ظاهرة الفقر والفقراء في العراق الجديد: بين الأسباب والنتائج والمعالجات!؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

                                        رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

                                                  رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

 

توطئة:

ظاهرة الفقر عالمية بامتياز، فقد أشار البنك الدولي إلى فقراء في دول فقيرة وفقراء في دول غنية مشيرا إلى حوالي 45 دولة منخفضة الدخل يقل فيها دخل الفرد عن 600 دولار سنويا، و منها 15 دولة يقل فيها متوسط الدخل عن 300 دولار سنويا. وهناك ما نسبته قريبا من نصف فقراء العالم يعيشون في دول غير منخفضة الدخل.   ومن هذه البلدان، البلدان النفطية كما العراق الذي بتنا نتابع عددا من التقارير التي تعالج اتساع ظاهرة الفقر فيه. وقد سجلت بعض التقارير إحصاء يتجاوز الـ 11 مليون عراقي يقع في خط الفقر أو تحته.  مع إشارة إلى السحق الذي تعرضت له الطبقة الوسطى وتعمق الفرز بين من ازداد غنى وثراء وبين من انحدرت أوضاعه ليقع في إطار من اثنين تحت خط الفقر أو في الفقر المدقع الذي ماكان ظاهرة غائرة كبيرة في ستينات وسبعينات القرن الماضي... ويبدو لي أن دراسة ظاهرة الفقر اقتصا سياسيا تتطلب تجنب آلية  التبرير للنظام الجديد وما يتحمله من مسؤولية في تأخر معالجة الظاهرة طوال تسع سنوات ومشاغلة العراقي بأمور لا علاقة لها بأية حلول لهذه الظاهرة ولغيرها من الظواهر السلبية في الحياة العامة.

 

مدخل:

عند ولادة الدولة العراقية كان تعداد الشعب العراقي وظروف المعيشة تتسم بطابع التخلف والبدائية على وفق ما خرجت منه زمن الحكم العصمللي. ولم تتقدم كثيرا تلك الظروف على الرغم من اكتشاف النفط والمتغيرات الاقتصادية العديدة بسبب من محدودية الإيرادات وبساطة تلك الخطوات الاقتصادية التي تم اتخاذها. وفي أعقاب ثورة 14 تموز 1958 كان الانعتاق السياسي وبعض الحريات العامة إلى جانب قوانين الإصلاح الزراعي والنفط والتوجه لمشروعات اقتصادية كبيرة سببا في تحولات إيجابية في حياة المواطن.. لكنها سرعان ما كبت بسبب من سطوة نظم قمعية فاشية على الأوضاع وتوجيهها بطريقة طفيلية حتى في ظروف الارتفاع الجنوني العاصف بأسعار النفط ووارداته مطلع السبعينات.

ولم تنتهِ مرحلة الحروب العبثية التي مر بها العراق طوال العقود الأخيرة وهي الحروب التي أدخلت البلاد في أزمات خانقة أعادت ظواهر اقتصادية سلبية خطيرة إلى الواجهة. فعلى الرغم من أنّ المجتمع العراقي تطلع لمتغيرات جوهرية بعد التغيير الذي جرى في العام 2003 إلا أنه مرة أخرى دخل نفقا مظلما بمثلث الطائفية الفساد الإرهاب وما نجم عنها من مآس ومشكلات خطيرة.

لقد كانت ظاهرة الفقر رفيقة درب الشعب العراقي مذ ولادة دولته المعاصرة العام 1921 وإن بخطوط مختلفة في درجاتها ومستوياتها. فتزايدت نسبة الفقر وقلت في ضوء متغيرات وتفاعلات لم تكن تتسم بالبعد الاستراتيجي الثابت. ولطالما كانت المعالجات طارئة ومؤقتة. ولكننا هنا سنتابع ظاهرة الفقر (ربما المخضرمة) عراقيا؛ في لحظتنا التاريخية الراهنة.

 

