اللعبة السياسية بين العبث الفردي والعمل المؤسسي؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

في دولة يتم فيها إضعاف دور المؤسسة، وإعلاء شأن الفرد في إدارة العمل العام؛ يمكن أنْ نتوقعَ كلَّ المفاجآت. وفي دولة يتم تخريب العمل المؤسسي نشهد إلغاءََ للقانون ولسلطته؛ مثلما نشهد سطوة قانون الفرد وما شاء. فنجد كثيرا من الموظفين الذين أفسدهم النظام العام المشبع بإلغاء الجمعي المؤسسي القانوني، يسرحون ويمرحون وهم الذين يحددون ما يمكن تمشيته وتمريره أو إيقافه وتعطيله. كما تطفو إمكانات الفساد واسعة في ظل نهج تخريب المؤسسات وتعطيل القوانين. ومثل هذا لا يمكنه أنْ يحدثَ في المستويات الدنيا من العمل العام حيث الاتصال المباشر بالمواطن إلا بشرط وعلة، لا يمكن ذلك ما لم يكن الأمر قد وصلت ممارسته حتى أعلى مستوى للعمل العام؛ أقصد في إدارة الحكومة ومجلس الوزراء وهيآت التشريع والقضاء.

ونحن، عراقيا، نسمع عن هيآت السلطات الثلاث التي أتت بانتخابات منقوصة اخترقتها عديد المثالب. فخلا كوردستان التي جاء نوابها بالأساس من أصوات حصدوها بثقة الناس وخياراتهم التي خبرتها وأكدتها مسيرة الثورة الكوردية في العقود الأخيرة؛ خلا ذلك فإنّ ما جرى في القوائم البرلمانية الأخرى نجم عن تكديس مصطنع لأصوات قادة القوائم، لسنا هنا بصدد الاتساع بتفاصيل قراءة مفردات النهج والوضع الذي أدى إليه، ولكن ((المثلبة النكاية)) غير الطبيعية أن يأتي البرلمانيون بفضل أصوات الزعامة. وفي وقت  لم يحظوا إلا بمئات معدودة لا تشكل خيارا انتخابيا، في ذات الوقت تمّ استبعاد من حصد آلاف مثلما تمّ سرقة عشرات بل مئات آلاف ووضعها في خانة الخاسر الذي فاز بآليات لا تنم للسلامة بالتأكيد بصلة؛ دع عنك من لم يشارك بالتصويت ولم يُلتفت إليه..

ويقرأ القاصي والداني انفراد رأس الحكومة بسلطة القرار والقول الفصل. وفي ضوء ذلك يجري توجيه السياسة الخارجية، أيّ في ضوء رؤيته الفردية وقراره الخاص وطبيعة علاقاته.. وداخليا لا مناص حتى للوزير من العودة إلى رئيس مجلس الوزراء شخصيا لكي يستفتيه في قرار لتمشية أمر أو آخر في وزارته. والأنكى من ذلك أن وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني والمخابرات، بارتقاء الأخيرة لمستوى وزارة، تقبع جميعها تحت الأمر المباشر والحصري لسلطة ((القائد)) الفرد. فضلا عن قواته الخاصة الشبيهة بقوات الحرس المنحلة. فما الأمر الذي بقي خارج الإطار الفردي وطغيان فلسفته وآلياته وإجراءاته!؟

عديد من النواب تحديدا من الذين جاؤوا بأصوات زعيمهم، المنهوبة أصلا،  لا يصوّتون إلا بما شاء؛ وهم لا ينطقون إلا برؤية مختزلة فيما يقرر. وما يدور من ((مماحكات وسجالات)) أما فارغة تثير سخرية المواطن واستهجانه أو لا علاقة لها به بل تقف بالضد من تطلعاته. مثلما جرى بتمرير موضوع التصويت بالخلاف مع قرار المحكمة الاتحادية ومع منطق آليات الديموقراطية وجوهرها.

والفردي في العمل السياسي لا يقف عند القرار وحسمه.. ولكنه يمضي للعبة أخطر من أنْ تُقرأ بطريقة عابرة. فتفريغ المسؤوليات العامة من دورها وجعلها تنحكم بالفردي لا المؤسسي الجمعي يعني التخلص من كل أشكال الرقابة.. وفتح منافذ ربما تتيح ممارسة كل أشكال الفساد. ألا نلاحظ أنَّ اعترافات بالفساد الانتخابي على الملأ لم يقابلها أيّ قرار حكومي أو قضائي! ألم نلاحظ أنَّ اعترافات مسؤولين، برأس الحكم وسدته، تناولت بل فضحت ميادين مختلفة للفساد لم يقابله قرار باستدعاء و\أو مساءلة! ألم نشهد بيانات حكومية عليا وتحقيقاتها في نهب ((عشرات المليارات)) أكرر ((عشرات المليارات ومئات الملايين)) وإعلان لجان التحقيق توثقها من عملية السطو والنهب، ولكننا في الوقت ذاته شهدنا تهريب المسؤولين عن تلك الجرائم؟ ألا يعتقد العاقل أن تهريب أولئك يغطي أيضا على مسؤولين شركاء مازالوا في سدة المسؤولية العليا!؟ وهل يعتقد أحدنا أنّ من يسرق تلك الملايين والمليارات هو موظف بسيط من الدرجة التاسعة أو الرابعة أو حتى الثانية؟

إنَّ السياسة علم وهي فن إدارة حياتنا في دولة معاصرة تحيا زمننا زمن الحداثة والمعارف والعمل الجمعي المؤسسي المعقد والقائم على قوانين وآليات مركبة لا يمكن للفرد فيها أن يؤدي المهمة العامة بمفرده إلا إذا تحول الأمر لعبث بحيوات الناس ومصائرهم وسخرية من وجودهم البشري ولعبا  اعتباطيا يستسهل إتلاف مصالح البشر مثلما يتلف ورقة بكفه!

