التصعيد الموجه ضد البيشمركة أمر يؤجج الأوضاع ويدفعها لأعمال لا تحمد عقباها

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

أطلقت جهات رسمية عليا سواء منها حكومية أم حزبية وبرلمانية تصريحات، في بغداد، استهدفت بأغلبها قوات البيشمركة وبعضها طاولت القيادة الكوردستانية. فقد تضمن بيان مكتب القائد العام للقوات المسلحة، كما أوردته المسلة يوم 14 نوفمبر الجاري، قوله "نؤكد على قوات البيشمركة عدم القيام بأية أعمال من شأنها إثارة التوتر وعدم الاستقرار وتصعيد الموقف في تلك المناطق"، ومشددا على قوله: "ننصح قوات البيشمركة بالابتعاد عن القوات الحكومية" في تضمين بل اتهام لقوات البيشمركة بأمور لم تقم بها. وتوالت التصريحات والوقائع في ضوء مذكرة قبض على إحدى الشخصيات التي نفى الاتحاد الكوردستاني كونها مسؤولة فيه مؤكدا على أنَّ: " تصرفات الشرطة والمغاوير [هي التي] أشعلت شرارة التوتر في المنطقة"، داعيا الجميع إلى "ضبط النفس". وقد حذر المسؤول في الاتحاد الوطني بقضاء طوزخرماتو في صلاح الدين على وفق ما أوردته السومرية نيوز  أمس الجمعة (16 تشرين الثاني 2012)، بـ"الرد العنيف" على عمليات دجلة في حال أقدمت على اقتحام مقرات حزبه، مؤكدا أنه طالب بتشكيل لجنة للتحقيق في حادث الطوز. من جهته كان النائب سامي العسكري أدلى بتصريحات متلفزة مشيرا إلى علاقات كوردية إسرائليلية مستمرة في إيحاءات مبطنة بأجواء محتقنة إقليميا فضلا عن اتهامات أخرى للكورد ووصفه التحالف الشيعي الكوردي بالأكذوبة. الأمر الذي ردّ عليه أحد النواب [النائب محسن السعدون] بأن الشارع العراقي فقد الثقة بالمالكي وحكومته التي مرّ في ظل سلطتها أشكال فساد كصفقة الأسلحة ومفردات البطاقة التموينية وغيرهما وأشار النائب إلى أن تلك التصريحات [كتصريحات العسكري ومكتب القائد العام وغيرهما] تتسبب في خلق أجواء استفزازية من جهة وتأتي للمشاغلة وإبعاد الأنظار عن تلك القضايا الرئيسة والجوهرية مما أثر ويؤثر في حياة المواطن.

وفيما أوردت الأنباء أخبارا مؤكدة عن تحرك قوات دجلة لإلقاء القبض على المتورطين قبل أية تحقيقات رسمية سليمة دعت إليها الأطراف المعنية؛ أوردت في الوقت ذاته وكالة شفق نيوز  أن "اشتباك الأمس جرى مع عناصر مسلحة تابعة للمطلوب [قضائيا]، وليس كما روج البعض على أنها قوات من البيشمركة اشتبكت مع قوات دجلة". وذكر مصدر أمني مسؤول يوم أمس لـ"شفق نيوز"، أن قوة من الشرطة والجيش العراقي نفذت عملية لاعتقال المدعو غوران جوهر المطلوب للقضاء قرب جامع الوهاب وسط قضاء الطوز واثناء الاعتقال جرت اشتباكات قرب احد المقار الحزبية التابعة للاتحاد الوطني الكوردستاني". واكد أن أي قوة من عناصر البيشمركة لم تشارك في الاحداث. ومن جهة أخرى قال ملا كريم شكور في حديث لـ"السومرية نيوز"، إن "مقرات الحزب [الاتحاد الوطني] في قضاء الطوز اتخذت إجراءات أمنية شديدة تحسبا لأي اقتحام قد تقدم عليه عمليات دجلة"، محذرا بأن "ردنا [أي رد الاتحاد الوطني] سيكون عنيفا في حال أقدمت على ذلك، وسندافع عن أنفسنا بكل الوسائل". وأشار شكور إلى أنهم أبلغوا "محافظ صلاح الدين، وقائممقام الطوز بأن حادث اليوم لا يمت بأي صلة لا للبيشمركة ولا لأي من أحزاب الكرد، [وطالبوا] بتشكيل لجنة للتحقيق بملابساته"، مؤكدا قوله إننا "لا نعتدي على أحد، ولا نقبل بالاعتداء علينا"، بحسب تعبيره.