ما (الفقر)؟ ما محدداته؟

وبداية لابد من تعريف موجز لظاهرة الفقر وطبيعتها وحدودها عراقيا.  فالفقر حالة من النقص والحاجة حيث الفرد لا يكون فقيرا إلى أمر إلا إذا كان بحاجة إليه لعدم توافره ونقصه أو لعدم التمكن من الوصول إليه.. والفقر هو الحرمان الذي يمكن قراءته في انخفاض استهلاك الغذاء وفي تدني الصحة العامة وزيادة نسبة الأمراض والوفيات وانهيار التعليم وتخلفه وهزال فرص الحصول عليه مع ظروف سكنية رديئة والافتقاد للأمان. وفي ضوء ذلك يمكن القول إنّ ظاهرة الفقر تبقى متعددة الأركان فمنها اقتصادية، ومنها سياسية، واجتماعية وثقافية وبيئية. إنّ الفقر يمثل حال  الحرمان من الحاجات البشرية في تلك المجالات الوارد ذكرها هنا وفي غيرها.. الحرمان الذي  يعكس  العجز عند الفرد أو الأسرة وعدم الكفاية في تلبية مطالب العيش الرئيسة الأساس لانعدام الدخل [وقوعه تحت مستوى أممي يعادل دولارين يوميا للفرد أما عراقيا فإن الرقم لن يتجاوز الـ نصف دولار يوميا!؟] ولعدم وجود الموارد المنتجة الكافية لمستوى العيش الكريم. كما يجسد الفقر حالات التهميش وانعدام فرص المشاركة في صنع القرار في الحياة العامة والخاصة، حتى يستحيل إلى إنسان محطم محبط يائس قدري التفكير مستسلم لـ (قسمته ونصيبه)..

 

من جهة أخرى تختلف مستويات أو معايير الفقر بين دولة وأخرى وبين منطقة اقتصادية وأخرى.. وكذلك بين مرحلة زمنية وأخرى في ذات البلد، وذلك في ضوء طبيعة مطالب العيش وحاجاته المادية والروحية  ومستوى الدخل العام ودرجة التقدم في الوجود البنيوي لمجتمع أو آخر. وعليه فالفقر ظاهرة نسبية لكنها وجود حقيقي فعلي بخاصة في بلداننا التي بات الانهيار يلفها لجملة أسباب منها التخبط الذي رافق القصور في تطبيق الإصلاح الاقتصادي المفروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وآليات العولمة والذي يعود أيضا لطبيعة الإصلاح ذاته ومقاصد الشروط  الدولية وخلفية العلاقات الفعلية بين المناطق الاقتصادية...

لقد ظل الفقر موجودا في مختلف النظم التي تعاقبت في الحياة البشرية، ووجده الإنسان شرا وسببا في امتهان كرامته، لكنّ كثيرا من الزهاد لم يروه كذلك بل دعوا للتصوف والقبول بشظف العيش بخلاف من وجده قدرا وقسمة إلهية مكتوبة لا يمكن تغييرها وإنما في أفضل الأحوال القبول بالهبات والعطايا وأشكال الإحسان الفردي والصدقات، وتلكم كانت دعوات الأديان والمصلحين الدينيين.. على أن هذا لم يكن حلا يوما للفقر ولن يكون علاجا، الأمر الذي يترك للفقر آثاره التخريبية في المجتمع سواء في القيم والسلوك أم في قضايا كثيرة أخرى ليس آخرها ما يتعرض له المجتمع من هزات وزلازل في ضوء التحولات السلبية والظواهر الخطيرة التي تنبثق عن الفقر  وترافقه.. ويمكن لنا أن نرصد تلك النتائج الكرثية في الوضع العراقي الراهن بكل تفاصيله...

 

 

    

 ما الأسباب الرئيسة للفقر؟

     إن الفقر كما أشرنا يكمن في مفاصل وجود الإنسان وحاجاته ومطالبه المادية والروحية، وهو وجود مطلق ونسبي كما أنه دائم ثابت لأنه بأسس جمعية هيكلية ومؤقت طارئ أو ظرفي ناجم عن أزمة عابرة أو ربما كارثة طبيعية وهو ينقسم أيضا بحسب إشارتنا إلى المعيار مالي أو معرفي أو غيرهما.. والفقر في بلادنا سمة رئيسة اليوم على الرغم من الموارد الكبيرة التي تدرها الثروات الطبيعية كالنفط وقدرات الإنتاج الفعلية لو تم تشغيلها. وعلى أية حال فالعراقي فقير بدخله في بلد غني في موارده ودخله!!

ونحن في جميع محاور الفقر وأنواعه وأنماطه، يمكن أن نعيد الأسباب الرئيسة له في جملة من الأمور التي تضغط على الإنسان وتحيله  إلى مستوى الفقر أو تجعله عاجزا عن تلبية احتياجاته وسنشير لتلك الأسباب على الرغم من إمكانات تقسيمها بطرق أخرى بين مباشرة وغير مباشرة وبين رئيسة وفرعية وهكذا.. ومن تلك الأسباب التي نعتقدها أساسا رئيسا للفقر عندنا في العراق:

 

