استحقاقات دستورية لإصلاح الحكومة وتصحيح منهج عملها

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

منذ أسابيع وأيام تجري جهود وحوارات من أجل استعادة مسار عمل  الحكومة على أساس من مبدأ الشراكة الوطنية، والابتعاد عن الروح الفردي والتحكم الاستبدادي بسياستها. ولكن العقدة بقيت بلا حلحلة؛ بسبب من إصرار على استخدام مختلف الوسائل التضليلية والتعطيلية لمزيد من الإمعان في تلك الممارسات التي لا تقف عند خرق الدستور والاتفاقات السياسية بل تواصل تعريض الشعب لمخاطر الأوضاع المأزومة المتفجرة  من دوامة الإرهاب والفساد...

إنّ القرار الذي فرضته الوقائع، وما عاد فيه من خط عودة إلى الوراء هو ((قرار سحب الثقة)) من رئاسة الحكومة وشخص السيد المالكي لذهابه بعيدا في مسألة الانفراد بتوجيه الشأن العام. والقضية ما عادت مجرد حصر مسؤولية عدد من الوزارات بين يديه بل في  خرقه الدستوري القائم على وقفه العمل بنظام جمعي مؤسساتي يتمثل في آلية (رئيس مجلس الوزراء)  والعمل بصلاحيات (رئيس وزراء) أي بوقف العمل بنظام القرار الجماعي الذي تتحمل فيه الحكومة قرارتها جماعيا وبتشارك أطرافها في الأمر. وهو بهذا السلوك، يمثل الطرف الوحيد الذي يتحمل مسؤولية الاخفاقات العامة، مثلما هو الطرف المباشر لتحمل مسؤولية الاخفاقات في وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني وفي المخابرات كونه يباشر أعمال تلك الوزارات حصرا بمسؤوليته الشخصية..

إنّ أسس العمل الفردي الذي يُمارس اليوم، ما عادت قضية تتعلق بمسؤوليات محدودة بعدد من المهام الأمنية أو ما شابه ولا قضية خرق دستوري محدود يتعلق بخطأ في ممارسة أو أخرى بل بات اليوم قضية استدارة جوهرية وتغيير اتجاه 180 درجة إلى الوراء، إلى حيث نظام الدكتاتورية والاستبداد وقوانينه وآليات عمله؛ ضاربا بذلك لا فلسفة حكومة الشراكة الوطنية والاتفاقات السياسية المسيِّرة لعملها بل الجوهر الدستوري الذي اختار فيه الشعب التوجه نحو الديموقراطية وآلياتها. وبدل التقدم لتمكين المؤسسات الدستورية من العمل وتطويرها لما يرتقي بها إلى حيث أداء مهامها الوطنية، جرى ويجري تعطيل تلك المؤسسات من منطلقات الاستبداد الفردي وممارسة أسوأ درجات الإقصاء للآخر في العمل الوطني، وأخفقت الحكومة طوال السنوات العجاف من أداء أية مهمة وطنية وفشلت في تلبية المطالب الجوهرية الرئيسة للشعب.

إنّ حال الانفراد والاستبداد، لا يضع القوى المشاركة في الحكومة خارجها حيث دائرة المعارضة الوطنية مقابل حكومة أغلبية، وهذا  خيار ممكن في العمل ولكن تلك السياسة في جوهرها تحرم الآخر من أي شكل للعمل المؤسساتي ويحرم جميع القوى من ممارسة الدور الوطني المنوط بها. دع عنك أن ذريعة السيد المالكي في التحكم من طرفه بمجمل الأمور قامت على أساس أن الآخرين أعاقوا تنفيذ ((برنامجه)) وتطبيقه؛ فماذا فعل وهو يباشر العمل شخصيا مع بعض من أحسن الظن بطروحاته؟ لا شيء.. ومع ذلك فهو ما زال يجاهر بذات الاسطوانة التبريرية التي يلقي فيها مسؤولية الفشل على الآخرين، في وقت يتحكم ويدير كل شيء بنفسه وبأدواته منذ دورتين انتخابيتين!

وللملعومة وقبل متابعة تحليل قضية هذه المداخلة، فإنه لا يمكن لوزير أن يقرر أو أن يعمل في إطار وزارته من دون عودة مباشرة وشخصية لــ (رئيس الوزراء؟!) كما أن سلطة الاقتراح والحوار بشأن مفردة برامجية ومشروع وطني أو آخر هي حصرا حكر على ((رئيس الوزراء)) علما أنه لا يوجد مسمى رئيس وزراء في الدستور العراقي، ولا يسمح الدستور بالعمل الفردي ويحظر الاستبداد. وأكثر من هذا وذاك فإن سياسة مطاردة القوى الوطنية والديموقراطية في الشراع السياسي صارت ممارسة شائعة وعاد مصطلح زوار الفجر معمدا بالمداهمات العشوائية والاعتقالات الجماعية الكيفية.. والأنكى هو استلاب حتى حق حزبه أي حزب الدعوة من إبداء ملاحظاتهم ومعالجاتهم أو تصوراتهم بما يؤكد مخاطر القبول بعودة نحو الدكتاتورية بطريقة اسوأ وقعا ونتائج على مجمل العراقيين...

