أية آليات تحكم علاقاتنا في اليوم العالمي للتسامح؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

ما من شك أنّ وجودنا الإنساني برمته، لن يستقر و يكتسي سمات الأنسنة، إذا ما استمر التعكز على تبرير أفعالنا كونها الردّ على تصرف الآخر تجاهنا، فالإناء ينضح بما فيه.. ولأننا اخترنا أن نحيا حياة إنسانية كريمة علينا أن نكون المبادرين في ممارسة كل ما يدخل بقيم الخير وأنسنة الحياة. أما ما يفترضه بعضنا بهذا الآخر في رحلة التبرير لقسوة بعض ممارساتهم السلوكية وتجاوزاتها، فليس سوى توصيفه بالندّ الناقم والعدو الذي يُمارس معه كل أشكال الصراعات التناقضية التي تصل حدّ محاولات إلغاء هذا الآخر وإقصائه و\أو تهميشه إن لم يكن الانتقاص منه ومحاولة دحره والانتصار عليه في معركة وهمية مصطنعة... وحتى عندما تعلو أصوات الصفح والغفران والعفو فإنَّ الردّ يأتي بألا يكون هذا الطرف  هو المبادر وتُختلَق حلقة مبررات مفرغة جديدة! أما الحديث عن سلوك إيجابي منتظر يتمثل في التسامح، فإنّهُ لم يأتِ زمنه عند كثير من قوى مجتمعنا المعاصر المعتمدة خطاب التبرير لتفاعلاتها السلبية تلك!؟

 

ولكننا هنا في لجج الصراعات الفردية والجمعية التي يحياها مجتمعنا، فلن نجد حلا يوصلنا برَّ الأمان سوى "التسامح" . لقد لخَّصت قصيدة زهير ابن أبي سلمى تجربة عربية في عصر داحس والغبراء التي استمرت أعمال الثأر والانتقام فيها لأربعين سنة وأكثر حتى جاء حكيم يدعو لاستبدال تلك القيم والممارسات بنقيضها الإيجابي لتنتهي بعدها مسلسلة دموية بشعة في حياة الناس آنذاك. كان هذا المثل وغيره كثير في حياة الشعوب وتاريخها إلى أن نصل إلى الدرس الجنوب أفريقي، لإنهاء الاحتراب بين السود والبيض الذي أوقع آلافا من الضحايا القتلى وملايين من الضحايا الذين ما انتهى توصيف ضحايا فيهم حتى اتخذوا طريقا جديدا قام على فلسفة التسامح...

ولعل أول معاني التسامح وعناصره الرئيسة التي ينبغي أن تشيع في الأنفس المؤمنة بالسلام وبالتعايش الإنساني هي معاني: الغفران والصفح والتراحم والعفو.. فأنْ يجد الأخ لأخيه سببا فيبادر لوصله بعد جفاء؛ وأنْ يجد الأخ لأخيه دافعا ليصفح عن زلّة حصلت منه أو خطأ مارسه بحقه؛ وأن يجد الأخ لأخيه هدفا زكيا ليغفر ويعفو؛ ذلكم هو  التسامح الذي نتحدث عنه بوصفه سلوكا رئيسا مهما في استقرار العائلة وفي إضفاء فضاءات العيش الإنساني المشترك بعالم الصداقة وسلامة وجود الجماعة في مدرسة أو منتدى أو جمعية أو رابطة أو بوجود مجتمعي مدني لا غابوي كما هي الحياة البدائية الأقرب للتوحش والهمجية وغياب العقل وحكمته والأفئدة الصحيحة لا السقيمة..

ومن أجل أنْ نمعن في تعرفنا إلى التسامح قيمة وسلوكا، يمكننا النظر في بعض التجاريب والخبرات التي جسدتها أقوال مأثورة لحكماء البشرية، فـ ردّا على ميل بعضهم للكبر أو التكبر في تبرير سلوك عدائي أو ردّ انتقامي يقول جواهر لال نهرو إنَّ: "النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح". ولمن يريد أن يحتل مكانه ومكانته بحجم مميز كبير، عليه أن يمارس ضبط نفسه عن اندفاعاتها ويتحكم بسلوكه تجاه الآخر مبادرا إياه بالتسامح ليكون كبيرا بحق، أما كل ماعدا ذلك فهو تعبير عن النقيض السلبي المستصغر بعيون الناظرين.. ويجسد تولستوي ما أردناه هنا بقوله: "عظمة الرجال تقاس بمدى استعدادهم للعفو والتسامح عن الذين أساؤوا إليهم".