01.         طبيعة توزيع الدخل القومي و الثروة الوطنية: إنَّ سوء  توزيع الثروة الوطنية والدخل القومي للبلاد يعود لعدم المساواة في توزيع الأصول المادية  والمالية بين السكان وإلى عدم كفاية التحويلات إلى الفقراء كما يتواصل بسبب الافتقار لخطط سليمة في معالجة الإشكالية الأمر الذي يمثل ركنا جوهريا في حرمان فئات كبيرة من حصتها فيجعلها تعجز عن تلبية مطالبها الحياتية الإنسانية الدنيا. وهذا الأمر موجود عالميا إذ تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين، وعراقيا بات عدد المليارديرية يعدّ بين 2- 3 آلاف ملياردير وما يناهز 07 – 10 آلاف ملتيمليونير فيما نسبة الفقر المعلنة رسميا تناهز ربع السكان وهي في غير كوردستان تصل 55% وفي أرياف المحافظات الجنوبية تشكل نسبا مفزعة إذ أنها تصل 89% في ريف السماوة على وفق أرقام الحكومة الاتحادية التي عادة ما تقلل من حجم الظواهر السلبية!!! إن الفوراق في المداخيل مرعبة ولكن ما يزيد الطامة أن تلك الفوارق لم تأتِ عن طريق نمو متدرج في البرجوازية الوطنية بل عن طفرات في الاقتصاد الطفيلي وما رافقه من فساد بقمة الهرم الاجتماعي وبنية مؤسسات الدولة مع سحق مرهب للفئات الواسعة؛ يذكر أن العراق احتفظ طوال السنوات التسع الأخيرة بالمراتب الأربع الأولى عالميا!!!

02.         الفساد بأشكاله ومستوياته: لقد أفرز انهيار مؤسسات الدولة وفرض نظام المحاصصة وطبيعة نظام الطائفية السياسية حالا من عدم الاكتراث بمصالح المجتمع، وبهذا ساد الفساد بألوانه حتى قمة الهرم الإداري للدولة المثقل بموروثات النظام السابق الأمر الذي عطل نهائيا أي شكل لمحاولات إعادة الإعمار وإطلاق دورة اقتصادية سليمة. وفي ضوء ذلك انهارت البنى التحتية، وتدهورت الخدمات العامة والخاصة للفقراء وهذا ما يأتي بناء على جملة أسباب مرتبطة بآليات الفساد الذي ينهب رأس المال المخصص لاستثمارات استعادة البنية التحتية بلا أية إنتاجية فعلية، ومن ثمّ تتراجع نسب النمو في ذات الوقت الذي تتضخم فيه الكلف المخصصة لتشغيل الموجود من  البنى التحتية وهي أصلا هزيلة النوعية. إن الأذى الذي يتسبب فيه الفساد للفقراء ينطلق من الطبيعة الطفيلية الانتهازية التي تخترق رأس الهرم  فتُحدِث لا الخلل في توزيع الثروة بل تتسبب في نهب رؤوس الأموال الكبرى وفي متابعة سرقة جيوب الفقراء عبر نظام الرشاوى المرافق للفساد. وفي وقت قد يتطلب معالجة البطالة إطلاق مشروعات لا تتكلف سوى ملايين معدودة فإن نظام الرشاوى والعمولات يستهلك مئات ملايين الدولارات...! وربما عاد الفساد في أغلب البلدان العربية لأدوار حزبية سلبية وتحكمها بمؤسسات الدولة ونظامي حكم العائلة والعشيرة أو البطرياركية، إلا أن الأمر عراقيا بات ينتمي لتركيبة  لا تكتفي باجترار من الآخر بل تقدمت لتبزّ الجميع بإبداعات أنشطة الفساد وآلياته من الطراز الأول عالميا أقصد أن النظام العام هو نظام الفساد وليس الفساد مجرد ظاهرة عابرة!

 

03.         ظاهرة التضخم: التي تتضمن ضعفا في القيمة الحقيقية للعملة وضعفا في قوتها الشرائية ما يعني ارتفاعا في منحنى أسعار السلع والخدمات  وانحدارا في دخل الفرد والأسرة في ضوء  ازدياد نسب التضخم، متسببا في العجز عن الإيفاء بالمطالب الحياتية الضرورية. لابد من الإشارة إلى أن الأصفار التي اكتسبها الدينار العراقي في تضخمه الناجم عن الحروب والحصار وطبع الأوراق بلا رصيد وغير ذلك، مازالت تلك الأصفار تستخدم حتى يومنا بلا سبب مقبول وذلك ما ساعدويساعد على امتصاص الثروة على الرغم من الوعود المتوالية للانتهاء منها  وحل مشكلة التضخم...

