نارهم تاكل حطبهم.. شعلينة لازم!

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

تشتعل الأجواء في التهاب حروب عبثية أخرى في بلادنا. قبل عقد من الآن كانت الحروب بخدمة الطاغية، أما طوال العقد الأخير فهي على أنقاض الطاغية بين ورثته والقوى المرضية التي ولدت في كنفه والدخلاء الجدد من انتهازيين وقوى الفساد التي تستغل فلسفة الطائفية غطاء والإرهاب أداة  ومرتعا لها.

في ظل أجواء الاحتراب الدموي يطلق بعضهم عبارات خطيرة، من مثل "نارهم تاكل حطبهم" يقصد بهذا أطراف الاحتراب وكأنه خارج دائرة التأثر. ولكن المتمعن لهذه العبارة السلبية الخطيرة التي يمكن أن تكون في إطار طرفين فرديين لا يؤثران في محيطهما إذا ما اصطرعا، لا يجد هذا مناسبا  عندما يتعلق الأمر بطرفين يمثلان مجموعتين مؤثرتين في محيطهما أولا بدرجة ومستوى تأثيرهما المباشر وثانيا بطبيعة التأثير الناجم عن تحكمهما في الأوضاع العامة ومن ثم تأثير ذلك وإن بصورة غير مباشرة على الجموع كافة..

بجميع الأحوال الصراعات الهمجية الدموية لا يتأثر بهما طرفا الصراع فهما جهتان تديران معركتهما من خلف موانع وحواجز فيما وقود الحرب عبيد المعركة من الجنود والمنخرطين في هذه الميليشيا أو تلك.. الضحايا في المعركة هم من الصبية والشبيبة المجندين في خدمة هذا الطرف أو ذاك وعوائلهم فضلا عن سكنة الضواحي والقرى والقصبات والمناطق التي تشكل ميادين المعارك المصطنعة بتخطيط مقصود من أطراف الصراع...

ومن يقول "نارهم تاكل حطبهم" إذا كان بمأمن في لحظة فإنه لن يكون كذلك في اللحظة التالية إذ طبيعة النيران أنها تنتشر في الهشيم أسرع من الريح. إن من يقف متفرجا قائلا عبارته المعهودة "شعلينة لازم" بمعنى ما دخلنا في معركة بين طرفين ليس لنا معهما لا ناقة ولا جمل إنما  يضيف لنيرانهم وقودا ممثلا بمن لا يكترث لخسارته في هذه المعارك وهو زميله في مؤسسة أو جيرانه أو صديقه أو قريبه أو أي شخص  لا يملك صلة مباشرة معه ولكنه مواطنه  قرينه في الوجود في هذا البلد.. والأخطر أن ذاك الذي صار رقما في  مطحنة الآلة الجهنمية ليس سوى الأول في الترتيب ضحية لمعركة تجار الدم والتالي من الأرقام سيكون هو السلبي في موقفه!

إن الاعتقاد بأنّ شخصا أو جماعة  منفصم عما يجري حوله  هو شعور وهمي وأمر مؤقت  فاللهيب لن ينطفئ ومن يغذيه من مشعلي الحرائق لا يمكنهم البقاء إلا بمزيد من تلك الحرائق... إن الحريق لدى جاري لا يمكن إلا أن ينتقل إليّ إن لم أساعد في إطفائه.. والتخلي عن مسؤوليتي أمر أسوأ من سلبي بل أخطر من مساهمة هامشية في إدامة الحريق.. إنه يجسد إعداد الأرض للحريق بنشر الهشيم وكل ما يساعد على مزيد اشتعالات..

إن دفن الرؤوس في الرمال لا يعني أن الحياة توقفت وأن الخطر الداهم ابتعد عنا.. كما أن مسؤولياتنا في وجودنا الجمعي هي ذاتها بوجودنا الفردي. وعليه فإن عدم اتخاذ موقف محدد وحازم صارم يعني تلك السلبية التي تتبدى بشعاري "نارهم تاكل حطبهم" و "شعليه لازم أو ما دخلي أنا" فنارهم ستأكل حطبهم ولكن حطبهم ليس جاري وجار جاري وحدهما بل وأنا والجميع معهم أيضا..

هذا ما يخص السلبيين ولكن ماذا يخص الصبية والفتيان ممن يتخندق خلف زعماء مشعلي الحرائق؟؟!

