تداعيات في موضوع أنسنة حياتنا  وتوظيف الدولة المدنية لمعالجة مشكلاتنا وتلبية مطالبنا؟

الدولة المدنية ديموقراطية ترعى الديني والدولة الدينية ثيوقراطية حكم مطلق يستبيح المدني

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

يبادر بعض أصحاب المنطق العقلي لمعالجة أو تناول نقدي بشأن ظاهرة أو أخرى. وعادة ما تجري التفاعلات من طرف من يتحكم بالسلطة على أنّ نية تلك المعالجة تكمن في إقصائه عن السلطة.. ولهذا التفسير وجهان الأول يكشف تمسك سلبي بالسلطة وكأنها غنيمة وملكية أبدية لجهة تتناسى كيف وصلت إليها وتحاول إغفال مبدأ التداولية المفروض في آليات الديموقراطية. ووجه آخر يكشف ضغائن الروح العدائي  وانعدام الثقة، ما يفرض قسرا الرؤية الأحادية والتحكم الدكتاتوري لفكر سياسي بعينه..

وبالمقابل نجد أولئك الموجودين خارج السلطة وتحديدا جمهور الشعب وفئاته العريضة، تبحث عمّن يعالج أوضاعها وما يكتنفها من مشكلات وأزمات تتراكم وتستلب كل ما هو إنساني في الحياة الآدمية البشرية. وهذه الجموع لا ترى في أشكال النقد إلا جزئية من محاولات الإنقاذ والتعبير عن مطالب إنسانية تفرضها طبيعة حياة البشر. وهي لا ترى في المعالجات إلا وسيلة أنسنة الحياة وضبط مجريات وقائعها الدنيوية المخصوصة بنا وجودا آدميا بشريا مدنيا...

المشكلة تتعقد تماما يوم يكون الخلط بين الديني والمدني، ويوم يُسقط الحاكم على نفسه [شخصيا] جلال الديني وقدسية تمثيل الله على الأرض.. جامعا بين يديه السلطتين الروحية الدينية والدنيوية المدنية. إن التعقيد ينطلق من أنّ الجمع بين الأمرين لا يتم إلا باصطناع شكل لدولة دينية على طريقة ولاية الفقيه (النموذج الإيراني) أو على طريقة الخلافة بما يُخضِع الجميع لسلطة الحكم الثيوقراطي المطلق، وهو الأمر الذي عادة ما يغلِّب الديني على الدنيوي متعارضا حتى مع المنطق الديني لدولة الإسلام الأولى وللإسلام نفسه الأمر الذي نطلع عليه في الأحاديث الشريفة أنْ: "لا رهبنة في الإسلام" و "عامل يعمل خير من ألف عابد" و "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" في أولوية منحت للحياة الإنسانية وفي مساواة لا تسمح بتغليب الديني ولا بإلغائه وجودنا  البشري الذي تؤكد وصايا النص المقدس على أنه [أي بني آدم] هو المستخلف لإعمار الأرض وليس غير هذا من مهام....

ولم نجد نصا أو وصية أو أمرا يمنع العمل ويوقفه لصالح مشاغلة الناس بطقسيات ما أنزل الله بها من سلطان، وكثرما نجدها اليوم في ألاعيب سياسية لادينية مقصودة الغايات والمآرب! ولم نجد نصا أو وصية تأمر بمشاغلة الناس باحترابات الانقسام الطائفي.. إنّ الكارثة ليست في العلاقة بين الإنسان وما يؤمن به من عقيدة ودين، فلقد سارت تلك العلاقة دوما بقيم روحية سامية امتلأت بها الأنفس بلا مداهنة ولا تزييف ودجل. إلا أنّ المشكلة كانت دائما تكمن في من ينصّب نفسه رجل دين ثم لا يكتفي بهذا وإنما يتحكم بالسلطة بين قبضتيه وأوامره ونواهيه بشكل مباشر و\أو غير مباشر!

لقد عانت البشرية دوما من عبث الدولة الدينية وكثرما قاد ذاك النموذج البشرية إلى حروب دموية حاقت بأرواح البشر ليس لأمر سوى لدوافع التشدد والتطرف والمغالاة التي لا تنتمي لمنطق عقلي ولا لنص ديني حقيقي صادق.. ومن أجل تلك الحروب العبثية كانت تُفتعل النصوص وتوضع كذبا وزورا في استغلال للجهل والتخلف من جهة وفي مصادرة أصحاب العقل والحكمة ومنعهم من تنوير الناس أو التعرض لسلطتهم الثيوقراطية المدعاة المزعومة..

