استراتيجيات التخطيط والتنمية في كوردستان، رؤية اقتصا سياسية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

تتنامى خطط تنموية كبيرة في كوردستان. وتتفاعل تلك الخطط مع نظريات اقتصاسياسية متنوعة مختلفة؛ مثلما تتفاعل مع الخطط التي ترتبط بها بنيويا في الإطار الفديرالي وفي أجواء الانفتاح على سوق دول الجوار واستثماراته. ومن الطبيعي أن توجد مبادئ ومحددات تتخذها الإرادة السياسية للسلطتين التشريعية والتنفيذية وتوظفها في تبني مشروعات التنمية والبناء.

وكان من آخر ما  وُجِد من إطار سياسي مخصوص قد تمثل في ورقة الإصلاح  وما تضمنته من محاور. فضلا عن خطط الكابينة الأخيرة وتصوراتها  لرسم مسيرة بنيوية شاملة. ومن الطبيعي أن تنظر تلك الخطط باتجاه الآتي من المفردات التي يلزم معالجتها بعقلانية الحكم الرشيد.

فأول مشهد يُنظر إليه في أية خطة موضوعية كوردستانيا، هو مشهد ضحايا إرهاب الدولة المركزية القمعية وطاغيتها المهزوم الذي أوقع بشعب كوردستان خرابا في آلاف القرى والمدن وتدميرا كاملا أو جزئيا فيها، مع مئات آلاف الضحايا الذين تُرِكوا بحاجة ماسة ليد العون. ومن الطبيعي فإن استكمال بناء تلك القرى والقصبات والمدن وإخراجها من نتائج السياسة الإجرامية لنظام الطغيان، يبقى أولوية ثابتة في النهج الكوردستاني الاستراتيجي. أما أية خطط وأية كيفيات يمكن فيها تجاوز الخراب الشامل فذلكم على الرغم مما أُنجِز يبقى بحاجة لمراجعات سواء منه ما تعلق ببناء المساكن أم الطرقات وما خلقه من معيقات خطيرة واشكال الخلل في البنية الاقتصادية برمتها ما يتطلب خطة معالجات ملموسة مباشرة وأخرى تعنى بالمشروعات الرديفة في إطار معالجة نتائج التخريب والحرق للمزارع والغابات وما تتطلبه من تعويضها بطريقة جوهرية مهمة..

وبهذا سيكون المدخل التالي مرتبطا بمجمل تفاصيل عملية إعادة الإعمار والبناء ومنها على سبيل المثال لا الحصر شؤون البيئة وشؤون المياه ومشروعاتها والتشجير وإعادة الحياة للغابات المثمرة وغيرها... وهذه ستكون في فضاء الركائز الاستراتيجية ومشروعات البنى التحتية بتنوعاتها الأخرى.. حيث ترسيم استثمارات القطاعات الاقتصادية، الصناعة، الزراعة والمياه، المواصلات والاتصالات، الكهرباء والماء والصرف الصحي والخدمات، وغيرها.

والمشكلة ليست في التسميات الواردة بقدر ما هي في آليات التفعيل والتشغيل، وفي ترتيب سلم الأولويات. فأما موضوع التشغيل فإن التفكير بإدارة حكومية مطلقة سيكون مثلبة خطيرة لا تستطيعها مؤسسات الحكومة؛ لجملة عوامل محلية وأخرى دولية.. فحتى نموذج الصين الذي يعد من الاقتصادات المركزية وسيطرة القطاع العام بات متجها  إلى الاستثمارات الخاصة الداخلية والخارجية. فما بالنا باقتصاد ما زال يتخذ خطواته الأولى نحو الانطلاق والتأسيس...

عليه فإنّ خيار اقتصاد السوق والتعاطي مع قوانينه وآلياته لا يمكن أن يجابه كثير اعتراض عليه بصورة عامة. وإن وُجِد من اعتراض فإنه ينصب على عدم الوقوف عند المستوى الاستهلاكي البحت وعلى تجنب اقتصاد أحادي المسار لا يُعنى بنظرة استراتيجية بعيدة  في خيارات مشروعاته.. بمعنى أن تتبنى العقيدة السياسية للدولة مبدأ رئيسا وأساسا يتمثل في رفض أن  يتوقف التخطيط الاستراتيجي عند مفردات المشروعات سريعة المردود أو طفيلية الأداء...

