سحب الثقة بين الشعب والبرلمان

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

أخفقت الحكومة الاتحادية طوال تسع سنوات في تلبية أيّ مطلب حيوي للشعب، وكانت إجابة الحكومة دائما تتعكز على ترقيعات وأجلت لحظة التغيير النوعي الذي يمكنه أن يرتقي لمطالب الناس وأن يحولهم من واقع ضحايا النظام إلى بناة النظام البديل الجديد.

بالمقابل خرجت الجماهير بتظاهرات احتجاجية مطلبية؛  ما حصدت منها سوى القمع والمصادرة.. فردّ الشعب بمظاهرات على المستوى الوطني يطالب معالجة جوهرية لمعاناته ومآسيه الكارثية...

والتفّ السيد رئيس [مجلس!] الوزراء على الأمر بطلبه وعد المائة يوم. وطبعا لم تكن المدة أغنى من السنوات التي عمل بها، بمئات أيامها وآلافها كافية؛ وأمعن السيد المالكي بوعوده التي لم يفِ بها حتى نسيت الناس مواعيد عرقوب وباتت تتحدث بوعود المالكي وتعهداته!

في ضوء هذه الوقائع، أعلنت جموع الشعب ((سحب الثقة)) من المالكي بأعلى صوت وأوضحه. فظهرت لعبة جديدة بمجابهة الموقف الشعبي تمثلت بتقديم كبش فداء للتمسك بالكرسي الذي أعلن في غير مرة أنه (أخذه ولن يعطيه!).. وكان كبش الفداء وزراء ما كانوا في حقيقة الأمر يملكون أن يقدموا أو يؤخروا من دون قرار (دولة الرئيس) وأمره.

لعبة كبش الفداء كانت للمرور من موقف برلماني يستجيب للشعب ومطلبه في سحب الثقة وقد حقق فعليا تأجيلا آخر عندما  منح [البرلمان] فرصا وتمديدات مضافة متعاقبة للمالكي لعله يستجيب للمطالب الشعبية ولتحسين الأداء الحكومي.. ولكن الأوضاع بقيت على ما هي عليه وأسوأ، وفي هذه المرحلة تعكز السيد المالكي على اتهام الآخرين بعرقلة جهوده وبرامج البناء التي قررها في برامجه، محاولا ترحيل الأزمة وإلقائها على عواتق الشركاء.

وهنا تحديدا وصلنا لطريق مسدودة بسحب المالكي السلطة من مجلس الوزراء وبات القرار يصدر منه منفردا بخلاف الدستور الذي ينص على أن القرار يصدر عن مجلس بتمامه وفي ضوء مشاركة  محكومة بالقانون والاتفاقات..

ولكنه مع سطوته على كل السلطات الأمنية ومفاصلها، وانفراده بإدارتها، فإن الوضع الأمني مازال يشكو من الانفلات. والاقتصاد في حال من الشلل وانهيار في حجم تلبية مطالب الناس.

إذن، تلكم هي أسباب لها أول وليس لها آخر في ((سحب الثقة)) من المالكي. وليس أولها الفشل التام في تلبية أبسط حقوق الناس بدءا بالحق في الحياة ثم الحق في الأمن والأمان ثم الحق في لقمة عيش صحية نظيفة وبقية الحقوق، في التعليم والخدمات وضمان كرامة الناس، تتوالى..

سحب الثقة قرار شعبي صدر وليس فيه من منفذ للرجوع والعودة إلى الوراء، وإذا وجد الشعب أن مؤسسات الدولة غير قادرة على الأداء والتفعيل أي على تنفيذ مطلب سحب الثقة، فإنه سينتفض هذه المرة بما يمتد فيه قراره إلى مؤسسات أخرى.. فالسيادة الدستورية الأسمى تبقى بيد الشعب والقرار النهائي الحاسم بيده.

وفي ضوء ذلك، فإن مهمة سحب الثقة رسميا يجب أن تستمر حتى تحقيق واجبها المباشر بتغيير من امتلأ سجله بخروقات جوهرية للدستور. وسيكون تحقيق ذلك علامة، وإن كانت بسيطة وأولية، لكل من سيأتي بأنه محكوم بدستور وسيكون القرار سابقة مهمة لتوكيد التداولية ومنع خطاب "أخذناها وما ننطيها"  وهو خطاب رفضه الشعب لسلف سابق كان قد قال لن نتركها إلا خرابا وفعل.. فهل سنترك الأمر يتكرر؟!

يجب أن نضبط الآلية الدستورية للعمل في أعلى هرم السلطة وإلا فإننا سنعيد إنتاج النظام القديم ولا يجوز لشخص في العراق الجديد أن يكرر خطاب الأمس بأي طريقة ومبرر. يجب أن  تمضي إجراءات ((سحب الثقة)) عاجلا سريعا لأن تأخيرها يمرر ضغوطا متداخلة محلية أجنبية فتمنح تلك الضغوط شرعية لتدخلات على حساب شرعية الإرادة الوطنية وعلى حساب شرعية إرادة الدستور مجسِّدا لخيارات الشعب..

