الشخصية الكوردية العامة بين المتوقع والمؤمَّل

الأستاذ فاضل ميراني نموذجا

 

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

يشهد المجتمع الإنساني بمختلف تقسيماته صراعات متنوعة الأبعاد. يجري ذلك في إطار تنظيمات  بمستويات ومحاور تصنيف عديدة. وهي في النهاية تعبير عن التركيبة المجتمعية لكل شعب؛ ولما يحيط به من ظروف. هنا في العراق ساد تاريخه الحديث حال من الخضوع لأنظمة سياسية استبدادية أشاعت ثقافة عنصرية شوفينية، طالما استندت في  ممارساتها العدوانية على تشويه الآخر والحط من منزلته والتعرض له في وجوده وقيمه وصولا إلى محاولة محو شخصيته وهويته...

ومن بين أبرز المكونات العراقية، تعرض الكورد لهجمات متصلة مستمرة؛ منها جرائم الإبادة الدموية ومنها جرائم الإلغاء والمحو الثقافي. ولطالما سعت الجهات المتحكمة بالسلطة (المركزية) لإشاعة الأمية والجهل إمعانا في مآربها لمصادرة الآخر. وقد عمدت في إطار إيغالها بجرائمها المركبة لمحاصرة القادة والشخصيات العامة وممارسة التسقيط السياسي في حملات تضليل مدروسة.

وأمام مهمة التصدي للهجمات العدوانية على الشعب الكوردي، والدفاع عن وجوده وهويته وتطلعاته الإنسانية ومفرداتها في ثقافة ونتاج معرفي للعقل الجمعي، كان على الشخصية الكوردية العامة أن تجابه طبيعة عيش وحياة قاسية محملة بالتجاريب العنفية الكارثية وأوصابها وجراحاتها...

وفي معترك تلك الصراعات كان أبرز مصادر التحدي في الحياة القومية الكوردية، قد تجسد في ولادة الحزب الديموقراطي الكوردستاني الذي مثَّل عنفوان التعبير عن الغضب المشتعل في الضمير القومي والرد الموضوعي على جرائم السحق الهمجية تجاه الكورد. فشكَّل هذا الحزب لا  مجرد وجود تنظيمي حزبي كما روتين ما يراه جيل اليوم في ولادة بعض الأحزاب بل مدرسة نوعية شاملة متنوعة المهام. وهذا هو ما جعل من مدرسة البارتي قيمة نوعية لقيادة حركة التحرر القومي الكوردية من جهة وليكون الوجود السامي في الوسط الشعبي الكوردي.

في هذا الإطار وبهذه الأجواء وُلدت الشخصية الكوردية العامة. حيث تحملت أعباء مركبة بين السياسية والثقافية والمجتمعية التعبوية والعسكرية في ميادين المعارك البطولية للانعتاق من نير الظلم. وكيما تكون الصورة بيِّنة اخترتُ تسليط الضوء على الشخصية  الكوردية العامة كيما نشهد بالملموس الدور الإنساني الشامل المتوقع والمؤمل فيها ومنها، منطلقا في معالجتي من مفاعلة بين الخاص والعام  باختيار نموذج لهذه القراءة ممثلا بشخصية الأستاذ فاضل ميراني.

ولمن يريد الغوص في هذا الاختيار سيجد أمامه قائمة كبيرة من المفكرين والكتّاب والأدباء ممن أنجبهم الشعب الكوردي وسيجد في تلك الكوكبة، كل ما يجسد العقل الجمعي معرفيا ثقافيا.. ولكننا سندخل هذا الميدان كما أسلفنا للتو، عير شخصية سياسية عركتها الحياة مذ أول ولادتها ونشأتها حتى باتت الشخصية القيادية البارزة التي هي عليها اليوم. إننا نختار شخصية الأستاذ فاضل ميراني لتعدد مستويات خطابه وغناه بما هو أبعد من السياسي المحض؛ وبناء عليه فإنّ اختياره هنا يأتي لإضاءة  تأمل أن تُقرأ من جوانبها الموضوعية قبل الذاتية ومن الوجود العام لا المشخصن.