 

04.         الأزمات الناجمة عن الحروب والنزاعات وعن الكوارث الطبييعية: وهو الأمر الذي يعطل الدورة الاقتصادية ويشيع حالات فقدان فرص العمل فضلا عن الفقدان المباشر وغير المباشر للممتلكات والمدخرات.. وبشأن فرص العمل تشكل البطالة مشكلة جدية ليس في تعطل طاقة الشبيبة المنتجة عن دورها بل في إقصائها فتهميشها ثم جنوحها أو دخولها في مركب التسبب بالمشكلات المركبة المعقدة، وبمزيد من مشاعر الفوارق والنقص التي تهدد التماسك الاجتماعي.. وطبعا في إطار تزايد البطالة ووصولها إلى مستويات قياسية عالميا نجد الأزمة تطاول الخريجين بنسبة ثلاثة أضعاف الأميين على وفق إحصاءات منظمة العمل العربية 2010، وهو ما يصل لنسب تقارب نصف طاقة العمل! وعراقيا لا يشذ الأمر عن هذه الأرقام المرعبة. على أننا هنا نعيد معالجة موضوعة الحروب انطلاقا مما أشاعتها من فسلفة سلبية نتيجة اضطراب الظرف العام محليا وإقليميا بإثارة الخوف المستمر من احتمالات اندلاع حرب سواء داخلية أم خارجية فضلا عن ثقافة عسكرة المجتمع والدولة الأمر الذي دفع إلى زيادة مهولة للإنفاق العسكري على حساب القطاعات الاقتصادية المختلفة وعلى حساب إعمار أو إشادة البنى التحتية المدنية والاستثمار المنتج. وهذه الحقيقة مما سبق لكثير من الباحثين الاقتصاديين ومن الساسة أن أشاروا باهتمام إليها وإلى خطورة الاستمرار فيها في ضوء الاحتقانات الجارية في العراق الجديد بخاصة هنا ما يفتعل بالضد من الفديرالية وإقليم كوردستان تحديدا...

 

05.         برامج الإصلاح والتصحيح الهيكلي وثغراتهما: لقد جاءت البرامج الإصلاحية  وتصحيح الهيكلية أما بثغرات وفوضوية  نجم عنها انحدار في مستويات المعيشة وبروز ظاهرة الفقر أو أنّ عمليات التصحيح والتعديل الهيكلي تلك قد تسببت مباشرة بمثل هذه الظاهرة كنتيجة عارضة لتطبيقاتها. فقد  تضمنت فعاليات التصحيح الهيكلي مختلف الإجراءات الانكماشية،  وحالات تحجيم الأجور الدنيا الفعلية،  وإجراءات خفض سعر الصرف،  مع زيادة معدلات الفائدة الحقيقية،  وقرارات خصخصة الشركات التي يملكها القطاع العام .. وبهذا اتسمت الظروف العامة بعد برامج الإصلاح وما رافقها من سياسات وإجراءات، تلك التي عادة ما كان وراءها صندوق النقد الدولي، إلى اتساع البطالة وانحدار العملة ومن ثم إلى سوء حصة الفرد الغذائية، وتراجع الخدمات الصحية، مع تدهور في مستويات التعليم ومجمل الخدمات العامة...

06.         طبيعة إدارة الموارد: حيث تفتقر الخطط الوطنية لوجود استراتيجيات للتنمية الاقتصادية ما يعدّ سببا خطيرا في نشوء ظاهرة الفقر وتزايد نسبها. ولابد من الإشارة هنا إلى نقطة حيوية مهمة في استفحال ظاهرة الفقر تتمثل في تدهور التعليم  وانخفاض مستوياته ما يساهم في إبراز ظواهر التخلف والجهل وتأثيراتها على التنمية من جهة وعلى سوء إدارة الموارد في أجواء مفارقة التقدم التكنولوجي العلمي في عصر الحداثة. على أننا ينبغي في وقت نتحدث فيه عن سوء إدارة الموارد، أن نركز بإشارة مخصوصة إلى  إشكالية انخفاض معدل النمو السنوي في نصيب الفرد من الناتج المحلي، الذي بدوره يؤدي إلى انخفاض في الإنتاج وتوليد الدخل، ومن ثم ارتفاع في الفقر.. لنعود بإشارتنا هذه إلى عوامل تتحكم في الموارد من مثل عبء الديون المتخن بها العراق نتيجة حروب الطاغية وإرثه الذي اقتصى فرض عقوبات معروفة  وطبيعة العلاقات مع الدول بخاصة في عدم التكافؤ أو عندما يجري تهريب العملة الصعبة بطرق ملتوية كما يحصل باستغلال بعض البنوك العراقية  لصالح إيران المحاصرة بقرارات دولية. في حين يلزم هنا أن نشير باهتمام أيضا إلى عدم سلامة السياسة النقدية والمالية وتخبطها بين المركزي واللامركزي وبين الوطني المستقل والتابع أو المرتبط بسلة العملات الدولية وسوق الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط...