إنّ عدو إنسان هو ذلك الذي سيضايقه أن تكون أنتَ المبادر القوي؛ فالعدوانية ضعف وهشاشة قيم وهزال أنسنة ابن آدم.. فيما التسامح قوة.. فإن سامحت أعداءك فذلك هو أكثر ما سيضايقهم كما يقول أوسكار وايلد.. وأنت لا تتقصد مضايقة الآخر بوسيلة أو أداة الخير (أي المسامحة) فهي قوة تغيير إيجابية ولكن المضايقة تأتي أما من مرض مَن شعَرَ بها وعدائيته وأنت بقوة الخير قطعت عليه طريق ممارسة شروره، أو أنك لا تضايق بل ستخلق فرص معالجة وتطمين للعلاقات وأجواء الحياة الإنسانية الصحية السليمة فرديا وجمعيا..  

وطبعا هذا يتأتى من مدخل التهدئة وتوفير فضاء مناسب لتحويل الآخر وتغييره، فتكسب في هذا الآخر صديقا وهو خير بالتأكيد من أن يبقى في محيطك من يراك عدوا ويُبقي حياتك تحت تهديد العداء إياه.. وحكمة دوغلاس هورتون تذكرنا بالتهديد بقوله: "في سعيك للانتقام احفر قبرين.. أحدهما لك". فيما يحذرنا فيلسوف الروح المدني السلمي غاندي من ممارسة سلوك الاحتراب كونه يُضيع حياتنا قبل حيوات غيرنا بقوله: "إذا قابلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟". ونحن نردد مع الفيلسوف المعاصر برتراند رسل: "الحياة أقصر من أن نقضيها في تسجيل الأخطاء التي يرتكبها غيرنا في حقنا أو في تغذية روح العداء بين الناس". فلنكن نحن حَمَلَة مشاعل خطاب التسامح لبناء مجتمع إنساني آمن مستقر...

 

والتسامح الذي نحن بصدده ليس ممارسة فردية محدودة بجدران العيش الشخصي بإطار عائلي صغير على أهمية هذا الموضع؛ ولكنَّ التسامح قبل ذلك وبعده، اصطلاح فكري فلسفي عميق قد نلخص جانبا فيه بالقول: إنّ التسامحَ هو سلوك إنساني يتجه بالفرد والجماعة للفعل الإيجابي الذي  يتأسس على مبدأ المساواة بين الأنا والآخر، الأمر يمنح قبولا داخليا بتقاسم مفردات الحياة والتشارك فيها، وبالمساواة تنطلق فينا فكرة أنّ الآخر كما أنفسنا، فهل نؤذي أنفسنا؟ وفي حكمتنا: احبب لأخيك ما تحب لنفسك. وبناء عليه فإنّ هذا السلوك سيمنح حقوق الإنسان ضمانات قانونية ويوفر فضاءات التعايش السلمي بين الإنسان وأخيه والجماعات البشرية بهوياتها: القومية أو الدينية أو الفكرية أو غيرها من أشكال التعددية والتنوع؛  وهو الأمر الذي يستجيب لحاجات الجميع بمساواة وعدل وإنصاف ويبعد الحواجز العنفية المختلقة المفتعلة بينهم...

وفي ضوء دراسة موضوعية ناضجة نرى أنَّ التسامح يقوم بشكل جوهري على الاعتراف بالآخر؛ بدءا من احترام وجوده على أساس من المساواة والعدل، وحتى حال التفاعل إيجابا مع حقوقه وحاجاته؛ وبناء على ما مرّ فإن فلسفة التسامح تقوم على قبول التعددية والتنوع في الثقافات وفي الهويات التي تطبع وجودنا الإنساني: قوميا، عرقيا، دينيا، مذهبيا، اجتماعيا وفكريا سياسيا وبكل تلك السمات التي تجسد بصمة الإنسان فردا أو جماعة.. وهذا ما يساعدنا على تحصين  الفرد والمجتمع ضد احتمالات التمييز على أيّ من تلك الأسس وضد أشكال التجاوز و\أو الظلم الذي قد يقع من طرف على آخر لأي سبب مما أسلفنا ذكره...

