حرية التعبير  وتفاعلاتها السياسية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

              2004\  01 \ 02

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

تنطلق اليوم ظواهر سياسية جديدة في الحياة العراقية نسبة إلى قراءة الوضع في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ العراق الحديث.. ومن تلك الظواهر مسألة حرية التعبير بكل تفاصيلها سواء في الحريات الإعلامية وصوت الصحافة الوطنية من جرائد ومجلات ودوريات مختلفة متنوعة أم من إذاعات ومحطات تلفزة وما إلى ذلك.. ومن مظاهر حرية التعبير تلك التظاهرات السلمية التي تنطلق بين الفينة والأخرى في الشؤون المطلبية بخاصة وفي الشأن السياسي أو الوطني بعامة..

ولأول مرة بعد زمن طويل تسير تلك التجمعات الجماهيرية بهذه الكثافة وبهذه الصورة الإيجابية التي تتعاطى فيها جماهيرنا مع الملكية العامة ومع جهاز الدولة بإيجابية في وقت تعبِّر فيه عن نفسها وعن تصوراتها وعن مطالبها من دون أنْ يتقاطع ذلك مع المحافظة على الوضع العام والتفاعل معه بروح بنّاء..

وإذا كان ذلك يعكس الروح المسؤول والوعي المتقدّم في التعاطي مع المعالجات المفترضة فإنَّه يعكس طبيعة الوضع السياسي الجديد في البلاد. وهو وضع معقد راهنيا لتعدد السلطات ومرجعيتها ولتركزّها بيد قوات أجنبية في عديد من مفاصلها .. كما أنَّنا بمجابهة ثغرات ليست محدودة ناجمة عن تداخل [وأحيانا تقاطع] السلطتين الوطنية والأجنبية, وعن تركة النظام السابق من مشكلات متجذرة من جهة وعن بقاياه الذين يعيثون في البلاد ضغطا من أجل الحصول على موضع لهم في العراق الجديد من جهات ليس من بينها شعبنا العراقي وقواه الوطنية الفاعلة المعبرة عنه..

لقد دفعت قوى الضغط السلبي بمجتمعنا لمظاهر من العنف المسلَّح وهو عنف لم يكتفِ بوسائل بسيطة بقدر ما اندفع إلى الضرب في الصميم بما هو أبعد من تهديد الناس بل بما يقع في إباحة دم العراقيين رخيصا على مذبح المطالب الرخيصة التي يسعون من أجلها في إعادة وجودهم وسلطاتهم ومكانتهم في الوضع الجديد متسترين كعادتهم بسلاح الوطنية وهذه المرة بما يسمونه المقاومة الوطنية ضد الاحتلال بقرارهم وقراءتهم التي لا تقبل مناقشة لا أصحاب الرأي ولا أصوات الشعب وكعادتهم عند الاضطرار يطلقون التخوين أو الابتزاز أو ما شابه من سياساتهم  المريضة المعروفة..

وهكذا نجد أنَّ الردّ الموجود على أيّ مظهر للتعبير عن الرأي في الساحة العراقية ما زال يلقى وسائل العنف من جهات معلومة بتبعيتها لبقايا النظام المنهار.. أو من قوى ما زالت تتعامل بعقلية القمع وفلسفة المنع والقسر والتعنيف. ولعلّ مهاجمة مقر اتحاد نقابات العمال واعتقال قادة بعض التظاهرات الجماهيرية كما حصل مع تظاهرة اتحاد العاطلين عن العمل أو مع مظاهرات تعبّر عن رؤى مختلفة بشأن المستقبل السياسي للعراق وبعض أقسامه كما هو حال موقف (بعض) أبناء مدينة كركوك تجاه الفديرالية..

وطبعا ليس صحيحا مساواة عنف بقايا النظام مع عنف عنف قوى سياسية تريد فرض رؤاها الفكرية وبرامجها السياسية على الشارع العراقي بالقوة والإكراه والقسر وبسلطة العنف المسلّح أحيانا ومحاولة إرهاب الآخر بهذه القوة الغاشمة.. ويحصل هذا من قوى ظلامية تدّعي الأمر بمعروفها والنهي عن منكرها باسم الدين وهي قوة ضلال بحكم الافتاء الشرعي وإجماعه.. ويحصل هذا من [بعض] منتسبي قوى وطنية صادقة بسبب لغة الانفعال ولأسباب تاريخية من الإخضاع لسلطة العنف الدموي التي مرّت بحياة شعبنا ولأسباب تربوية سياسية نحتاج لزمن غير قصير قبل أنْ ننتقل إلى عالم الحوار السلمي من دون ثغرات ومثالب ونواقص..