 

ففي كنف النواحي البعيدة المهملة بكل المعايير تولد شخصيتنا المختارة ونحن نعرف معنى قرابة الدم في العوائل التي تحيا على الحدود النائية تلك التي قسّمت الدول والشعوب بالإشارة إلى وحدة الوجود القومي. فعلى حدود دولتي العراق وسوريا  قسموا العوائل بين الجنسيتين.. وطبعا قسّموا الشعب الكوردي بين أجزاء كوردستان الموزعة بين الدولتين وغيرهما. أما الحال الإنساني فمعروفة تفاصيل الإهمال وأعمال القمع.. في هذا الوسط وُلِدت وعاشت شخصية السيد فاضل ميراني.

وكغيره من مناضلي حركة التحرر الكوردية جابه النوازل في مراحل حياته ملتحقا بالثورة الكوردية حتى بات يقود أحد جبهاتها في مرحلة من مراحلها. ولكنه دأب على تعزيز معارفه السياسية عبر الدرس والتحصيل في مسيرة قراءة أغنته معرفيا ثقافيا ليثري منطق اشتغاله باستمرار بأسس تشجيع لغة الحوار وخطاب التسامح والتعايش السلمي وبناء الإنسان وظروف عيشه السليمة.. ويبدو لي أن من البديهة الإشارة إلى أنّ أمر التميز والتفرد لا يأتي مع الجميع بل تتسم به الشخصية العصامية التي ترعى نموها وتنتبه عليه بجدية مخصوصة..

إنّ سمة الجمع بين ما فُرِض قسرا من ركوب النضال المسلح وبين المتطلع إليه من ممارسات تتطلب خطاب السلم والحياة الإنسانية المستقرة، قد أكسبت الشخصية العامة [الكوردية هنا] حالا من الانضباط العالي وقدرات التحمل والتصدي لأزمنة الكوارث والحروب من جهة وقدرات خلق شروط العيش الإنسانية الأغنى بقيمها المدنية وسمات الاستقرار..

ومن هنا حظي السيد ميراني بمكانه ومكانته حيث عوّل على تلك القدرات المركبة وذياك المعدن النضالي الأصيل الذي أهَّله لشغل منصبه القيادي سكرتيرا للديموقراطي الكوردستاني الحزب الأعرق كورديا والأبعد قامة وسط المجتمع الكوردستاني بما يملكه من جذور في الأرض وفي الشخصية الكوردستانية. هنا نحن أمام شخصية مهمة ومتفردة في المكانة والمسؤولية..

وفي ضوء ذلك بات طبيعا وواجبا أنْ يُخضِعها المجتمع لمطالبه العامة والتفصيلية من الشخصية العامة والقيادية تحديدا. فالمجتمع بحاجة لشخصية تستجيب لطبيعته وتركيبته وجذوره بما يعني فهم هويته وسمات بنيته الوجودية من جهة مثلما يؤمل في الشخصية القيادية أن تجيب مطالب التغيير والانتقال لعصرنة الحياة وتحديث آلياتها.. وبالمناسبة فإن خيار حزب تحرري لشخصية في موقع قيادي واحتلال تلك الشخصية مكانتها في قلوب جماهير واسعة لا يأتي من تعصب تلك الشخصية ولا من مجاملة الناس واللعب على مطالبهم بالتقرب إليهم من مدخلات ضيقة بل يأتي من صدقية الشخصية وقربها الفعلي من مطالب الناس ودفعها الجموع باتجاه الوعي الأنضج حيث التحدي الحقيقي هنا وهو التحدي الذي يتطلب جرأة وإقداما وسمات مخصوصة..

