المصالحة الوطنية
لا تُوقِفُ مُحاكمَةَ المُجرِمين والقصاص من جرائِمِهِم

القسم الثاني: حوار مع بعض تصورات الآخر

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  12 \  30

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

Published by ELAPH / Asdaa’

 

إنَّ فكرة المصالحة وشموليتها تستدعي التعامل مع [طروحات] الآخر ومعالجة تصوراته والتفاعل معه ولنأتِ إلى بعض تلك المعالجات.. وأوّل تلك الطروحات التي تقول صراحة [[ليس هناك ضحية ولا جلاد]] ويمهّد صاحب الفكرة لفكرته بكوننا [[جميعا مسؤولين عمّا جرى للعراق من نكبات.. فجميع القوى العراقية السياسية والاجتماعية اشتركت بوعي وبغير وعي في مسلسل انحدار الوطن نحو الكارثة]] ..

فهل من الصحيح المساواة بين الضحية والجلاد؟ وهل من الصائب القول كلنا جلادون وكلنا ضحايا؟! إذا قبلنا أنْ نقول بأنَّنا كلنا جلادون على أساس أنَّنا نجلد أنفسنا ليل نهار!! ونمارس دور الضحية الخطية؟؟ فكيف نقبل القول بأننا كلنا ضحايا؟ هل كان صدام ونظامه الدموي ضحية؟! وإذا كان كذلك فهو ضحية لـِمَنْ أيكون الطاغية ضحية شعبهِ!؟!!

ومن عجب الدهر أنْ نماثل بين التجاريب الإنسانية حتى تصبح الأرقام والمعادلات الرياضية الجافة الخالية من الإحساس والضمير تعبيرا عن الإنسان وتجاريبه!! وتصبح أمثلة البلدان الاشتراكية السابقة بمثل طاغية العصر وحكمه وجرائمه واغتياله لحيوات مئات ألوف من أبناء الشعب واستخدام الأسلحة المحرمة ضد الشعب فليُعرّفنا أحدهم لجرائم مثيلة في أيّ نظام من تلك المُشار إليها إذا كانت استخدمت أشكال القمع الصدامية؟ وليأتِ بأمثلة المشابهة الرياضية حتى؟!! ولكن المماثلة مقصود منها التحول السلمي بفقرة واحدة تتمثل بالعفو عن جرائم صدام وطغيانه محاولا تشبيه العفو هذا بمثل مشاركة الأحزاب الشيوعية وقيادييها وفوزهم في انتخابات بلدانهم ونُظُمها الجديدة...

و يُراد لنا عبر عصور التاريخ البشري التنازل عن دم الضحايا وشرفهم وكراماتهم!! وفي عراق اليوم والغد يُراد لنا التنازل عن عشرات ألوف الآشوريين الكلدان الذين ذُبِحوا واغتالتهم فاشية العصور والدهور! ويُراد لنا التنازل عن دماء عشرات ألوف الشيعة الذين اغتالتهم عنصرية الزمن الغابر والأغبر!! ويريدوننا أنْ نتنازل عن عشرات ألوف الكرد الذين اغتالتهم يد الغدر والعدوان الفاشية العنصرية!! ويريدوننا أنْ نتنازل عن كرامة وعن شرف كلّ عراقية وعراقي اغتصب منها ومنه حقهما في الحياة الحرة الكريمة الشريفة!!!

لسنا هنا مع قيم الانتقام والثأر فهي من مخلـّفات مجتمع الغاب والحياة والبقاء للأقوى سلطةَ َ وسطوةَ َ.. ولسنا مع وحشية القصاص وإنصاف المظلوم بإعطائه فرصة فوضوية للاقتصاص من غريمه.. لأنَّ العدل والاقتصاص القصد منه إعادة الحق لصاحبه. ولا تعيد الوحشية والهمجية حقا لأحد؛ ولكنّها تثبِّت قوانين الظالم المعتدي وتديم الفوضوية والهمجية وقيمهما التي تخدم الظلم والظالم.

 لذا كان علينا أنْ نتذكر لوقف الجريمة وضع ما يحمي الناس المسالمين من همجية العدوانيين.. وإذا ما أقرَّ الجميع بهذا فعلينا أنْ نقرَّ بمحاسبة المسئ المخطئ. ولكلّ جريمة عقاب بحسب حجمها ونوعها.. والعدالة الإنسانية هي التي تقتص للفرد وللمجتمع (الحق الفردي الخاص والحق العام) من المعتدي.. وها نحن حتى في نموذج مجرمِ ِ أدانـَهُ شعب العراق بأكمله كالطاغية الدموي صدام, نحتكم للقضاء العراقي العادل الذي يحمل خبرة عمر الحضارة البشرية منذ فجر القوانين والعدالة...