لا ينبغي التراجع عن سحب الثقة لأية ذريعة ولأي حال من تعهدات مكرورة يدرك المجرّب أنها باتت تتكرر لتمرير خطوات أسوأ . وإجابة السؤال صريحا، بلى إن سحب الثقة يستهدف المالكي لا لفشله في أداء المهمة حسب بل لتجاوزه على الدستور  بتجاوزه على الشعب ومطالبه وباستبداده بالرأي وبمحاولته إعادة إنتاج النظام القديم. فهل بعد هذا من ذريعة للتردد؟

إننا لسنا في دواوين القبائل والجلسات الخاصة وقوانينها وأعرافها حتى نتحرج من الجهر بموقف. وليس عيبا أن يفشل امرؤ أو حزب أو حركة في تحقيق حلول ناجعة لأزمة، نحن في دولة تحيا في القرن الحادي والعشرين ولا يمكننا أن نخضع مؤسساتها لممارسات قرون خلت. وفي الحالة العراقية مازالت الأمور تتطلب تضافرا ومشاركة وطنية فأوضاعنا هي أسوأ من تلك التي تخرج بها بلدان من حرب مدمرة فتتجه إلى حكومات الوحدة الوطنية.. فيما نلاحظ أن ما يجري من سياسة فعليا يقوم على الإقصاء وعلى الانفراد بالسلطة وطعن الشراكة الوطنية.

ليس من إحراج ولا يجب الحديث عن هذا بالمرة، نحن نتحدث عن حيوات الناس وعن قوْتِهم وعن كرامتهم .. عن مجمل حقوقهم وحرياتهم وعن صوتهم ومطالبتهم بالتغيير من أجل حل عادل ينصفهم وبعض الساسة ما زال يتحدث عن حرج تجاه (السيد المالكي) وفي موقف أوسع عن موقف من (دولة القانون). الأمر يتمثل في إعمال قوانين زمننا وما توافقنا عليه في الدستور وفي القوانين والاتفاقات الرئيسة...

القضية قضية مصير شعب وحياته المأساوية وأوضاعه البائسة! وفساد بات الأعلى أمميا! وإرهاب يسرح ويمرح في البلاد وانفلاش للوضع الأمني برمته ولفشل في تدوير عجلة الاقتصاد! بمسؤولية واضحة لبرامج شاغلت المجتمع وتشاغله بلا طائل بمشكلات عبثية الأفعال، كارثية النتائج! والحل بيِّن واضح في إجماع وطني على برامج عمل نوعية للبناء...

أما من يريد أن يشارك بجريمة الاستبداد فليفعل ولكن عليه تحمل المسؤولية أمام الشعب وقواه الحية.. وقد فعل الشعب و أرسل رسالة واضحة صريحة وأسقط تخويله المالكي بأية مسؤولية، وواجب البرلمان منذ أول لحظة ‘لن الشعب فيها سحب ثقته، العمل على تلبية هذا المطلب الشعبي. لقد دقت شعوب المنطقة نواقيس التغيير وأخذت أمر التغيير بأيديها والعراق أول تلك البلدان وأكثرها استحقاقا واقترابا من انطلاقة شعبية عارمة للتغيير المنتظر.

لا آمل لساسة اليوم وللكتل البرلمانية بأن تشارك فيما يتجه به السيد المالكي من آلية عمل تقوم على الإقصاء وعلى الانفراد بالسلطة وهذا يشمل حتى أعضاء كتلة دولة القانون وحزب الدعوة الذين شاهدوا كيف انفعل السيد المالكي في اجتماع قيادتهم بوجه من (تجرأ) وطلب منه الاستقالة.. هكذا سيشمل الاستبداد مجددا حتى الحزب القائد الجديد وحتى قيادته، لأن الاستبداد مرض سرطاني لا يقمع الشعب لوحده بل يقمع أيضا  القيادات وأدوات السلطة ومؤسساتها. وربما كان هذا في البداية بحماسة داخل مجموعة حزبية وبقناعة تدافع عن أحقية في القيادة ولكنها سرعان ما تسفر عن وجهها الكالح بالتضحية بكل من آمن ودافع عن أحقية قيادة مشروع للمجتمع قام على إقصاء الآخر واستبعاده..

ينبغي ألا يتردد أعضاء البرلمان، ممن وعى الدرس، عن المبادرة اليوم بإرسال التوقيعات لسحب الثقة قبل فوات الأوان.. فغدا سيجري تصفية حتى أقرب المقربين. ولن تكون سياسة اقتسام الكعكة حلا يجابه سلطة الفرد وعدوانيته .. فهل أخذتم الدرس أيها البرلمانيون؟ وهل أخذتم الدرس أيها المؤمنون في حزب الدعوة؟ هل يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟ أتريدون إعادة إحياء الاستبداد والطغيان؟

هل الثابت عندكم الشعب وإرادته وصوته أم الفرد وما يدعيه في أحقية حزبه الذي سياتي دور  نحره على مذبح الدكتاتورية  يوم يتمكن تدريجا من الآخرين؟ هل تضحون بآليات الديموقراطية لصالح ما يذبحكم في الغد القريب؟

سحب الثقة مهمة وطنية أكبر من استبعاد فرد من مسؤولية سيادية، إنها  مهمة تكمن في ممارسة آلية تمكننا من تقويم المسيرة باستمرار باتجاه إعمال المؤسسات وتطمين مطالب الشعب كافة. ولتأتي مهمة سحب الثقة بجمع تواقيعات البرلمانيات والبرلمانيين وإن تطلب الأمر استجوابا لكن لا تسمحوا للتردد وللتراجع تحت نيران الضغوط ووعود الالتفاف والتضليل أن تؤثر في موقف.. من يريد أن يبقى وسط الشعب وفي سدة المسؤولية من أجل مشاركة بمسيرة البناء فليفعلها اليوم وليس غدا وللشعب حسابه ومواقفه وصوت الشعب ليس للبيع مثلما حرياته وحقوقه وقراره نافذ فإن لم يكن بآليات تكلف بها مسؤولو المرحلة فبنفسه وإرادته وبوسائله الشرعية بالتأكيد.. وقريبا ليس آجلا.

فهل بقي من يتردد عن سحب الثقة أو يجد حرجا فيها أو ذريعة لتأجيل وتسويف آخر؟