إنّ دولة بحجم العراق، مساحة وطن وحجم سكان يتركب من شعوب وقوميات ومجموعات دينية ومذهبية كبيرة بوجودها عريقة بتاريخها مميزة بهويتها، لايمكن لمثل هكذا دولة إلا أن تندرج في مصاف العالم الحديث وآليات اشتغال مؤسساته العابرة للقارات في علاقات دولية تقوم على قراءة آليات تلك العلاقات بطريقة تخدم مصالح البلاد وأهلها وتقوم على الشراكة وتبادل المصالح بأسس المساواة.. فهل فعل قادة الحكومة الاتحادية هذا الأمر؟ أم ألحقوا البلاد والعباد  بقوى إقليمية  محقت الشخصية الوطنية العراقية! أما داخليا فالأسئلة تمتد بعيدا في أحياء الصفيح وخرائب الطين بيوتا ومدارس من جريد النخيل وأخشاب  تنخرها الأرضة؛ وعميقا في الأنفس المرضى بكل أشكال الإفساد والتجهيل وعتمة التضليل والمشاغلة القادرة على تعطيل الفعل الجمعي للشعب ومؤسسات دولته المشوهة...

ها هي سلطات الفرد القائد المخلّص الذي نقبل بوجوده طالما استطاع إرعابنا بقبضته اليمنى ورشوتنا بكفه اليسرى. هذه هي لعبة السياسة القذرة عندما تمكّن الفرد والفردنة منّا. وهي إذ تتعارض ووجودنا الجمعي المؤسسي تعطل العمل القانوني وتشلّ المؤسسات عن ممارسة أدوارها. إنها تتحجج بمختلف الأعذار القبيحة مثل انعدام الثقة بالآخر وأنها الأنقى والأزكى وأنها راعية المصالح وأمن الناس وأمانهم وأنها صاحبة المكارم ومنبع الخيرات!! أما كيف تكون الأنقى والأنزه والرذيلة تحفها والعفونة تطفح من وراء ممارساتها والفساد يشمل كل المفاصل في ظلال وجودها!؟ وكيف تكون راعية المصالح مؤتمنة على رقاب الناس وتلك الرقاب تطير صباح مساء في الشوارع والميادين بل وحتى في بيوتها!؟ فليس من حق أحد السؤال!!! لأن شخصية ((القائد)) الجديد شخصية معصومة مقدسة تقف معها مرجعيات تنوب عن الله في أرضه!

إنَّ كلَّ ما يأتي فرديا ولا يخضع لـ(قانون) يبقى (عبثا) لا يحتاج لكثير عناء كيما نكتشف جرائمه. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح. فالعمل المؤسسي يعني التفاعل الجمعي المستند إلى القانون وإلى آليات محكومة بدستور أقره الشعب. أما العبث فيجري برفض استدعاء البرلمان واستجواب النواب حتى وهو يجري في ظروف سطوة الفرد نفسه على أروقة المؤسسات المسطو عليها في بغداد! والعبث يكمن في لعبة سياسية تقوم على ابتزاز لا العاملين في الشان العام فرادى فحسب بل المؤسسات بوجودها النوعي. والفرد يهدد [ويمتلك] بحل أعلى المؤسسات التي تتمرد عليه وإن جاء التمرد بدوافع غير دوافع تململ الشعب وثورته..

وبالمجمل والخلاصة: في وقت ندرك أنّ في وسط المؤسسات من يؤمن بوجودها القانوني وبآلياتها السليمة، ومن يؤمن بواجبه الوطني وبالتزام بالدستور ومن يمثل الشعب ديموقراطيا، في هذا الوقت وبوجود هؤلاء ألا يحق مطالبة هؤلاء ببرنامج بديل وبوحدة متينة تعيد لمؤسسات الدولة هيبتها وسلامتها وتخلصها من أمراض الفردنة ولعبتها السياسية المريضة القذرة؟ ألا يحق السؤال عن توقيت إعلان حاسم صارم يوقف مهزلة تسويق الفردنة في ((قائد ضرورة)) جديد آخر!؟ ألا يجب إدارة ما أوقعنا فيه هذا القائد الجديد من أزمات بما يخرجنا منها بأقل التكاليف المادية والبشرية؟ ألا نحذر من استمرار حوار لا يمثل إلا مماطلة تكسب الوقت للتجهز والانقضاض على الوجود الديموقراطي المتطلع إليه وعلى الوجود الفديرالي الذي مازال يقارع من أجل الاستقرار والرسوخ في أجواء السلم والديموقراطية غير المتاحة على وفق إدارة الحكومة الاتحادية ببغداد؟

المشكلة أن الأمر بات في رأس السمكة وليس ذيلها. فالعراق ((سابع)) دولة مهددة بالخطر من بين 177 دولة وهو ((رابع)) دولة في الفساد من بين 200 دولة ونسبة الفقر المدقع فيه تشكل ثلث الشعب وفجوة الفقر باتت لا تقاس إلا بالصومال ومثيلاتها من الدول المنهارة، حتى أن الفقر في ريف السماوة وصل 89%. والأمية تصل نصف الشعب وهي بين النساء تقارب الثلثين ولا يعلوهم سوى أنصاف المتعلمين دع عنك اغتيال العقل العلمي بالآلاف. الأرض يباب والوضع خراب ولا مناص من اتحاد قوى الديموقراطية والسلام والتقدم لتغيير نوعي منتظر...

ولهذه القراءة بقية