وليس أكثر من هذا تسامحا وإنصافا إلا إذا كانوا يريدوننا بعد كلّ تلك الجرائم عبر العصور أنْ نسكت من جديد ومرة أخرى لكي تتكرر مآسينا ومآسي الشعوب!! إنَّ إعفاء مجرم من جريرة جرائمه سابقةُ ُ لا يمكن القبول بها لسبب وجيه واحد هو كونها لاتؤسس للعدالة الحقة. ولن يبدأ عهد السلام الاجتماعي لأنَّ المكتوي بنار الجريمة مازال حيا هو أو أبناؤه أو أحفاده.. فإذا أهملت العدالة الاقتصاص من المجرم, فإنَّنا نؤسِّس لكوارث الاقتصاص الفردي, وعراقيا الاقتصاص الجمعي عندما تنشب الحرب بين العشائر والطوائف والأديان والقوميات وما إليها من مجموعات وقعت ضحية الظلم.

 ولن يسطيع حكيم التسامح وعفا الله عمّا سلف أنْ يوقف حمامات الدم واقتتال الانتقام والثأر.. ولكنّنا يمكن أنْ نبدأ عهد الحرية بترسيخ الأمن والسلم والعدالة وإعادة حقوق كلّ الناس بقوانين تحكمنا بالتوافق والتراضي.. وعلى المجرم التائب أنْ يخضع لمشيئة جريمته ونتائجها... بمعنى القبول بمبدأ الاعتذار عن المشاركة في الجريمة ولو بشكل غير مباشر وبغير وعي أو قصد أو بالإكراه وتحت سيف الجلاد.. ومن ثمَّ  وجوب ترك تلك التصورات التي دفعت للمشاركة بالجريمة وعبّرت عنها, والتزام مبادئ الحياة الديموقراطية الجديدة..

هذا من جهة الجريمة والمجرم ... ومن جهة المشاركة في بناء العهد الجديد.. نجد طروحات بعضهم تقوم على التعويض عن ظلم الماضي بوضع الحكم بيد جهة مظلومة وحيدة واحدة!! وبتخوين جماعي لكل أقسام شعبنا الأخرى. باتهام السنّة جميعا في ظلم الشيعة جميعا ووضع النخبة (السنية) في سلة واحدة عملت على العزل الطائفي ضد الشيعة في موروثها عن الحكم العثماني!

ولسنا ندري ولا نعرف للنخب السنيّة مرجعية دينية واحدة أو مرجعية سياسية واحدة أو مرجعية اجتماعية واحدة. ومن ثمَّ لا ندري كيف يتمّ اتهام الضحية السنيّة التي استشهدت دفاعا عن الحق ومبادئ الديموقراطية ومن ذلك دفاعا عن حق كل عراقي في الوجود والحياة الحرة ومنهم الشيعة وسيكون من الخطل القول عن هذا الشهيد في سبيل إنصاف (الشيعي) بأنَّه من النخب السنيّة التي حرمت الشيعة حقوقهم!

ولا ندري كيف سيبرد دم الضحايا من المسلمين الذين دافعوا عن المسيحيين وحقوقهم إذا ما اعتقدنا بحق الأخير في الانتقام من (كلّ) المسلمين و(من أغلبيتهم) العادلة المنصِفة التي ظـُـلِمت حالها حال المسيحي وغيره من الأديان الأخرى؟ ولكن مثل هكذا طروحات لا تنمّ عن إنصاف أو حرص على شيعي أو مسيحي أو أيزيدي أو صابئي بقدر ما تنمّ عن محاولة بذر الفرقة والشقاق التي يفيد منها شرير الأمس وينفذ بين أطراف مجتمعنا ومكوّناته..

إذن ليس من الصحيح التخوين الجماعي [وجعله مبدأ ننطلق منه], فتخوين لكلّ السنة في اتهامهم بالوقوف خلف جرائم نظام الطاغية! وتخوين لكل الشيعة في اتهامهم بالارتباط بإيران وخيانة الوطن! وتخوين لكل الكرد في اتهامهم بالروح الانفصالي وتشجيع روح العنف والارتباط بالأجنبي! وتخوين لكل العلمانيين باتهامهم بفكرة الإلحاد جميعا [وهي ليست تهمة] أو بجلبهم أفكارا مستوردة تنافي واقعنا العراقي [والأفكار ليس فيها المستورد ولا المصدَّر بل فيها المشترك الإنساني الذي يقبل التبادل بحسب الخصوصية والهوية وليس إلغاؤها]... فإذا كنا نرفض روح التظلم والخطية وإلقاء الخطأ على الآخر بكامله فإننا نرفض بالقدر نفسه أيضا أنْ يتستر وراء هذا التسامح وروح السلم المجرم والجلاد والطاغية...