ومن هنا فإنّ الصناعات الاستخراجية الثقيلة وما يرافقها من صناعات تحويلية فضلا عن تلك التي تشكل أرضية إنتاجية تساهم جوهريا في أنشطة تالية مثلا معامل الأسمنت وتلك التي توفر المواد الأولية للبناء ولشق الطرق وتعبيدها وما شابه هي مفردات ذات أولوية في الخطط البنيوية الاستراتيجية..

إن مثل هكذا صناعة، ينبغي أن تتقدم بقوة لأنها  هي التي تنشئ المجتمع المدني الحديث المنتمي للعصر. وهذا لا ينفي اهتماما مناسبا بأشكال الصناعات الأخرى ومنها السياحة نشاطا اقتصاديا مثمرا وتكميليا؛ فضلا عن أنشطة أخرى لن يتوافر لها النجاح من دون هذه الصناعات الثقيلة.. مثلا استخدام القطارات ومد السكك الحديد وأشكال المواصلات الحديثة كمترو المدن مثلا، فهذه جميعها لن تكون فاعلة وذات أثر ما لم ترافقها صناعات مشروطة بوجودها...

ولن تكون الاستثمارات العقارية مثلا ذات أولوية على حساب الاستثمارات الزراعية بل ينبغي أن توجد استثمارات مشروطة بحركة زراعية حديثة يمكنها أن تمنح الاستثمارات الزراعية الكبرى فرصها في الظهور، إذا ما توافرت معها المشروعات التكاملية المشار إليها هنا ضمنا... ولابد هنا من التوكيد على حقيقة إبعاد الاستثمارات بخاصة منها الريعية عن شبهات استغلال العمل العام في حال من احتمال وجود تكسب خاص على حساب العام وفي ظلال ظروف ومؤشرات ينبغي مكافحتها بمزيد الشفافية والضبط القانوني...

من ناحية أخرى، فإن انفراد القطاع العام أو الخاص بالجهود الاقتصادية الاستراتيجية أمر لم يثبت نجاعته بخاصة بالنسبة للبلدان النامية التي تنطلق مشروعاتها البنيوية الاستراتيجية للتو. ولكن، لربما كانت مشاركة مؤسسات حكومية عامة أداة فاعلة وحيوية في جذب الاستثمارات الخاصة وفي دفعها لتبني مشروعات تستثمر في مجالات إنتاجية استراتيجية وليست استهلاكية سريعة الربح أو طفيلية المنحى والوجود.

عليه لابد هنا من التنبيه على إشكاليات تخص القطاع الحكومي من جهة التخطيط ورسم المسارات بعيدة المدى ومن جهة توفير البيانات الإحصائية  والدراسات الميدانية  والتفاعل مع دراسات الجدوى واستكشاف صوابها وموضوعيتها أو صلاحيتها لتشكل لبنة في شبكة بنيوية محسوبة بدقة.

ومن ذلك دراسات سكانية بتفاصيلها وبما تطرحه من مطالب خدمية ومن تصورات تفرضها مفردات الحياة اليومية لمدينة أو أخرى ومستوى معيشي منتظر بالمقارنة مع الهدف ومع النماذج المختارة ومن ثم لمجمل ما يُتطلع إليه في الإقليم. وهذه كلها من مهام الدولة ومؤسساتها الرسمية المعنية...

على أنّ مجمل هذه الخطوات البنيوية المهمة والاستراتيجية لا يمكنها أن تدخل حيز التنفيذ والواقع الفعلي العملي من دون أن يرافقها أيضا اهتمام بأولويات من نمط إيجاد جهاز متخصص بمكافحة الفساد يمتلك الصلاحيات التي لا تحدها ولا تعيقها أسباب غير سليمة من نمط  قد يرتبط بالشفافية من جهة وبإرادة بعض الأجهزة الخاصة في الحكومة وفي مؤسسات السلطة...

إن ظواهر الخلط بين صراعات حزبية وعمل الجهاز التنفيذي للدولة حكومة أو رئاسة أمر ينبغي ألا يكون بل يجب تمكين السلطة من أداء مهامها البنائية على وفق عمل مؤسساتي رصين ومكين.. ولا يمكن قبول سياسة صبيانية تعرقل أداء الحكومة لمجرد أن قيادة حزبية معارضة لا يروقها مشروع  أو خطة. وما يتاح من حوارات موضوعية ستحتضنه المؤسسة التشريعية وبمجرد مرور الخطة من هناك يكون على الجميع واجب دعم السلطة التنيفيذية بمستوياتها في الأداء الفعلي البنائي؛ كما يجب محاسبة المتسببين في العرقلة وإعاقة العمل العام..