وتلكم من سمات شخصيتنا المختارة. من جهة أخرى يمكن للراصد المتأني أن يلمس حيوية شخصية السيد ميراني حتى يومنا، كما دأب على تلك الحيوية والحركة مذ أن تم ضمّه للجنة المركزية شابا يافعا لكنه الذي أولع كذلك بالقراءة وباكتناز مفردات الخطابين الثقافي والحزبي؛ ليس عبر الدورات الحزبية المهمة حسب بل وعبر جهوده الشخصية المثابرة التي عُرِف بها..

وهذا ما يعكس لنا حال استخدام السيد ميراني للحِكَم والأمثال وأبيات الشعر والمآثر والاستدلال بالتجاريب في حواراته. وهو لا يقف عند ترداد ذلك بقدر ما يطوّعه لبنية خطاب مخصوص يتسم بمصداقية وتوازن مع ما يؤمن به من جهة وبدفع الآخر باتجاه مبادلته الدليل بالدليل ليصل به إلى القناعة بما يريد، من دون أن يكون هذا سباقا سلبيا لفرض رأي أو لوي عنق الحقيقة كما يلاحظ عند بعض ساسة زمننا..

إن المتابع لحوارات السيد فاضل ميراني سيجده يستند إلى الوقائع والحقائق إيمانا منه أن ذلك أسلم الطرق إلى النجاح وإلى التفاهم بين جميع الأطراف. وهو عندما يعرض لأخطاء مرتكبة لا يشخصنها بل يبقيها على وضعها في ملف القضية العامة ما يجعله في موضع الحوار الهادئ غير المشحون وغير الحاد ولا الراديكالي..

ومن متابعة بعض ما تحدث به في الآونة الأخيرة إلى فضائيات عديدة نجد أنه نوقش معه أكثر القضايا تعقيدا وإثارة للجدل  ومنها ما نجد أصواتا عديدة تهاجم بوساطتها الكورد والقيادة الكوردية وربما كانت هناك تهجمات واستعداء وتشنجات في بعض ما يورد.. لكن السيد ميراني لا يرد انعكاسيا ولا بصيغة رد الفعل؛ إنما يهمل عن قصد أصوات التجريح والعداء ويتجه إلى جوهر القضية محددا ملامحها مفككا مفرداتها مقدما رؤيته بوصفه شخصية قيادية معبرة عن حزب ومن ثم شعب.

هذه اللغة الهادئة الموضوعية ربما يفتقدها عديد من ممثلي الطبقة السياسية في العراق الجديد. وهذه الخصلة لا تأتي من فراغ إنما هي توكيد لما أشرنا إليه من عملية غنى سياسي فكري نجم عن دراسة التجاريب وعن مدرسة الكوادر وخبرات العيش وعن معارك التحرر التي خاضها إلى جانب رفاقه..

وما يسند نضج هذه الشخصية القيادية هو منظوره إلى طبيعة العمل السياسي كونه عملا لا ينحصر بحزبية ضيقة وإنما يتسع لآفاق مجتمعية متفتحة  تدفع للتعرف إليه بوصفه شخصية رجل دولة من الطراز الأول. إنه لا يعمد لإرسال التصريحات الإعلامية المنفعلة أو النارية المثيرة بقدر ما يقدم رسالته بمواقف مدروسة بحكمة وتؤدة.

فعن دولة المؤسسات نجده يشير بصراحة ووضوح إلى موضع الخلل وإلى ضعف حالها في الحكومة الاتحادية وأن تعميدها وتقويتها لا يأتي من التذرع بالدستور عبر لوي عنقه وتأويله ولكن يأتي من التخلي أولا عن طريقة تفكير قارعتها القوى الوطنية معا وهي بحاجة للانتهاء منها والتصدي للسلبيات الموروثة  والتخلي عن التحسس القائم على منطق مازال أسير فكر ماضوي ..

وسنجد السيد ميراني يتحدث عن ضرورة القبول بالآخر منطلقا للشراكة والعدل والمساواة في إطار الوجود المؤسسي، وفي ضوء ذلك نجده يحيل ما يعاد تكراره اليوم من اتهام الكورد بالغلو في سقف المطالب إلى عدم فهم الحقوق وربما إلى عدم التعاطي معها بقناعة ومصداقية..