وفي موضع آخر من قراءة الوضع العراقي الجديد دعوة للحوار مع ما يسمونه المقاومة [المقصود قوى العنف والتخريب] ويتم بعد ذلك مباشرة خلط الأوراق بوضع أنصار النظام السابق مع أطراف دينية وعشائرية سنية في سلة واحدة وكأنَّ الزمن الجديد هو زمن الشيعة ضد السنّة ومن الطبيعي أنْ يكون ضد المسيحيين والصابئة والأيزيديين  وعلى الأخيرين جميعا الوقوف في طابور الحوار انتظارا لعطايا ومنح تخص حقوقا يمكن أنْ يحصلوا عليها على حسب حالة المفتي والافتاء الطائفي الشيعي لا غير!!!

ونحن نعرف أنَّ الشيعة عامة ليسوا مع مثل هكذا معالجة طائفية ضيقة ونعرف أنّ الذي اكتوى بنار الظلم لا يمكنه ولا يريد مطلقا أن يكون ظالما.. ولكنه منطق أعوج يعبر عن انتهازية العصور المريضة التي تريد خلق الثغرات المناسبة لكي تخترق أي وضع قائم في البلاد من أجل ظلمها واستهتارها بحقوق العباد ..

أما بخصوص اجتثاث البعث فتلك التصورات أو الطروحات  تصوره منقصة للديموقراطية وبداية لعهد عنف ودم وهذا يندرج في إطار التهديد الصريح لا غير... لأنَّ الصحيح أنْ يتمَّ التوافق على اجتثاث كل أفكار التخريب الفاشية والعنصرية وغيرها ووضع بديلها الديموقراطي السلمي في الحياة العامة.. وألا يوجد ما يهدِّد تلك الحياة الجديدة..

 وليس المقصود من اجتثاث أفكار البعث قتل البعثيين أو إعدامهم وتشريدهم وتركهم على قارعة الطريق كما يجري تصوير الأمر؛ ولكن ذلك لا يعني بالمرة ترك ما سرقوه من ثروات الشعب وترك فرص القوة بأيديهم ومن ثمَّ ترك مساحات التأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية تحت إمرة قواهم التخريبية..

بمعنى أنَّ الاجتثاث سيكون على وفق قوانين عادلة تنصف الحقوق البشرية وتمنع كل ما يمكن أنْ يكون أداة بيد شرير لممارسة عدوانيته في الحياة الجديدة.. وتلك من سنن العهد الجديد .... أي حماية الناس ومصالحهم.. ومن تلك الحماية سياسة اجتثاث البعث بوصفه مظهر العنصرية والفاشية والتخريب وجوهره في بلادنا..

وبعد, فإنَّ ترك قوى الماضي تعمل بحرية في ظل العهد الجديد أمر يفسح الطريق أمام تخريب تجربة الديموقراطية والعبث بها من جهة وينقض سلمية التوجهات ويترك الأغلبية التي هُضِمت حقوقها مشدوهة أمام مساواة الظالم والمظلوم الجلاد والضحية وبالتالي وضع العهد الجديد في مواجهة دموية جديدة  واقتتال أو دورة تدميرية أخرى لايربح فيها بالتأكيد إلا قوى الاستغلال  المدحورة...

إنَّنا مع مصالحة شاملة كاملة ولكننا لسنا مع تسطيح الأمور إلى الحدِّ الذي نترك لخصومنا الطغاة والمخربين المعادين للديموقراطية وللذين يرفضون الاعتذار والتخلي عن منهج العنف والدموية, نترك لكلّ هؤلاء العمل بحرية فكأننا ننام ونحن نضع أفعى الكوبرا في فراشنا... وكم سيكون من السذاجة الاعتقاد بتغير المجرم بين ليلة وضحاها ناسين أو متناسين القول المأثور:"قالوا للحرامي احلف قال جاك الفرج ..."

ولعلَّ للمجرمين أكثر من فرصة لمبدأ التقيّة ويمكنهم حتى أكثر من إعلان تخليهم عن ماضيهم ولكن أيّ سذاجة ستقبل التعاطي مع مجرم جرّبت القوى الوطنية معه كل التسامحات والسياسات السلمية التي ينعتها بعضهم بالخيانية في وقت يدعوننا اليوم إلى ما هو أسوأ من الصفح [ولسنا بحاجة للتذكير بصفح السبعينات والتحالف من أجل تجنيب شعبنا دورة دموية أخرى ولكن إلى ماذا انتهت تلك المسامحة؟ فهل يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟]!!

للعقل العراقي وللذاكرة العراقية حساسيتها تجاه الوقائع والتجاريب وله حكمه التاريخي والمصالحة هي مبدأ الحياة الجديدة والتسامح جوهرها ولكنَّ ذلك بين القوى الوطنية ولنبدأ مسيرتنا بأوسع توافق ولكن أمتنه وأقواه وليس أوهاه وأضعفه.. وليضع الحوار الوطني الشامل أسس قوانين الغد الجديد.. بكل انفتاحاته والحريات الواسعة الضرورية مع كل المحاذير التي تفرضها تلك الضرورة وتقتضيها لضبط مسارنا الجديد وحمايته... 

 

 

1