التراث والمعاصرة في إبداعات  سيدة المقام العراقي والفرقة الموسيقية المبدعة

 

في أمسية فريدة واحتفالية من طراز خاص صدحت  فيها سيدة المقام العراقي الأولى الفنانة فريدة بجديدها مع فرقة موسيقية تميزت بدقة الأداء وحرفيته العالية وبالسلطنة التي تناوب عليها مبدعو الآلات الموسيقية النادرة، بإدارة وقيادة مبدعة للفنان المميز عازف الجوزة الأول الفنان محمد حسين كمر.

اغتنت تلك الليلة الغناسيقية بمقامات عديدة مثلما استمعنا فيه للبيات والدشت والهمايون وغيرها من تلك التي أثارت الشجن العميق وتعاملت ببلسمها مع  الأحاسيس الدفينة الغائرة في عروق محبي الموسيقا الشرقية وتحديدا هنا التراثية المقامية. وجديد الفرقة التي عودتنا على تقديم المقام العراقي بأصوله المعروفة؛ أنها قدمت هذه المرة موسيقا معاصرة بنكهة تراثية لامست في بعض مناحيها رومانسية الستينات بل جمعت بين المقام  بتاريخيته وطبيعته التراثية المعروفة وعراقته من جهة وبين الأداء الغناسيقي المعاصر الأمر الذي استدعى توزيعا موسيقيا جديدا وإعادة بناء الجمل الموسيقية بطريقة امتاحت أصول الأغنية العراقية وموسيقاها طوال العقود الخمسة الأخيرة وبطريقة تجذب الجيل الذي بات تحت تأثيرات متنوعة لزمن السرعة والأداء الغناسيقي المختلف؛ فكسبته باستحقاق جمالي مذهل...

ونجحت الإبداعات الجميلة في أغنيات خاصة بالسيدة فريدة وأخرى تراثية بتقاسيم الفرقة المتألقة..يمكن للمتخصص أن يتحدث بإسهاب عن التكتيك الأدائي من وقفات وانطلاقات ومن أدوات تحكم وتفاعل مع الجمهور والفنانة فريدة في بعض تلك الأغنيات بجملها اللحنية الطويلة كانت تعرف بخبرة مكينة كيف تلوّن كي تعطي الأثر المنشود عند جمهور الأغنية السريعة وتعيده للأغنية الطربية بوسائلها الفنية وبتجديدها أيضا.

ولعل من معالم النجاح ذاك التفاعل الذي انطلق من قاعة ضمت مئات المستمتعين بهذا اللون المعاصر وبنكهته التراثية من مختلف منابت جمهور تركَّب من العراقيين والسوريين ومن الجنسيات العربية والشرق أوسطية ومن الهولنديين الذين اعتدنا اللقاء بهم في مثل هذه الاحتفاليات النادرة، وبحضور نخبة من متذوقي الفن والمتخصصين فيه أيضا.. وبين الفينة والأخرى كانت تتسامى الإيقاعات وتشنّف الأسماع إصغاء لسلطنة مقامية نادرا ما نجدها ولكنها مع السيدة فريدة وأبرز العازفين تتكرر بروعة التألق في لمحات مهمة ممتعة.

هذا الفن ليس من ذاك الذي تلتئم فيه التجارة مع بعزقة المشاعر وتناثرها في هياج ينحط بالذائقة.. هذا الفن الذي نلتقيه إبداع جمالي مميز ينطلق أولا من احترام الذائقة والقيم  ومن استدعاء أغنى تفاعلات المشاعر الإنسانية ومن الانتماء لهوية تراثية بعيدة؛ فضلا عن التجديد وعن تقديم الإضافات التي لا تقف عند إسار التقليدي بل تنقله إلى معايشة متغيرات العصر والحداثة  بطريقة ملائمة.

كم تمنيت أن أجد فسحة من الوقت لأسجل تلك اللمحات التي سجلت جديد الإبداع الغناسيقي للتلحين والتوزيع الجديدين للفنان محمد كمر ولتلك الالتماعات التي تقول: إن الفنانة فريدة ما زالت ثرّة في عطائها وأن جديدها مازال حيا بعنفوان الإبداع بخاصة في أغنياتها التي تقدم لأول مرة في تلك القاعة الكبيرة بوسط هولندا.. إلى جانب المفردات الأدائية التي لوّنت الصوت ليصل المسامع بجديد أطرب ورقّصَ وأطلق عنان الاستمتاع بحق.

إن هذه الفرقة وقائدها الموسيقي وعلامتها المهمة الكبيرة سيدة المقام تبقى عنوان هوية يلزم الاحتفاء بها  واستقطابها لأبرز احتفاليات الفن الغنائي في مختلف بلدان منطقتنا وفي مختلف المهاجر القصية وجالياتنا الناطقة بلغات الأغنية عربية وكوردية وتركية وفارسية  وبلغة الموسيقا التي تجسد اللغة الموحِّدة للشعوب ولثقافاتها..

تبقون محط الاعتزاز والفخر وشكرا لرائع الأداء والعطاء ولمميز الإبداع  ومن تألق لآخر لكم كل الموفقية

وإن هي إلا ((عيدية)) من غني  الروح البغدادي المغناج تمحو آثار الألم وغبار بعض الأماكن التي تعصف غضبا متطلعة لمنتظر جماليات إبداعات فنانينا ومبارك لكم تلك الأماسي التي هي أكبر من مهرجان وأروع من أنشطة مؤسسات ووزارات نعرف أين حل بها السبات وطال بها المنام فيما المبدعات والمبدعون يمضون في تألق حيث ضفاف القمر يتألق في ليالي زمننا من أجل الأسماع تهدأ مصغية للجمال بديلا عن هدير الوحشية التي تندلع بغضبها هنا أو هناك

 

وسنبقى مع الجمال في أعز وأغلى اللحظات  ومجددا ودائما تبريكاتنا لهذا التألق والإبداع

 

د. تيسير الآلوسي