إنَّ الردّ على لغة العنف المسلّح لا تكون صحيحة بالتشنج أو بمعالجتها من منطق الإدانة والشجب بوضع كلّ أصنافها في سلة واحدة بمساواة عنف الأجنبي مع عنف قوى التخريب التي تدعي المقاومة أو قوى الظلام التي تدعي تمثيل القدسية الإلهية بوصفها مرجعيته على الأرض مع عنف القوى الوطنية في حوار [بعض] أعضائها بلغة غير سوية تحصل أحيانا نتيجة انفعالات ومغالاة في التعاطي مع الآخر ورؤاه..

إنَّنا بحاجة لمزيد من التوازن وكثير من الهدوء ورجاحة العقل في الردّ المناسب وفي التفاعل مع الوقائع والأحداث الجارية.. لأنَّ الدعوة للتعبير الحر السلمي تحتاج للتمسّك بعمق بالروح السلمي لمظاهر التعبير عن الرؤى والأفكار والسياسات وإلا فما الاختلاف بين دعاة العنف وبيننا حين نركب المركب نفسه في لغتنا وتفاعلنا مع الحدث؟

وعليه لابد من الاحتكام للقضاء في الأخطاء التي تحصل بين القوى وممثليها وإلى لغة الحوار والتفاهم واستيعاب المشكلات واحتواء تفاعلاتها السلبية .. كما علينا أنْ نضع الميليشيات المسلحة تحت سيطرة الإرادة السياسية ومركز القرار السياسي للحزب وللفئة وما إلى ذلك حتى نصل مرحلة إلغاء تلك الميليشيات نهائيا لتعود السلطة إلى مرجعية واحدة ..

وكجزء من الهدف البعيد لابد من تربية القوى المسلحة على مسألة الانضباط في التعامل مع أحداث الشارع السياسي وتجنب التدخل ضد أية مظاهرة سلمية وضد أي شكل من أشكال التعبير السلمي عن الرأي ووضع ضوابط لحالة اختراق تلك الميليشيات بمعنى عقوبات رادعة لها أولا ومن ثمَّ للقوة السياسية التي تعود إليها إذ أنَّ أية قوة سياسية تستخدم لغة العنف المسلح يجب أنْ تـُخرَج من العمل الشرعي ومن التعاطي معها وطنيا بالتحديد عند تكرر ممارساتها (مع سبق إصرار وتعمّد) على الأرض وفي أي ميدان لأية مدينة عراقية من دون استثناء..

ومن الطبيعي أنْ نجد هذا لا يتلاءم مع تصورات بعض العسكريين ومن أنصار العنف ولغة القوة حتى وهم يرون أنَّ ذلك جزء من نشاطهم من أجل مصالح جهة أوفئة سواء سياسية أم دينية طائفية.. فليست مصالح أية فئة عراقية مما تتطلب التعاطي مع لغة العنف المسلح في الخيارات السياسية المطروحة أمام مجتمعنا..

بمعنى أنْ تكون من أولويات القوى السياسية العراقية ليس الدعوة إلى الروح السلمي في المعالجات بل العمل بهذا الروح والتعاطي معه على رأس وسائل التعبير عن الرؤى والأفكار والبرامج والابتعاد ليس قدر الممكن (وهو أضعف الإيمان) بل الإقلاع نهائيا عن أشكال العنف والشدّ والتوتر والتشنج في التعاطي مع حرية التعبير السلمي .. لأنَّنا بصدد التأسيس لحالة مغايرة من الحياة على أسس الديموقراطية التي لا تحيا في ظلال العنف بل جوهرها السلام والتفاعل والتعاضد واحترام الآخر بدلا من الاعتداء عليه..

ونحن بحاجة لشجاعة كافية لنعترف بأخطائنا أولا ولوقفها ثانيا وللانتقال منها إلى عالم الصائب الحكيم من التفاعل والمعالجة في الحوار بين جميع أطراف مجتمعنا ومكوناته.. ونحن نمتلكها وليس لنا إلا الشروع  بوضعها في حياتنا اليومية مُسَـلـَّمَة  بديهية دائمة جديدة فلقد ولـَّى زمن العنف والقسر ومنطق السلاح ولغته ولابد من أنْ يحلَّ بيننا زمن السلام .. لكنَّ هذه الرسالة السلمية ليست فسحة للقوى المرضية التي تعمل على استغلال الموقف لمزيد من التشنجات بين أطراف العمل الوطني للتغطية على أفعالها الإجرامية التي نحن بحاجة للحزم والصرامة في التعاطي مع أعداء السلام والأمن والأمان وهي قضية مختلفة تماما ولها حاجتها الخاصة للمعالجة والتناول ...

www.rezgar.com

www.geocities.com/modern_somerian_slates

 

1