إن الخطورة تكمن في كون هذه الكوكبة  تخضع للعطالة والتبطل فلا دراسة ولا عمل  ولا اشتغال بما يبني أو يمارس أمرا إيجابيا، وهذه الكوكبة تشيع فيها الأمية والجهل والتخلف.. وهذه الكوكبة منكوبة بالفقر وهي ذاتها الكوكبة التي تمتلك الحيوية والنشاط وتمتلئ بالأحلام في عيش رغيد وفي التمتع بالاحترام والكرامة..  بلى إن الخطورة تكمن في استعداد هذه الكوكبة عبر كل ضغوطات واقعها للوقوع في أحابيل الإقناع ببطولات وهمية مرضية وفي تحقيق الشخصية بمنطق القوة والعنف وبالسيطرة على الواقع بالسلاح وإن اقتضى فبالدم.. كما يذكي مشعلو الحرائق الأمر بالقول إن لم تلتهم الآخر التهمك أو إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب!

إن هذه الكوكبة هي من المساكين الأبرياء الذين يشكلون أول قرابين المجرمين في حروبهم.. إنهم طعام الحريق المستعر بنيران الحقد الأعمى والروح الطائفي المقيت الذي يختلق الخنادق تبريرا لمعركته..

أما المساكين المستغفلين والمستلبين المصادرين فهم  الضحايا التي تتخندق خلف متاريس يبنونها مقابر لهم ولأخوتهم.. إن اللعبة أخطر من مصائب الإقناع الأيديولوجي والعقائدي الديني المذهبي إنها لعبة الموت التي يديرها مشعلو الحرائق بحنكة شرير محترف...

في العراق اليوم ومنذ تسع سنين عجاف يجري تحشيد الصبية والفتية والتغرير بهم ووضعهم بعضهم ضد بعض يتخندقون خلف متاريس الطائفية المتوهمة فيما يمكن بهم معا وسويا أن نبني جنان الأرض ..

بلدان مجاورة في الخليج العربي تعلو ناطحات السحاب فيها وتبنى المدن وأروع الخدمات بثروات البلاد ونحن في العراق نملك ثروات آخر قطرة نفط عالميا فيما ليس بيد أي من المتخندقين سوى كسرة خبز وقوت يوم يكسبه بدمه بروحه بوجوده تاركا لأهله ماساة رحيله بعد أن ربوه وكبروه ليضع نفسه بملكية ((مرجع)) يدعي أنه وكيل الله على الأرض وهذا يقدم نفسه وريث الأولياء وذاك وريث الخلفاء وكلا الطرفين دعيين لا يفقهان بأمر الدين سوى الدجل واللعب بعقول غسلوها وأعدوها لمحارقهم!

المطلوب يكمن في شرارة الوعي وليس في محاضرات فلسفية عن التنوير والمدنية والديموقراطية .. المطلوب الوصول إلى هذه الكوكبة من الفتية والشبيبة وتوعيتهم إلى أنهم يستحقون لقمة كريمة وحياة مرفهة مثلهم مثل كل شبيبة الأرض.. المطلوب تحرير هؤلاء من استعباد التخويف من جهنم والنار وهم وقودها في الدنيا والآخرة إذا ما واصلوا الانجرار خلف مشعلي الحرائق.. المطلوب تحريرهم من الحاجة ومن حال الفقر والتخلف.. المطلوب علاقة مباشرة تنير العقل وتبعده عن ضغوط متصلة مستمرة تغسله وتعبئه بالجريمة وممارسات السوء..

المطلوب ألا نتركهم لنار تأكلهم فتلك النار لن تأكلهم وحدهم بل ستأكل الأخضر بسعر اليابس! المطلوب أن نفعل شيئا لمنع تخندقهم وراء مشعلي الحرائق.. المطلوب أن نتحدث في الفضائيات وفي الإذاعات ولربما في الصحف المقروءة لكن متنوع الإنتاج الإعلامي أفضل لأنه يصل مباشرة ويتجاوز الأمية التي لا تسمح أن يقرأ أي منهم شيئا..

إنهم يسرقونهم من الأسواق والشوارع والمصليات جوامع وحسينيات ويستغلونهم أبشع استغلال.. لا تسمحوا بهذا الاستغلال يستمر ولا تقولوا نارهم تاكل حطبهم هؤلاء أبناؤنا وهم وجودنا ومستقبلنا..

وعسانا نتعظ ونتمعن في الفلسفة ومقولاتها الساذجة ولكنها الإجرامية الخطيرة التي تدير مسيرتنا خطأ بل جريمة الأمر الذي يجب أن نعالجه جوهريا.. ومعا وسويا نصل بعضنا ببعض ونتفاهم ونوقف استغلال مشعلي الحرائق والحروب بهذه المقولات التي تشاع في تربتها حيث  غسيل المخ وحشوه بالزائف المرضي...

نعول في الحل على شبيبتنا الواعية النابهة كيما تصل إلى الآخر بطريقة مناسبة تحدثوا عن هذه المقولات وعن البديل فذلك مما لا يمكن لأعداء البشرية أن يصادروكم فيه أو يمنعونكم من أدائه وتفعيله ومن ثم تحرير زميلاتكم وزملائكم منه...