إنّ قضية سحب الثقة لم تأت قرارا مستعجلا ولا رد فعل لخلاف بين قيادتين من قيادات الشراكة الحكومية. ومن ثمّ فلا يمكن تحليلها أو فهمها انطلاقا من شخصنة القرار أو فردنته. إنّ قضية سحب الثقة لا تتقصد شخصا بقدر ما تعالج خروقات في منهج العمل الوطني تلبية لاستحقاقات دستورية جوهرية.. وعليه فإنّ مواجهة (سحب الثقة) بالقول إن المسألة فردية لا مؤسساتية وإلقاء التبعة على مواقف هذه الشخصية القيادية أو تلك هي خطابات التملص والتهرب من مجابهة الاستحقاق الدستوري ومن المسؤولية الرئيسة في التسبب بالأزمة بهذا الحجم النوعي الخطير.

وكثرما سمعنا شوشرة إعلامية، تلقي التبعة على القيادة الكوردستانية وعلى شخصية بعينها وكأن (سحب الثقة) هي الهدف المباشر وأنها تستهدف شخص المالكي لموقف شخصي من السيد البارزاني! وهذا تسطيح أجوف للأمور فالحقيقة كما بات أبسط المواطنين يحسها ويدركها هي مسألة منهج عمل يجب إصلاحه وإعادته إلى مساره الصائب الصحيح.

إن محاولات مشاغلة المعنيين بمهاجمة كوردستان وقيادتها وبإبعاد الأذهان عن التركيز على المهمة الجوهرية، هو تضليل  القصد منه تعطيل فرص حسسم القرار وسحب الثقة وتشكيل الحكومة وتوجيه عملها على أسس دستورية وطنية وعلى أساس برنامج عمل لاستكمال إنجاز انتقال البلاد من نظام المحاصصة  إلى النظام الديموقراطي التعددي التداولي.

إن مهام التعطيل لم تكتف بسياسة المشاغلة والتشتيت بل ذهبت أبعد من ذلك لاستخدام سياسة الضغوط المختلفة إلى درجة التهديد لعدد من النواب كيما يجري التأثير على  النصاب القانوني لسحب الثقة  مع اتهام الطرف الآخر تارة بعجزه عن توفير النصاب وأخرى بأنه حصل على النصاب بالتهديد. فيما الحقائق مفضوحة بشأن تهديدات استخدام بل استغلال القضاء في افتعال تزوير تواقيع! وفي اختلاق تهديدات لأطراف لا تملك لا ميليشيا ولا جيش ولا داخلية ولا مخابرات ولا أقبية سجون سرية!

ومع الوصول للنصاب القانوني تحركت آخر أوراق سلطة الاستبداد الجديدة المبشرة بدكتاتورية أخرى مغلفة ومسلفنة بالتدين والولاء لمرجعيات تفرض نفسها نائبة عن الله على الأرض! وصرنا نشهد تهديدات الحدود من قوات دولة جارة وتهديدات عبر خروقات في تنظيمات أطراف في العمل السياسي وأخرى لشق الصف الكوردستاني الأمتن بين الائتلافات العراقية اليوم وغيرها تبتز قيادات بفتاوى دينية وتجبر نوابا على سحب تواقيعهم باستغلال افتعال اتهامات فساد وتشغيل المادة 4 إرهاب فضلا عن استغلال القضاء في جريمة ما أبششع منها لشعب ودولة...

إنّ هذه ليست مجرد اتهامات بل هي جوهر المشكلة الجارية اليوم وفرضت قرار سحب الثقة. إذ أن المبتلى الأولى هو المواطن الذي صار يعيش لا بتهديد التفجيرات حسب بل وتهديد عبوديته لنظام الدكتاتورية (الدينية) وهي لا علاقة لها بدين ولكنها المغلفة بسيف الفتاوى الجاهزة للإشهار على وفق الطلب مثلما اختلاق التهم القضائية جاهزة الفبركة على وفق من يراد تصفيته سواء كان فردا أم مجموعة حزبا أم مكونا عراقيا...

وبناء على مجمل هذه الحقائق، بات مطلوبا اليوم قبل الغد ألا يسكت المواطن العراقي عن قرار سحب الثقة وألا يكتفي بانتظار ما تسفر عنه الجهود السياسية بل لابد من إعلان تأييد هذا التوجه جماهيريا شعبيا ومن جميع القوى الحزبية الوطنية المخلصة وتنزيه القوى السائرة بالقرار من التهم والاختلاقات ومؤازرتها وعدم تركها في مواجهة الاستبداد لأن ذلك سيكون كمَّن يسكت على  جرائم إبادة شاملة فيمررها بصمت في ليل!

ليتحمل كل وطني غيور مسؤوليته في هذه المهمة ولا تتركوا طرفا أو قيادة تقاتل نيابة عنكم. فذلك أدعى لنتائج سلبية منها لنتائج ينبغي أن تتحقق سريعا وبشكل حاسم بلا مماطلة ولا تعطيل.

شعار اليوم سحب الثقة واجب وطني قبل كونه  مهمة دستورية بحتة. ولابد من الشروع بحكومة شراكة وطنية مهامها تكمن في استكمال إنجاز التحضير للانتخابات بقوانين ناضجة يقرها الإجماع الوطني. وينبغي ألا نعود مجددا يوم يحل الاستحقاق الانتخابي بلا استكمال لشروط أدائها..  هذه الإشارة تأتي لأن سحب الثقة تحصيل حاصل وآتية لا محالة ولكن المهمة التالية هي التي ينبغي الالتفات إليها مباشرة بعد إنجاز المهمة الوطنية الآنية العاجلة.