والمتابع يستطيع أن يرصد عشرات التصريحات النارية من ممثلي رئاسة الحكومة ببغداد ومن قادة الجيش الميدانيين كما يرصد تحركات متسارعة خلقت أجواء من التوتر ودفعت لاحتمالات عنفية خطيرة من اشتباكات لن تمرّ بلا ضحايا وبلا نتائج سلبية بعيدة المدى. فلماذا يجري التحرك بهذا الاتجاه العنفي والتصعيد الأمني العسكري وتحديدا في المناطق المختلطة وتلك المنصوص عليها بالمادة 140 مما يراد تمريرها بعيدا عن الأهداف التي صيغت من أجلها من تطبيع الأجواء وإعادة الأمور إلى نصابها قبل التغييرات الديموغرافية التي مارسها النظام الدكتاتوري السابق؟

إنّ أمورا عديدة مكشوفة تجري ميدانيا.. فأعلى حالات فساد طاولت قمة الهرم في حكومة بغداد التي بات المتابع يرصد تعاملها مركزيا وبعيدا عن الشراكة وخارج إطار تطبيق الدستور.. ولأننا على أبواب انتخابات مجالس المحافظات ولأن الثقة بحكومة رئيس [مجلس] الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة قد تراجعت بقوة فإنّ أفعالا خطيرة كهذه هي ما يراد من ورائها قلب المجن على الشركاء والفوز مجددا بتلك الانتخابات  بأقل الخسائر من فقدان الثقة! وطبعا اللعبة التي تتهم الكورد بالعلاقات الأجنبية تحديدا شماعة  العلاقة مع إسرائيل وبتخوين الكورد هنا وبافتعال مشكلات وأزمات متوترة معهم وإلصاق بعض القضايا المطلوبة قضائيا بهم مثلما جرى في حادث اعتقال المواطن كوران بطوزخرماتو ومحاولة جر البيشمركة وليس مقرات حزب الاتحاد الوطني وحدها؛ كل ذلك هو أعمال عبثية على الرغم من مخاطرها تبقى ، مع الأسف الشديد، مبررة لدى من يفتعلها لكسب معركته الانتخابية ومعركته في تصفية الآخر الشريك وإخضاعه لمطالبه وضغوطه التي وصلت مستوى كسر العظم!

ما الرد الذي نرصده من الجانب الكوردستاني؟ وجدنا في الأمثلة في أعلاه، الآتي: فقد وجدنا أولا: توضيحا للوقائع بأقصى درجات ضبط النفس والهدوء والروح السلمي واعتماد مبادئ الشراكة والتفاعل الإيجابي لحل المشكلات الجارية من جهة وثانيا وجدنا: الامتناع عن أي تصعيد على كل الجبهات سواء منها الإعلامية من صحف ومجلات وفضائيات ومن خطاب سياسي رسمي فضلا عن الأداء القانوني المنضبط لقوات البيشمركة وقيادتها العليا والميدانية. حتى أن بعض الصحف أوقفت نشر مقالات تعبر عن رؤية الشخصيات الوطنية العربية وليست الكوردية  توكيدا لنهج التهدئة وتطبيع الأجواء.. إلا أن الجهة التي باتت تمارس نهج المركزية ببغداد لم تتوان عن إطلاق التصريحات النارية التي أشرنا هنا إلى بعضها القليل، وإطلاقها الاتهامات السياسية والأمنية بمستوى التخوين والضرب تحت الحزام!

ومن جهتنا في الوسط السياسي المحايد المستقل؛ لا نرى صوابا لنهج التصعيد الذي يتزايد يوميا وبات يجري بالساعات والدقائق على الأرض ميدانيا بشأن التطورات العسكرية التي تعكس التصعيد في الخطاب السياسي وإعلامه.. ونعبر هنا، عن تأييدنا التام لنهج التهدئة وتطبيع الأجواء الذي مارسته وتمارسه القيادة الكوردستانية ونرى أن ضبط النفس لدى قوات البيشمركة يمنح فرصا إيجابية للضغط الرسمي والشعبي والرد موضوعيا وبحكمة على نهج التصعيد العبثي ومخاطره الذي يتنامى لدى ((المركز)) وبعض عناصره التي تدفع نحو ألعاب أبعد استراتيجيا من التغطية على وقائع فساد وانعكاساتها الانتخابية فهي بحقيقتها تدفع نحو تداعيات ممارسة ما كان من حرب على الكورد وإقليم كوردستان حتى وإن طفا التظاهر بأن الأمر يجري بحدود مناطق حددتها المادة 140 بوصفها مناطق مازالت ترى بها القوات الحكومية سمة لصالح مركزيتها وخارج ما فرضته  جرائم التعريب القسري قبل عقود!

