المهام الوطنية في ليبيا الجديدة؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

معركة الليبيين الجديدة هي معركة بناء الدولة المدنية. وربما كانت طافية اليوم من بين تحدياتها المشكلة الأمنية، لكن بناء المؤسسات الممثلة للسلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية هي مهمة ذات أولوية لا يُعلى عليها.. فإن ضاع رأس الخيط تاهت الأمور بين مشاغلات العنف والفساد علما أن العنف ليس بالضرورة فعاليات متفجرة آنيا اليوم بل هو أيضا إلى ذلك، ضعف الجيش والشرطة وبدائية العمل الاستخباري وبمقابله انتشار الميليشيات الجاهزة للمعارك ولإشعال الحروب الجزئية والشاملة في اللحظة التي تندلع فيها شرارة العنف الهمجية التي تتولد عن تراكمات وتسيب.. أما الفساد فإنّ نقمته تتفاقم حيثما ظهرت هشاشة بنى مؤسسات الدولة وحيثما كانت الحاجات غير المستجاب لها بالصيغ المعتادة السليمة متفاقمة. وما يخطط لليبيا الجديدة في مثل هذه الظروف قد يقع جانب منه في محاولات نهب الثروات وإضاعة حقوق الناس بمسميات قد تختلف ولكن جوهرها يبقى واحدا، وطبيعي أن تتعدد مصادر من يقف وراء هذا من قوى محلية وأخرى خارجية ..

إن وعي الليبيات والليبيين جد مهم لمجابهة ما ينتظرهم من تحديات.. وينبغي أن يفعِّلوا من أدوارهم في تنظيم أنفسهم بمنظمات المجتمع المدني التي تخطط على المستوى الوطني وأن تفكر بصوت عال من أجل ليبيا الجديدة، ليبيا المؤسسات التي تبني وتخدم وليست ليبيا القوى السلبية وإن كانت محدودة ببضعة آلاف من أولئك الذين يحاربون لأوهام مرضية تُغلَّف بأردية الدجل وإسقاطاته القدسية الدينية زورا وبهتانا وما يأتون به من ممارسات ما أنزل الله بها من سلطان؛ وطبعا تلك القوى التي تسبغ نفسها بالتدين من أية فرقة دينية كانت، إنما تمارس أنشطتها بطريقة  لا تعي مقدار الخراب من جهة ولا مقدار التناقض ومصالح المواطنين وهي جهات تُفتي لنفسها من دون إسناد شرعي من جهة ومن دون خضوع لقوانين تحترم الإنسان ومطالبه وحقوقه وحرياته.. إنهم يرون بل ينصِّبون أنفسهم نوابا(!؟) عن الله في الأرض بطريقة تخالف الشرع ذاته حيث الدين رحمة واعتدال وحيث النص الديني يأمر بتعمير الأرض لا تدميرها وحيث النص الإلهي يأمر بأن نعمل جميعا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون أعمالنا. وخير الأعمال ما كان في بناء حياة الإنسان حيث الحديث النبوي الشريف يقول: " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ..." و "لا رهبنة في الإسلام" و "لا غلو في الدين.." وهكذا مما لا نراه في أفعال بعض المتشددين المتطرفين  ..

 وأيضا يجابه الليبيون قوى تحارب لوهم العودة إلى وراء أو تلك الأخرى التي تنتهز الفرصة وسط زخم الانفلات المصطنع لتغنم مآربها وتغادر في اللحظة التي تختارها.. أما من يحسم الأمر في ليبيا الجديدة فهي أنها ينبغي أن تكون دولة بحكومة وقوانين دستورية تعنى بالمواطنين وحقوقهم في الصحة والتعليم والخدمات والاستقرار والسلم الأهلي. وذلكم لا يكون بمشاغلة الناس بهدم الأضرحة كما تفعل قوى محدودة ولكنها كبيرة بضجيج أفعالها، لا تملك سوى فتاوى تبرير خراب البلاد وهلاك العباد! بل يكون السلام والتقدم بمؤسسات ضابطة للأوضاع بكل المجالات، مؤسسات البناء والتعمير وخدمة الإنسان وحقوقه وحرياته..