إنّ نقد منطق الخرافة والفكر الظلامي الذي يقوم على التجهيل واستغفال العقل الأمي الساذج أو المتخلف، لا يقع في خانة التعارض مع إيمان الناس ومعتقداتهم الروحية الدينية بل هو في جزئية رئيسة منه يتضمن تخليصهم من أدران التضليل التي تُمارَس ضد الدين في أصل نصوصه وضد مبتغياته في إصلاح الأنفس وإعمارها تمهيدا لدفع الإنسان لإعمار أرضه وبناء حياته والاعتناء بها ورعايتها بوصفها مهمته التي كُلِّف بها دينيا..

إنّ التكليف الأول للإنسان هو العمل.. فالعمل عبادة وإلا لما قيل في الحديث الشريف "عامل يعمل خير من ألف عابد" ولا نص الآي المقدس على "وقل اعملوا..." أما العبادات فمعروف أنها بين الإنسان وربه ومعروف أنه محظور الغلو فيها وممنوع الرهبنة والكهنوتية والانقطاع للطقسيات بخلاف أدعياء التدين اليوم ممن قلبوا حياة الناس إلى طقوس متصلة مستمرة على مدار العام فعطلوا الأعمال وأشاعوا  ما اصطنعوا من طقوس وبدع وغلَّبوها على كل أمر آخر حتى باتت فصول السنة هي بكائيات وأحزان أبدية في وقت نصّ الحديث الشريف على أنه لا عزاء فوق ثلاث!؟ وحقيقة تلط الطقوس والبدع، تتمثل في محاولة طمس تراجيديا العيش والتنفيس السلبي بدل المعالجة وتلبية المطالب...

إن الأصل في أمرنا هو إقامة دولة الإنسان المدنية والتخلص من الزيف والافتراء على الله والدين بما يطرحه بعض الأدعياء في أضاليلهم.. وإطلاق عمليات الإعمار والبناء وتحسين حيوات الناس ومعالجة الفقر والمرض وإزالة الجهل والتخلف وإشاعة المسرات إغناءََ للقيم الروحية السامية  دينا وثقافة وإبداعا للعقل البشري على وفق الوصايا الصحيحة الصادقة للدين وعلى وفق سياسة تُعنى بتلبية مطالب الناس وحاجاتهم الروحية والمادية...

نحن اليوم، في عصر التكنولوجيا والعلوم، عصر العقل وحكمته وسداده ونظم الدول المعقدة في البنى الاقتصا سياسية والتركيبات الاجتماعية التي تتطلب الدراسات والمعالجات المناسبة وهذا لا يأتي من التجهيل وإشاعة الأمية والتخلف ولا من عبث وضع بعض الدجالين في سدة الحكم لمجرد إطلاق اللحية وارتداء الجلابيب والتمظهر بطريقة رمزية بإشارة سطحية للتدين والإيمان، فيما الجوهر فراغ من العلم ومن برامج الفعل والعمل.. إن الانتماء للعصر يأتي من تبني التكنوقراط من العلماء والحكماء والمتخصصين في مجالات الإدارة والاقتصاد وتفعيل الدورة الاقتصادية بطريقة تبني وتعمر وتشغل الطاقات إيجابا..

ومجددا إن خطاب بناء الدولة المدنية لا يتعارض مع إيمان الناس ومعتقدهم الديني بل يفسح لهم أوسع الأبواب لممارسة طقوسهم الصحيحة والتعرف إلى الدين الحق في نصوصه وتعاليمه وليس في افتعالات ساسة التدليس والتضليل... ولهذا فالدولة المدنية ليست ضد وجود جمعيات تعنى بالشؤون الدينية بل هي أكثر من ذلك توجد مؤسسات رسمية تدير تلك الشؤون وتعنى بها فضلا عن الجمعيات بكل المذاهب والفرق الدينية التي تجتهد في قراءة النص الديني والدعوة فيه وإليه بصواب الكلمة وموضوعيتها..

لكن الجمعية الروحية (الدينية) لا يجوز أن تتحول إلى حزب سياسي، ولا يجوز لرجل الدين أن يمارس مهامه الدينية من منابر السياسة! إذ الخلط بين الديني والسياسي في المسؤولية الرسمية هو خروج على منطق الأمور الصائبة. والصحيح أنه يمكن لكل إنسان أن يمارس ما يريد من أنشطة روحية ثقافية وأن يوجد الجمعيات والمؤسسات التي تنظم أنشطته ولكن على وفق قوانين الدولة المدنية.

والسبب هنا يكمن في رفض الأسس الثيوقراطية في تسيير أعمال الدولة كونها تتعارض وكل ما أوردناه من نصوص وتعاليم دينية من جهة وكونها تجسد بلطجة الوجود المدني للإنسان وتمهد لإرهابه ماديا وروحيا فكريا عندما تعتمد خطاب التكفير ورفض التعددية والتنوع وتمضي بالحتم على وفق لا الدين بسماحته بل المعلب منه بنصوص سياسية تزعم تدينها وأول مظاهر الدولة الدينية هو الإكراه على المذهب والعيش في شرنقة الطائفة والطائفية ثم الفرقة ثم المرجع الفقيه ومن ثمّ ننتهي للحكم المطلق الذي يأتمر بمنطق شخص يصير الآمر الناهي باسم الله على الأرض، ومرة أخرى هذا يتعارض وأصل الدين مثلما يتعارض ووجودنا المدني الإنساني ومطالب آدميتنا التي تصادرها الدولة الدينية..