07.         حجم الأسرة وبنيتها:  إنَّ حجم الأسرة وطبيعة البنية فيها، يعدّ من أسباب الفقر بخاصة في ظروف بلدان التخلف التي تشيع فيها حالات إعالة الفرد للعائلة التي لا يعمل أفرادها جميعا عدا ربّ الأسرة.  الأمر الذي يؤدي إلى العجز عن توفير حاجات الأسرة كبيرة الحجم هذا بخلاف الأسباب التي مرّ ذكرها وهذا التوصيف مازال ينطبق على العراق وتركيبة العالة فيه.  وعراقيا نرصد علاقة مباشرة بين مستوى عبء الإعالة ومستوى الفقر في الدولة، على فرض ثبات إنتاجية العمل، علما أن مستوى العبء يخضع لثلاثة أسباب غير مباشرة للفقر هي حجم أو مستوى مشاركة القوى العاملة ودرجة مساهمة المرأة في تلك القوى المنتجة وحجم البطالة بأشكالها.

 

08.         ضغط النمو السكاني غير المسيطر عليه وتهميش فئات مجتمعية بعينها: إنَّ تزايد نسبة السكان المطردة وبشكل غير مخطط وغير مسيطر عليه يعيق من إمكانات تلبية المطالب الإنسانية للفرد والأسرة، وهو يتطلب زيادة في الإنفاق الاجتماعي غير المتاحة. كما أنّ حالات تهميش أدوار الفئات السكانية الكبيرة كما سكان الريف وكما نصف المجتمع أي النساء فضلا عن فئات عريضة في مدن الصفيح والأحياء الفقيرة، كل ذلك سيكون سببا آخر في تعميق ظاهرة الفقر... ولا ننسى أن انحسار نسبة الأرض الصالحة للزراعة في الريف إلى عدد السكان له دوره في تحديد نسبة الفقر علما أن التصحر والتحول إلى أرض بور نتبجة السياسات المحلية والإقليمية  قد تفاقم مؤخرا بخاصة مع مشكلتي النقص الحاد في  منسوب الإطلاقات المائية من دجلة والفرات في ظل صمت مريب للحكومة الاتحادية بالخصوص.

 

09.         سياسة الحماية: ومن العوامل التي تزيد الفقر في البلاد تلك المرتبطة بالسياسة الزراعية وحماية المنتج الفلاحي المحلي. وقد عانى الفلاح العراقي من إغراق السوق بمنتج أجنبي مدعوم على حساب المنتج المحلي. فيما انهارت بقايا الصناعات التحويلية المحدودة التي نمت في العقود الأخيرة، ولابد من الإشارة إلى أن الدول الكبرى التي تدعي ممارسة التجارة الحرة توفر حماية كمركية بلغ مقدارها رقما مهولا عادل مليار دولار يوميا، فضلا عن عرقلة التبادل التجاري المخصوص مع بلدان الجنوب ومنها بلادنا التي هي الأخرى وضعت نفسها في مآزق الابتعاد عن التجارة البينية المثمرة مع دول الجوار إيجابيا ومع إقليمها وعمقها في الأمن الغذائي.. وطبعا تُرِك فلاحنا ومواطننا بعامة تحت رحمة التلاعب بأسعار المواد الأولية التي لا يستطيع توفيرها كما في الأسمدة...

 

 

الفقر والفقراء، الآثار والنتائج:

تؤدي ظاهرة الفقر واتساع نسبة الفقراء وفجوة الفقر إلى جملة من الآثار الاجتماعية والاقتصادية، فالفقر عامل سلبي يفاقم الوضع ويزيد من تدهوره ومن تعقيد الأسباب التي ولدته، ومن ثمّ يؤدي إلى ارتفاع كلفة الحد منه ومعالجته .  ففي الجوانب الاجتماعية يمكن رصد الآتي من الظواهر  كالانحرافات في سلوك الأفراد وأخلاقهم وانحراف في المستويات القيمية وولوج ممارسات الفساد للحصول على لقمة العيش والمكان الاجتماعي وغيرهما. ويمنع الفقر الأطفال من التمدرس، أو التمدرس المكتمل، عندما يعجز الآباء عن تحمل تكاليف تعليم أطفالهم، وفضلا عن ذلك فإن نسبة الأيتام في العراق اليوم هي نسبة جد مرتفعة ما يدفع العوائل لتشغيل الأطفال بما فيها من آثار سلبية. ويتدهور الوضع الصحي وتزداد الوفيات  وغير ذلك من الآثار التي يمكن لعلماء الاجتماع رصدها. واقتصاديا سنرصد نتائج الفقر في ظهور الفساد وانتشاره بما يعطل و\أو يشلّ الدورة الاقتصادية المنتجة لحساب الاقتصاد الطفيلي،  وتتدهور مستويات معيشة الأفراد كما تتعقد العلاقات الاجتماعية وتنهار ما يؤدي لتدهور في الإنتاجية أيضا.. ولكن أبروز مشكلاتنا مع زيادة الفقر تكمن في الأرضية الخصبة للهزات في التماسك الاجتماعي وضرب العائلة العراقية في الصميم ومن ثم في الأرضية الخطيرة لقوى الإرهاب والجريمة ومافيا الدعارة والاتجار بالبشر.. ولا يمكن لنا رصد كل ذلك بسبب من تصاعد ظواهر التستر على الجريمة في أجواء انفلات الأمور وعدم سيطرة الحكومة أو عدم اهتمامها بمسؤولياتها وهزال مؤسساتها المعنية...

 

 

معالجة ظاهرة الفقر في العراق: الاستراتيجية والواقع

     صدر عراقيا  عن وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي ولجنتها العليا لسياسات التخفيف من الفقر "الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر2009" وقد تضمنت دراسة المنطلقات والتحديثات التي تجابه تلك الاستراتيجية ممثلة في ضمان الأمان والاستقرار والحكم الرشيد  وعدالة التوزيع مع التخفيف من وطأة عمليات الإصلاح الاقتصادي. وفيما حددت الوثيقة خط الفقر وطنيا ورصدت الفوارق بين الريف والمدينة، حددت المحافظات الأفقر وربطت حال الفقر والبطالة ولمست أن التفاوت في الإنفاق أقل من التفاوت في الدخل. وبناء على مجمل تلك القراءة التي نهضت بها، وضعت محاور ومعالجات تنموية عديدة في مجالات اقتصادية واجتماعية و على صُعُد التشريع والأطر المؤسسية، وكان من أبرز محاور تلك الاستراتيجية:

- توفير دخل أعلى من العمل للفقراء.

- تحسين المستوى الصحي.

- توفير أطر أوسع من التعليم وتحديثه وتحسينه للفقراء.

- توفير سكن صحي لائق.

- إيجاد ضمان اجتماعي وحماية للفقراء.

- تقليل التفاوت بين النساء والرجال الفقراء.

ولم نلحظ في قراءة المحاور الرئيسة قضايا من نمط إجراء إصلاحات في القطاع المالي و التنمية البشرية وربطها بالتنمية في سوق العمل. كما لم نقرأ توجها نحو الحدّ من الفقر بوساطة خطط التشغيل والاتساع بالاستثمارات المخصوصة إلى جانب أهمية مخصوصة لإعادة توزيع الثروة من دخول ومزايا و خدمات، الأمر الذي انعكس مبدئيا في سياسة منقوصة حكوميا فضلا عن عدم اهتمام بتطبيق ما ورد في تلك الدراسة والخطة الاستراتيجية!؟

يمكن الاطلاع على الخطة في الرابط الآتي: http://cosit.gov.iq/pdf/2012/PRS-ARB.pdf

 