إنّ إشاعة فلسفة التسامح وتحويلها من التنظير الفلسفي إلى الواقع المعاش، يشكل أساس ترسيخ ثقافة السلام ومحو ثقافة الانغلاق والانشطار بين ضفاف متعادية محتربة، بالإشارة هنا إلى من يحاول فرض تفسيره للمجموعات المذهبية على أنها طوائف مغلقة متعارضة الوجود.. ولأنَّ التسامح ليس مفهوما محدودا بـ (سمة أخلاقية سلوكية) ولأنه أبعد من ذلك يمثل التزاما سياسيا وقانونيا، فقد بات جوهر التسامح واجبا يفرضه القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقات الدولية الملحقة به كما في إعلان اليوم العالمي للتسامح وما تضمنه من قيم مجسدة بصيغة قانونية ملموسة الأمر الذي يعني أنّنا بحاجة فعليا لما سجلناه مطلع فقرتنا من إشاعة ثقافة التسامح بديلا لثقافة اختلاق الاحتراب بأسسه الطائفية وبغيرها من المبررات المرضية...

ولن يكون التسامح يوما تنازلا عن حق؛ أو خنوعا لقوة سلبية أو سلطة أو جهة أو أخرى، تمارس ضيما أو ظلما أو اعتداء على طرف ما... فمثلا يجري اليوم في البلاد كثير من التضاغطات والمخاشنات المبررة بدواع سياسية و\أو اجتماعية و\أو دينية وهي بالتأكيد تتطلب رفع الحيف والظلم ولكن بالترافق مع قوة إنفاذ التسامح وتفاصيل مفرداته الغنية بأنسنتها حياتنا العامة والخاصة... 

ولكننا بين ممارسة التسامح وإشاعته في حياتنا وبين عدّه تساهلا مرفوضا، يثور الجدل بشأن حدود المفهوم والممارسة وسقفها في كل حالة بعينها.. حتى أننا نجابه بحال التراجع عن التسامح بذريعة أننا حالة خاصة وأن النماذج الموجودة في تاريخنا أو تلك الموجودة في عصرنا هي غيرها التي نحن فيها.. ومن هنا صار علينا أن ندفع بعض من يفرض الحواجز والمواقف المسبقة باتجاه الرؤية التي تمارس مفاهيم التحضر أو التمدن وقبول التعددية والتنوع بأوسع مساحة رفضا للتحديدات والأسقف الخجلى التي تفتش دوما عن ذرائع للتمييز وإجازة التعصب أو أيّ شكل له فتستمر دوامة صنع الألم ومطحنتها الهمجية...

 

ولإشاعة التسامح في علاقاتنا نؤكد أنه في جوهره أساس مكين لمطالب حقوق الإنسان ووجوده بحال من تعددية البصمات المعبرة عن الهويات الشخصية والجمعية إنسانيا، أيّ أنّ التسامح لا يكتفي بالاعتراف بالتعددية والتنوع حسب بل يحترم قدسية التنوع الإنساني ومن ثمّ يمارس كل ما تتطلبه التعددية والتنوع من الاستقلالية في الوجودين الفردين والجمعي ومن فروض وواجبات.. وهكذا، فإنّ أول آليات إشاعة التسامح في الحياة العامة تكمن في تنفيذ مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وممارسته حياتيا، وأيضا تتمثل في إنهاء سلطة الاستبداد والطغيان والتمييز والقمع وإحلال مبادئ احترام حقوق الغير في ممارسة ثقافاتهم وهوياتهم وما تتوافر عليه من مفردات وطبائع.