الدولة المدنية ليست ضد جماعة أو أخرى وليس فيها ما يميز بين مكونات المجتمع. والدولة المدنية تقبل بتشكيل الأحزاب بحرية تامة ولكنها في الوقت ذاته لا تقبل بمأسسة  الانقسام وفرض طرف على آخر.. ومن هنا ينبغي أن تحظر الأحزاب الدينية وأن تقنن الحياة الحزبية بما يجعلها مؤسسات تنظم برامج البناء وأنسنة الحياة.. أما المؤسسات الدينية فلها نظام الجمعيات المدنية المقننة هي الأخرى كما ينبغي لها أن تخضع لمبدأ كون حريتها تنتهي حيثما بدأت حريات الآخرين..

إن منطق الإخاء في المجتمع الإنساني والعدل والإنصاف والمساوة ليس قانونا مدنيا ضد القوانين الدينية بل النصوص الدينية  الصحيحة لا المزيفة هي التي توصي بها أيضا. إذن، دعاة الدولة المدنية ليسوا من الكفرة بالدين، ولا المارقين، ولا الأدعياء لقدسية متوهمة مزيفة بغرض مصادرة المجتمع البشري؛ ولكنهم ينظمون العمل بأسس تنتمي للعصر بما يمكن من خلاله وفي ضوئه تلبية مطالب أنسنة الحياة والاستجابة لحاجات البشر ببناء المصانع وإيجاد المزارع بوساطة العلوم لا الجهالة وإدارة الاقتصاد الذي يعالج الفقر فعليا لا ادعاء يمارس التعكز على الحجج الواهية تبريرا لإخفاقاته وتسبيبا لاستمرار المجاعات والحروب..

الدولة المدنية لها أصولها في معالجة المشكلات ولا وجود لتبرير في استمرار مشكلة واستعصاء كارثة واستفحالها. ومن يعجز عن الإدارة والحل يأتي غيره وربما يستبدل برنامج الحل وهكذا..

في الدولة المدنية الجميع معا وسويا وليس من أحد ضد أحد آخر.. النقد متاح ومقبول لأنه وسيلة منطق العقل في إيجاد الحلول ولا انتقاص من طرف يُنتقد ولا يتم البحث عن مبررات وتدبيج ذرائع للخطأ.. بل توجه مباشر نحو البدائل الموضوعية بتفاعلات إيجابية..

في الدولة المدنية لا يتحصن المخطئ خلف قدسية مزعومة يسقطها على نفسه ولا على عصمة دينية مدعاة بل المخطئ يقر بما بات واقعا ويترك الفرصة لغيره كيما يعالج.. تلك هي قوانين الدولة المدنية.. قوانين تنتظم في عمل مؤسسي جمعي. همه الجميع بلا استثناء وتدخل في رعايته حتى الجهات التي لا تستطيع تلبية مطالب أو التي تخطئ.

وأنا مع دولة مدنية من أجل أنسنة حيواتنا والاستجابة لآدميتنا، لم أكن يوما ولن أكون ضد مجموعة بشرية ولا ضد شخصية بل ضد فعل وفكرة أرى ضرورة تقويمها وتصحيح مسار الأداء فيها وهي إنقاذ للجهة أو الشخصية من التورط في (جريمة) وهي تلبية لمطالب الناس وتجنيبهم الخسائر والتضحيات...

فإن كنا معا وسويا بهذا المسار نجونا وبنينا بلداننا بساتين مثمرة لحياة  حرة كريمة نحيا فيها بتنوع مكوناتنا وانتماءاتنا القومية والدينية والفكرية السياسية.. فلِمَ لا نكون كذلك؟

الإجابة تكمن في التخلي عن العصبية المقيتة لأي أمر استقر فينا خطأ، العصبية العشائرية القبلية والعصبية القومية والعصبية الدينية وهي التي تفرّخ في كنفها العصبية الطائفية  فتبدأ مرحلة التمترس خلف مرجع زعامة وتكفير الآخر واستعدائه وتقسيمنا وربما التشظي وتسليم قيادنا لمافيات أو ميليشيات تطحننا في جرائم اقتتال دموية تصفوية نعرفها جميعا، كما نعرف من يبرر لها ويختلق الذرائع.. فهلا تأنى بعضنا وتمعن في الحق والحقيقة وجنح إليهما؟