ولربما بقي أمران آخران هنا ينبغي أن تتسم به استراتيجيات المؤسسات وعملها.. الأول يتعلق بدور مؤسسات المجتمع المدني والثاني يرتبط بالتعليم ودوره الرئيس في تخريج الملائم لمسيرة البناء ومتطلبات سوق العمل.

أما بشأن مؤسسات المجتمع المدني فإن الحريات العامة وإطلاق خطط التفعيل والرعاية العامة لهذه المؤسسات ونشر ثقافة المجتمع المدني هي المفردات القائمة فعليا اليوم ولكنها التي تنتظر مزيدا من الجهود من طرفين طرف الإدارة العامة (الحكومية والاستثمارات الخاصة) وطرف المواطن ومنظمات المجتمع المدني ومستوى أدائها وآليات تطويره وإدخاله في الخطة العامة للمجتمع والدولة.

بينما تبقى إشكالية التعليم من الخطورة بمكان بحيث ينبغي ألا يجري الحجر على مشروعات التحديث ومساهمات القطاع الاستثماري الملتزم بمحددات العملية التعليمية وقوانينها المعمول بها محليا وعالميا.. مع ضرورة واجبة لدفع أسس التنافس من أجل الارتقاء بالتحديث من جهة وبالتمسك بالمعايير الأكاديمية العليا وبالأفضليات التي تضع مخرجات المؤسسة الجامعية والبحثية بخدمة الخطط الاستراتيجية الشاملة.

إنّ العمل المؤسسي يبدأ من تطوير عقلية العمل وآلياته من اصغر وحدة إدارية حتى أعلاها كما يتطلب أن يطبع اشتغاله بطابع المواءمة بين الاستراتيجي والتكتيكي المرحلي وبأداء يحدده القانون من جهة ويؤطره التفكير غني العمق ثري العلاقة بمنطق العصر وفروضه وتلكم قضايا تتقدم على ما يطفو عند بعضهم من انشغال بالصراعات السياسية وبالشعاراتية واستغلال عمل دوغماتي وراديكالية في الأداء الحزبي لكسب جمهور بعينه وللنفوذ إلى كرسي يُفرّغ من مهامه البنائية لمصلحة خطابات جوفاء تدعيها قوى عرضة بعنوانها كونها معاضرة ولكنها ضيقة في أفق جهودها..

ومن ينبغي أن يتحدث هنا كشفا للحساب مع تلك القوى هو العقل الاجتماعي الجمعي ومؤسسات المجتمع المدني التي تطرح أسئلة العمل البنيوي وتُسائِلُ جميعَ القوى فيما قدمته من برامج وركائز عمل وفيما استنطقته من مفردات تنتمي لعصرنا ولطبيعة مؤسسات الدولة المدنية ومهامها.

إن قيادة حركة التحرر الكوردية التي نجحت في معركة الحرية والانعتاق من ربقة ونير الطغيان والمركزة المعادية لأبناء كوردستان، هي اليوم أمام مهام نوعية قطعت فيها شوطا حيويا ولكنها مازالت بانتظار فعل إيجابي أبعد استراتيجيا، يرفض الخضوع لضغوط مرضية في بنية الدولة الفديرالية تحاول تصدير مشكلات توقف عجلة الاقتصاد عراقيا وشللها باتجاه كوردستان مثلما ضغوط القوى الاستثمارية من جهات خارجية تتجه لامتصاص مردود سريع في مشروعات محدودة.. و ورقة الإصلاح ليست ورقة سياسية ضيقة بل هي إطار بنيوي استراتيجي كبير يمر عبره الإقليم بأوسع بوابات التنمية وصناعة التقدم والانتماء للعصر وآفاقه.. وتلبية مشروعات البناء كوردستانيا. وبرأيي المتواضع فإن طبيعة البنى القانونية والسياسية المتاحة اليوم وتركيبة الحكومة والنظام الرئاسي المعمول به يبقى بمجمله حصانة للمسيرة بهذه المرحلة وتأسيسا لفضاءات نوعية جديدة في المستقبلين المنظور والبعيد.