إنّ عدم وجود حل عملي في الأفق، يعود برأي أغلب المحللين المنصفين،  لاستمرار قناعة سلبية لدى قادة يتسلطون على الحكومة الاتحادية ويديرونها بفردية من أنهم الأقوى وأن وسائلهم العنفية يمكن ممارستها واستعادة تفعيلها في الظرف الراهن لمصلحة ما يرونه ((لجما)) للمطالب الكوردستانية التي يصورونها بطريقة  تشويهية ويصفونها بغير ((العادلة)).. ولكنَّ من يضرب شريكا سياسيا ومن يعتدي على حقوق شعب ومكون رئيس للعراق لن يتوقف عن ممارسة استبداده على كل مكونات الشعب العراقي وهو الأمر الذي يجب وقفه بحزم عبر تحالف وطني عابر للنكونات التي يريدون تجديد احترابها وتقسيمها تناقضيا.

من هنا تأتي إدانة  حركة المجتمع المدني والقوى السياسية الوطنية الديموقراطية في العراق والمنطقة، لتلك الممارسات ولذاك التصعيد المتهور الذي لن يجلب سوى الخراب. ونحن قوى السلم والحرية وحاملي رايات حقوق الإنسان والمدافعين عن حق كل مكون من شعبنا، ومنهم الكورد هنا حيث تتجه التهجمات ضدهم اليوم، نؤكد على أعمق تضامن مع سياسة ضبط النفس والتهدئة والعمل على أسس الشراكة الوطنية بروح المساواة وإنصاف الجميع وتلبية المطالب العادلة ومنها حسم موضوع المناطق المتنازع عليها على وفق المادة 140 من دون مزيد تأخير وتجنيب الشعب مخاطر استخدام أسلحة الاحتراب والاقتتال والتجربة التاريخية تفضح هزيمة هذا السلاح على الرغم من مآسيه النكراء بما يوقعه من آلاف وملايين الضحايا.. وبدلا من تلبية تلك الحقوق والمساهمة بتعويض الضحايا وبناء المنطقة يجري تهديدها واستباحتها بافتعال قضايا فردية وتهويلها وتضخيمها بطريقة ((ربما)) مقصودة من أعلى المستويات مثلما يجري في هذه الأجواء من ضخ إعلامي غير مسؤول..

وعليه، فإن المطلوب اليوم يكمن في الآتي:

1.   وقف عاجل وفوري للتصريحات التصعيدية بكل مستوياتها وأن يطلق بيان رسمي من مكتب رئيس مجلس الوزراء بالخصوص.

2.   أن يطلق قرار رسمي فوري بوقف أية ممارسة أمنية شرطوية أم عسكرية لقوات دجلة تحديدا في مواقع التوتر مما يمكن لها أن تتسبب في منزلقات خطيرة.

3.   فتح تحقيقات في الملفات الأمنية القضائية وتكون القوى المشرفة على التحقيقات مشتركة تطمينا للثقة والعدل والمهنية في الأداء.

4.   إجراء لقاءات عاجلة على أعلى مستوى يوقف أية احتمالات ميدانية غير محسوبة.

5.  البحث في تركيبة قيادة الجيش العراقي ومنع تشكيل قوات خارج الأسس الدستورية وخارج الشراكة والاتفاقات الرسمية المعقودة، مثل قوات دجلة.

6.   تفعيل ما توصلت لقاءات بغداد والتعجيل بحسم التلكؤ السلبي بشأن تطبيق ورقة إصلاح تستجيب لورقة أربيل المعروفة.

 

قد تقع أحداث ماساوية قبل نشر هذه المعالجة ولكن مجمل هذه النقاط تبقى هي السبيل الفعلي الذي يمكنه أن يكون سيد الموقف وتصحيح المسارات باتجاه الحل النهائي والاستراتيجي. ونحن ندعو القوى الوطنية لسرعة إعلان بيانات توقف الشحن والاستعداء والتحضيرات المندفعة والأفعال المتهورة ميدانيا فضلا عن إدانة صريحة لكل أشكال التصعيد ووضع مشروعات تجنيب الأوضاع الاقتتال والانزلاق لحرب لا بقي ولا تذر.. وكل الحروب بدأت من شرارة جرى إهمال التفاعل الجدي المسؤول معها وقوى التخريب تنشب وخالبها في ضحاياها بتداعيات غير محسوبة ولا يمكن السيطرة على الحرائق يوم تندلع. لذا وجب التنبيه والتحذير من أجل وقفة حازمة وسيكون اليوم للقوى المحايدة الوطنية المستقلة دورها في التضامن مع الطرف المتمسك بالتهدئة والموضوعية تشجيعا لهذا الاتجاه ودعما للحق بدلا من الوقوف على الحياد السلبي بين طرف يتجاوز بشكل جوهري وآخر يقع  التجاوز على حسابه..

وحتى  تصدر هذه المعالجة وتنشر سيكون لكل حادث حديث بأمل تحكم العقل والحكمة والحلول الوطنية المناسبة لمسيرة عراق فديرالي جديد تتمسك كل قواه بدستوره وبالاتفاقات بروح سلمي بناء.