ولمجرد المقارنة بين التدبيج الإعلامي وخطة المعالجة المشار إليها هنا نضع جملة من الأرقام التي تعود للحكومة الاتحادية في بغداد وليس لأية جهة أخرى. مشيرين إلى الفجوة بين المليارديرية والفقراء المحددين بالرقم 77 ألف دينار للمعيشة الشهرية كيف تكون الفجوة لا تصل إلا إلى أقل من 5% كما تقول الحكومة فيما الحقيقة بالمعدل الفعلي يمكن لأبسط طالب رياضيات أن يستنتجها!؟  ولنلاحظ أننا اليوم ونحن دولة نفطية نُصنّف في قاع آخر 25 دولة عالميا من تلك التي ليس فيها أية ثروة كما العراق...و نسبتا البطالة والفقر بحجم 30% و23% على التوالي. أما الحديث عن الحد الأدنى لخط العيش الآمن سواء للأمن الغذائي أم لغيره فإننا يمكن أن نسأل فقراء العوائل أنفسهم عن حجم الانفاق سواء على الغذاء أم الطاقة من كهرباء ومن محروقات أم النقل [وعلينا هنا أن نذكِّر بأن نسبة ما بات يدفعه المواطن على السكن والمحروقات والمياه بعد أن كان يعادل 13% عام 1993 صار 29% عام 2007 وهو في تصاعد بنسبة متزايدة حتى يومنا هذا مع التنبيه على تفاصيل مثل عدم ثبات سعر العملة؛ وبالمناسبة نشير إلى تضاعف الصرفيات على النقل من 5% إلى 10% والأمر حاليا في تزايد!؟ ونسأل الفقراء عما يصرفونه على الصحة التي أمست فعليا غير مجانية اليوم وغير مضمونة ولا مؤمَّنة مع التنبيه على مشكلات معقدة جديدة تتمثل في تصاعد نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة وشمولها فئات عريضة وظهور أمراض معدية وانتشارها كالأيدز وغيره وأمراض خبيثة حادة كالسرطان مما لا تقوى إمكانات الفقراء على متابعة علاجه ومثلها أمراض وراثية ناجمة عن مسببات التشوه والإعاقة وما شابهها. وعلينا لقراءة المشهد أن نتحدث عن تفاصيل تسرب الأطفال من الدراسة لإعالة أهاليهم وهؤلاء في الغالب من دون معيل حيث اختفاء الأب وعجز الأم حتى أصبحنا نشاهد أمهات بعن بناتهن وصارت سوق بيع الأطفال رائجة [كما تسرّب بعض الجهات الصحافية] حتى في أقرب مكان من أعلى مستوى حكومي!!!

ولكن لنبحث عن فجوات فقرعديدة مضافة؛ فبين الريف والمدينة فجوة أخرى لا يسميها من أصدر تلك الأرقام والنسب؛ فالفقر في الريف يشكل 39% فيما هو 16% في المدينة أي ما يقارب مرتين ونصف وربما أكثر من ثلاثة أضعاف لو قرأنا الحقائق. والمشهد يقول: إن نسبة الفقر في محافظات كوردستان تقل عن الـ10% فيما تصل محافظات العراق الأخرى في نسبة الفقر لأكثر من 50% وفي الريف العراقي تصل النسبة إلى 75% في المثنى و61% و60% على التوالي في كل من بابل وواسط أي بين الثلثين والثلاثة أرباع! وربما رفضت بعض التقارير الربط بين الفقر والبطالة وقصرت الأمر على ضعف الإنتاجية إلا أنها تغفل حقائق مثل عمل 56% ممن هم فوق العشر سنوات بلا أجر فيما عمل النساء بغالبيتهن العظمى يتم بلا أجر في الريف وبأجور متدنية في المدينة خلا ساعات استنزافهن المضافة؛ ويتغافلون عن كون  ما يحصل عليه [نصف المجتمع] أو القسم الأفقر في البلاد من الدخل لا يتجاوز الـ7% مقابل 43% تذهب للخمس الأغنى ممن يتقاضون أجورا خيالية مقابل أنشطة لا تساوي مدخولاتهم: فأي توزيع عادل للدخل!؟  

لكن الأمر لن يقف عند هذه الحدود فهناك عدد من التهديدات التي تعرض لها العراقي في السنوات الأخيرة بسبب ما سميّ سياسة الإصلاح الاقتصادي، كمحاولة إلغاء البطاقة التموينية [المريضة أصلا] الأمر الذي يعني إمكان أن تزيد نسبة من يقع في دائرة خط الفقر بما يزيد على الـ11% لتنقل الرقم الحكومي الرسمي نفسه إلى نسبة 34%.

إنّ الأرقام الحقيقية لأوضاع الفقر بحاجة لإعادة رصد في ضوء إحصاء سكاني شامل وفي ضوء قراءات مختلفة نوعيا تنظر إلى الوقائع كما هي وبدلا من تقدير 77 ألف دينار شهريا كخط فقر، لنتذكر أن الواقع يشير إلى أن 800 ألف دينار لا يمكنها أن تطارد حاجات الفرد والعائلة العراقية باسعار اليوم ومتطلباته. وفي ضوء ذلك تكون فجوة الفقر متسعة بعمق ونسبة الفقر بأرقام مضاعفة..

لكننا إذ نشخص ظاهرة الفقر ونقرأ حقيقتها لا نكتفي بإيراد تلك الصورة المأساوية ولا الاكتفاء بتقرير السبب الجوهري الكامن في تحكّم مثلث الطائفية الفساد الإرهاب بالإدارة الحكومية والنظام العام وإنما نحاول وضع أسس مبدئية أولية لمعالجة الفقر في البلاد مقترحين من أجل ذلك الآتي:

1.  ضبط الوضع الأمني وإشاعة الاستقرار. فمقارنة بسيطة بين كوردستان وبقية أنحاء البلاد تشير إلى الفارق الأمني ونتائجه في تجاوز الفقر وغيره من الظواهر السلبية.