من هنا كان على الليبيات والليبيين أن يتنادوا جميعا معا وسويا بلا تفرقة وبلا تمييز وبلا استرجاع لسياسة أحادية أسقطها النضال الدامي بالتضحيات الجسام؛ فليس الوقت وقت خطاب التهم الجاهزة وتقسيم الناس بين ذا وذاك.. لابد من السير معا وسويا  للدفاع عن الوجود الوطني لليبيا وهويتها، بضبط أسس المسيرة عبر مؤسسات نزيهة يجري تطهيرها باستمرار وبمراجعة برامجها وخطوات أدائها والتطهير يكون على أساس الكفاءة والنزاهة وليس على تقسيمات أخرى تخدم خروقات الفساد ومنطقه..

نطالع نحن محبي الشعب الليبي وأصدقائه سجالات بين بعض النخب الثقافية من مبدعات ومبدعين في مجالات الآداب والفنون وبدلا من حوار في قيم الإبداع وصواب الخيار الجديد يشاغل بعضهم الناس في من كان يوما في ظل النظام القديم ومن لم يكن : فهل يحق لأحد تخوين الشعب الليبي  بأكمله وقد خضع يوما كرها للنظام القديم؟! اتركوا هذا الخطاب المرضي، وابحثوا عمن يدير مسيرة البناء ممن يتسم بالنزاهة والكفاءة واحذروا من يخترق المؤسسات من المتسلقين ممن لا نفع فيهم لكن لا تبعدوا أحدا من منظور التخوين وخطاب الاتهامات التي قد تبعد أناسا يمكن أن يساهموا في خدمة المسيرة الجديدة بتخصصهم وبطاقتهم المعرفية في موضع يعرف بدقة قادة العهد الجديد اختياره من دون أن يتسبب في مشكلات..

هذا ما يمكن الإشارة فيه للتطهير الذي يلزمه قانون وآليات تخضع لفلسفة الديموقراطية واحترام التعددية والتنوع لا إلغاء الآخر وليس بإقصائه بمبررات سلبية مفتعلة. أما بناء مؤسسات الدولة فلها قوانين ولها لوائح تنظمها وليس مزاجيات ولا رغبات قوة أو جهة في استبعاد أخرى.. أنتم بمرحلة البناء التي تتطلب كل قواكم بلا استثناء ولعل الاستفادة من تجاريب سبقتكم في المنطقة تتطلب مزيد الحذر من حال ترك الأمور على عواهنها، ففي المجال الأمني يلزم احتكار السلاح من الدولة ومؤسساتها ولا مجال لترك الميليشيات تستمر في الوجود ولا للسلاح يوزع على جهات ستنزلق لحروب خطيرة إذا ما ترك السلاح بأيديها، ولابد من عقد وطني يقر هذا..

إن  الأمن وبناء الجيش الوطني وأجهزة الشرطة والأمن الوطني والاستخبارات وإطلاق البناء الاقتصادي ومشروعاته فورا ومنح كل من الصحة والتعليم موازنتهما ذات الأولوية هي من بدايات منع مشاغلي طاقات المجتمع في حروب هامشية ولكنها دموية بشعة ضد تطلعات الليبيات والليبيين.. وسيكون الاهتمام بتحديث التعليم ومنحه أولوية ومعه النشاط الثقافي المتنوع من القضايا التي تؤكد سير ليبيا بالطريق الصحيح، حيث مراكز البحث العلمي وحيث الأقسام العلمية وحيث العقل العلمي هو من تحتاجهم المصانع والمزارع والمشروعات وخطط التنمية فلتكن الالتفاتة الأهم لصحة العقل وصحوته وحيث الثقافة بشارة القيم الروحية السليمة المستندة لإبداع الليبيات والليبيين وهم الأجدر بهذا..

والبداية المؤملة ستكون من المؤتمر الوطني ومن منظمات المجتمع الوطنية الموحدة؛ أما النتائج فبمقدار وعي الجميع بالقانون وبأهمية احترام مؤسسات الدولة، الأمر الذي يحتاج مراجعات كل القوى المجتمعية وكل الرؤى والأفكار والسياسات ..  فلا يكونن منكم وإن كان قليل من بعضكم أحفاد داحس والغبراء وروح الثأر والانتقام والاحتراب بل لينضم الجميع لتطلعات الأغلبية في ليبيا السلام والتقدم والدولة المدنية وآليات الديموقراطية.. وإن هذه سوى قراءة تنتظر موقفكم أنتم وجهودكم أنتم ورأيكم أنتم الأدرى بشؤونكم ومفردات سيركم  ومباركة جهود النبلاء والعقل الوطني الليبي وسلمتم لحاضر آمن ومستقبل أفضل..