وهكذا فعلى مستوى الدول ينبغي لها المصادقة على الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تنصّ على الحقوق والحاجات والمطالب الإنسانية كاملة تامة.. وعليها أنْ تسنَّ التشريعات الملائمة لحظر كل أشكال التجاوز والاعتداء والقمع. كما عليها التمسك بمبادئ التعايش السلمي مع الجيران وألا تهدد السلم الدولي وأن ترعى حال التفاهم والصداقة بين الشعوب وأن تجنّب العالم مصادر الهزات العاصفة وأتون الحروب..

 

على أن التسامح يبقى منطلقه تربويا نفسيا يتأصل في الأنفس من المراحل التعليمية الأولى ومن داخل الأسر والعوائل.. الأمر الذي يتطلب تنشيط الفعاليات الثقافية المناسبة تفعيلا لهذه الفلسفة الإنسانية التي تعود لتحضر الإنسان وتمدنه.. ولابد هنا من عناية جدية بالعلاقات البشرية من أولها وأكثرها تفصيلا حتى آخرها وأكثرها تعقيدا أي من الأحوال الفردية الشخصية والعائلية مرورا بالتجمعات من مدارس وجامعات ومعاهد ومنظمات وإلى المجموعات القومية والشعوب والدول...

ولعلّ من آليات إشاعة هذه الممارسة توظيف المنتديات والحركات والجمعيات والروابط الحقوقية منها والثقافية والتربوية فضلا عن المؤسسات التعليمية بمناهجها الدراسية وتدريسييها وإداراتها.. وربما أفادنا عراقيا وشرقأوسطيا أنْ نعقد مؤتمرات التسامح محليا في المدارس والمنتديات والمحافظات والأقاليم ثم مؤتمرات وطنية في كل بلد من بلدان التغيير التي عانت من أزمنة الدكتاتورية والقمع وفلسفات العنف والإيقاع بين مكوناتها لكي يتم اتخاذ الإجراءات العملية والخطوات المرسومة فعليا وببرمجة تتناسب وخصوصية المجتمعات والدول التي نعنيها هنا...

 

وربما كانت المسابقات المدرسية والمكافآت والجوائز مخصوصة لممارسات اللاعنف والتسامح دافعا قويا لتمتين الوحدة الوطنية وتطبيع الأجواء وتفعيل مسيرة السلم الأهلي؛ مثلما من جهة أخرى وفي ضفة المهجر والمجتمعات المضيفة ينبغي قبول اللاجئ وإكرامه والتعامل الإنساني معه ومثله المهاجر وأي من أبناء الجاليات وكذلك بشأن المرضى بمرض بعينه وغيرها من أمثلة متعددة وما يصادفونه جميعا من أشكال تعامل يعود للتعصب والعنف والتمييز..

وقد نخلص من هذه الكلمة الموجزة للقول: إن التسامح يمثل اليوم مفتاح تمدننا ومنطق تحقيق السلم المجتمعي. والتسامح ممارسة في ميدان إنساني فسيح يفتح الآفاق واسعة لأسس الحوار الوطني النوعي القادر على الإنجاز وإيقاف فبركات افتعال التقاطع والخلاف بخلق منظومة علاقات صحية صحيحة. ولعلنا نوجِد بجهود مشتركة حوافز ووسائل تشجيع لتطبيقات التسامح معيشيا وفي تفاصيل يومنا العادي..على ألا تنحصر الفكرة في تحديد التسامح بكونه  مجرد  سمة أخلاقية سلوكية بل بالنظر إليه بوصفه التزاما سياسيا وقانونيا بات واجبا يفرضه القانون ُالدولي والمعاهدات والاتفاقات.

 

وبمناسبة اليوم العالمي للتسامح، الذي يوحي لي بين الفينة والأخرى بهذه المعالجات، أحيل قرائي إلى تلك الاتفاقية التي وقعتها عشرات من دول العالم بكل ما تختزنه من محاور مهمة لنا أفرادا وجماعات، وجهات شعبية ورسمية، عسانا نستقي منها ما يفعّل آليات إشاعة خطاب التسامح علاجا لأمراض باتت تحيق بوجودنا تهديدا خطيرا حان وقت الانتهاء منه ووقفه:

http://daccess-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N96/170/88/PDF/N9617088.pdf?OpenElement