2.  إطلاق عجلة الاقتصاد بالاستثمار الإيجابي لا الطفيلي وبالموازنة بين القطاعات وأولوياتها وتحديث الصناعة والزراعة ووضع خطط إنقاذ مركبة سريعة مباشرة وطويلة الأمد.

3.  مكافحة الفساد بأشكاله وبأعلى مستوياته أي الشروع من رأس الهرم ووضع آليات مناسبة لإنهائه بوجود مشاركة أممية بالخصوص سواء بالخبرات أم بالبرمجة والتنفيذ والمتابعة.

4.  تعديل الأجور وسلمها ووضع ضوابط للحدود الدنيا والعليا لها. ومعالجة مشكلة الأرقام الفلكية لأجور المناصب العليا في الدولة.

5.  معالجة مشكلات العملة وتضخمها وقدرتها الشرائية وربط متغيراتها بأية سياسة منتظرة بشأن الموازنة بين الأجور والأسعار.

6.  تفعيل حقيقي جدي لقانون الضمان الاجتماعي ووضع آليات مناسبة لجعله في خدمة إزاحة شبح خط الفقر عن كاهل الشرائح المعنية أو المشمولة به.

7.  تفعيل البطاقة التموينية وتصحيح مفرداتها ومعالجة الخلل فيها.

8.  حل مشكلات السكن والخدمات العامة والشروع بعمليات  تجديد الأبنية الخربة مع ما يرافقها من خدمات أساس وتحديدا بناء القرى العصرية وبناء المدن الجديدة وتحديث القديمة بآليات لا تتلكأ حتى مسافة أجيال لاحقة!

9.  معالجة جدية مسؤولة لعشرات آلاف العوائل المهجَّرة والمهاجرة وإعادة الأمور إلى نصابها بشأن ما فرضته الحرب الطائفية من تشوهات ومن نتائج مدمرة. ومن اللازم بالخصوص التعويض عن الخسائر في الممتلكات والأرواح وتوفير السكن اللائق وسد الحاجات الضرورية...

10.                      الاهتمام بالتعليم بجميع مراحله وجعله من أولويات الخطط والموازنات واستثمار وسائل تحديثه والكفاءات المهاجرة وأنظمة التعليم التي تستثمر التكنولوجيا الأحدث من أجل توفير الأموال والطاقات والوصول في سقف زمني مناسب إلى أفضل النتائج...

11.                      تحديث نظم الصرف الصحي والطرقات وإدخال وسائل النقل الحديثة  وتمكين المواطن من وسائل الاتصالات الأحدث، فضلا عن توفير الماء والكهرباء ومتطلبات الحياة العصرية.

12.                      التحديث الإداري وإعادة الهيكلة وتفعيل أنظمة قانونية لعمل المؤسسات وآلياتها في الإنجاز ومستويات الإنتاجية...

13. حل مشكلات العلاقات الاقتصادية التجارية منها وحماية المنتج الوطني وتبني سياسات سليمة في التوازن والدفاع عن مصالح البلاد..

 

 

ولابد في خاتمة المطاف أن نؤكد أن هذه القراءة لا تتقصد  الاتهام والتعريض بجهة أو أخرى ولا بزعامات أو شخصيات مسؤولة، بقدر محاولتها قراءة الواقع كما هو بمنهجية علمية تستند إلى الأرقام والإحصاءات. متلمسة هنا وسائل الحل والمعالجة الأنسب.. ولكنها في الوقت ذاته ترى أنّ العراقيين ليسوا شحاتين على أبواب كائنا من يكون من المسؤولين إذا ما فكر أحدهم بتجاوز آليات  تداول السلطة ونسف الخيار الديموقراطي للشعب و\أو عاد أحدهم الآخر إلى فلسفة المكرمات وآلياتها وأشكال الترقيع وإطلاق الأرقام المتهاودة المضللة واستخدام وسائل التخدير وتمييع القضايا بالتصريحات الرنانة والخطب والفذلكات التي لا تغني ولا تسمن.. فالقراءات والإحصاءات يجب أن تكون واقعية، تعكس الحقيقة. والمعالجات يجب أنْ تدرك أنَّ زمن المكرمات قد ولَّى وأن زمن الحقوق هو ما يجب أن يكون اليوم.