إننا لا نراه يتحدث عن مطلقات ولا إحالته كل الخطأ على الآخر بتوكيده القول دائما: إننا جميعا نتحمل المسؤولية ولكن نسبة المسؤولية تتحدد في ضوء الواقع وليس في ضوء الأوهام والتقييمات غير الموضوعية من تلك التي تخضع للتجني وعلى عدم الاعتراف بالآخر.

وفي المشاكل المستعصية اليوم لا يوصي بشأنها ببديل سوى الحوار القائم على تبادل الاعتراف بالآخر ووجوده وهويته ومطالبه أساسا للانطلاق إلى عالم جديد.. مؤكدا حرصه على عراق فديرالي يتقدم إلى أمام حيث مستقبل ديموقراطي يعمّد حرية الاختيار ويتعمق به من دون اشتراطات مسبقة قد تأتي على حساب حق شعب أو خياره..

  ولكن من جملة هذه القراءة التي أرادت الإشارة إلى العام من خلال الخاص يمكن أن يقرأ المتابع سمات لشخصية الأستاذ فاضل ميراني ربما أفاد هنا وضعها بمحددات وسمات مباشرة كالتي أوردناها، بما ينظر إلى المتوقع من الشخصية العامة مثلما يأمل فيها سمات تضعها في مكانها المناسب مجتمعيا بما يتقدم بمسيرة  تتطلع للبناء الأفضل ولخطوات التقدم المكينة الأكثر ركوزا..

إن الثقة بالتحولات الإيجابية كوردستانيا وفي التحالفات الوطنية الديموقراطية وفي تسيير شؤون الدولة الاتحادية يمكنها أن تستند إذن إلى قدرات تستطيع الوقوف بوجه التحديات لرفضها العمل بآلية رد الفعل والمغالاة وابتعادها عن التحدث بالمطلقات المسلم بها. مع اعتماد التشجيع على النقد الموضوعي البناء من جهة والترحيب بهذا النقد في إطار التفاعل المتحضر بعيدا عن ولوج المهاترات والاتهامات التي تخذل الخطاب السليم.

 

إنّ أوضاع البلاد تتطلب فعليا هذه الشخصية التي تعد على المستوى الوطني العراقي واحدة من قلة وسط طبقة سياسية طارئة لم تعمّدها تجربة وربما لم تقرأ كتابا. أما عراقيا شعبيا فيمكن عدّ السيد ميراني أحد الشخصيات الوطنية الديموقراطية المهمة التي يتوقع فيها عبر جرأتها وشجاعتها أن تكون دافعا محركا ومبادرا لتفعيل برامج ومشروعات توحيد التيار الديموقراطي واستعادته دوره الريادي وطنيا.. فيما كوردستانيا يمثل علامة مضيئة وسط التنوير السائد وحركة البناء والتقدم التي تجري بقيادة تتسم بالحكمة والجرأة والموضوعية  وتستمد من تاريخ حركة التحرر القومي الكوردية ورموزها البطولية كما البارزاني الخالد وجودها وعطائها.. وهي المؤمل فيها حركة الإصلاح بالاستناد إلى هدف بناء مؤسسات الدولة المدنية وأسسها الديموقراطية التي تستجيب لتطلعات شعب كوردستان وترتقي لمستوى تضحياته.

 

 

بقي أن أشير إلى أننا نكرم الأديب والفنان وعموم المبدعين، لكننا قد نغفل عن أولئك الذين نذروا أنفسهم قرابين للشعب والحركة التحررية وهم يسستحقون منا وقفات التكريم والاعتزاز والتقدير.. ولربما كنتُ مبادرا في اقتراح تكريم الشخصيات العامة المبدعة؛ هنا أجد أن خير تكريم يكمن في نحبة الناس واحترامهم وفي كون دائرة الضوء هي التي تضع تلك الشخصية في سجل التاريخ.