخصية تحتكم للخبرات ولإمكانات البناء على أن يرافقها ضغط شعبي مناسب لتعزيز آليات نظام جديد..

إن خيار الثورة لا يمكن أن يكون خيار الدولة الدينية ولا طبعا جوهرها القائم على الاستبداد والتضليل. ولا وجود للقاء بين قوى الظلام وقوى الانعتاق والتحرر وإن بدا شكليا أنهما التقيا بسقوط النظام القديم. فذلك ليس من لقاء ولكنه تجاور أفعال لمتناقضين في الهدف.. يجب الحذر وينبغي التوجه لخيار الشخصية المدنية في التوجه والفسلفة فمهما كانت سلبياتها ستبقى مجرد شخصية تخضع لسلطة النظام الجديد الذي يوجه النظام ولا يمكن أن يخضع للفرد مجددا في ظل قوانين ودستور مختلف..

بقيت إشارة ضرورية، لا يمكن للشعوب أن تقف بالضد من مؤسساتها الوطنية المهمة كما الجيش فالمؤسسة العسكرية ستكون من رحم الشعب ونظامه ولن تكون ضده في ظل دستور مختلف ومن يختلق التناقض بين الجيش والشعب هو طرف يميل لتفكيك البلاد وجعلها من الهزال ما يخدم مآرب ضد تطلعات الشعب.. وغذا كان من قيادة عسكرية ينبغي تغييرها يوما فإن ذلك يتم بطريقين أولهما ضبط القوانين والعمل المؤسساتي وترتبيته وثانيهما الإتيان بخبراء وطنيين من داخل المؤسسة.. أما صيغة العزل والفصل فهي صيغ فوضوية لا تنتمي لتغيير يقوم على العقل ومنطقه ولا على التنوير وشرعته ومن ثم ليس من مصلحة للشعب في هذا..

ليكن المصريون أكثر وعيا لما يحاك لهم اليوم وليكونوا نموذجا إيجابيا في التغيير ويستعيدوا توازن مؤسساتهم وجهودهم في البناء.. وبالموفقية لهم في خياراتهم اليوم لاستكمال إنجاز مفردات التغيير. ومثلهم ينبغي أن  تعي شعوب التغيير والثورة ما يحاك في ليل من انتقال من حكم شمولي لحكم أكثر سوءا وخرابا بمسمى الحكم الديني...

فهل سيكون مصطلح فلول كاف للتضليل ولدفع الناس لخيارات خطيرة تهدد مصالحهم؟ سيجيب وعي الناس وخيارم في الغد عن هذا سواء في مصر أم بسوريا أم غيرها من بلدان التغيير.