مسؤوليات تنتظر منظمات المجتمع المدني في العراق

       أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

مع تطور المجتمع المعاصر وولوج عصر تركيبة معقدة للدولة الحديثة وفي حضن الثورة الصناعية وما لحق بها في القرون التالية، بخاصة التغييرات العاصفة في العقود الأخيرة، حيث العولمة ومزيد من تداخل العلاقات بين الحضارات والتشكيلات البنيوية المختلفة؛ بات المجتمع الإنساني يتحدث عن مجتمعه المدني ليجابه به حالات ظهور الأنظمة الشمولية التي تصادر الإنسان وتلغيه واضعة إياه في خانة استعباد مذلّ في مسارها السياسي الاستبدادي. فيما يعدّ ظهور مؤسسات المجتمع المدني ضرورة لخلق التوازن بين سلطة الدولة عندما تقع بأيدي قوى شمولية وبين المجتمع ومنظماته المعبرة عن أنشطته وتركيبته، بكل ما فيها من غنى التنوع وثراء التعددية. وبهذا فإنّ المجتمع المدني يمنح الأفراد الميدان الفسيح لممارسة الأنشطة بحرية تامة ولصياغة مصائرهم الخاصة ومساعدة الآخرين بهذا الاتجاه. ونظام مأسسة المجتمع المدني يتجسد بمجال تطوعي اختياري، ويتسم بالتمتع بالحرية الشخصية، والارتقاء بمسؤولية الفرد تجاه المجتمع الذي يحيا فيه ليقدم عطاءه له بما يمتلكه من إمكانات وخبرات مادية ومعرفية...

ويشتمل نشاط المجتمع المدني على أنماط الأنشطة التطوعية التي تنظمها مؤسساته في مجالات ومصالح و قيم و أهداف مشتركة. وهنا يمكننا أن نرصد حالات تقديم الخدمات ومنها المساعدات الحقوقية ودعم التعليم الأهلي المستقل وخلق التحشيدات الجماهيرية للتأثير في السياسة العامة باجتماع مواطنات ومواطنين بمهام وأعمال تطوعية غير حكومية لدراسة السياسات العامة وتوفير معلومات ضافية مهمة ووضعها بأيدي العامة من أجل مجابهة سطوة الدولة ومواقفها التي ترى الدراسات العلمية ومنطق الأحداث والوقائع مجافاتها السلامة وبالمقابل توجد حالات أخرى لدعم سياسات صائبة وتعزيزها بالتبني من الجماهير في ظرف مغاير.

وربما لا يستطيع مجتمع غير متطور [المجتمعات النامية، من دول العالم الثالث] ولم تصله الثورة الصناعية وعصر التكنولوجيا على توفير فرص ناضجة لتأسيس منظمات المجتمع المدني؛ إلا أن ظواهر العولمة الجديدة وتقارب المجتمعات والدول بعصرنا ولّد فرصا لإطلاق المبادرات الأنضج. ومن هنا صار متاحا الميل لتفعيل دور تلك المؤسسات بهذا العالم النامي بالاستناد إلى خبرات العصر ونفوذها إلى أبعد الميادين والدول ، لتولد مؤسسات المجتمع المدني بمقابل السلطات البطرياركية وطغيان الدكتاتوريات وأيديولوجيات شمولية تتحكم بالدول ومراكز استبدادية تعتمد إلغاء التعددية وإقصاء الآخر واستعباده بدل إطلاق الحريات والحقوق ومنها حق تقرير المصير للمكونات القومية صاحبة الحق في وجودها شعبا بين الشعوب الحرة المستقلة، كما تؤكده القوانين الدولية المرعية..

إن مؤسسات المجتمع المدني هي المنظمات غير الحكومية وتلك التطوعية غير الربحية التي تنشط في الحياة العامة وتنهض بمسؤولياتها في التعبير عن تطلعات أعضائها والفئات التي تجسد أهدافها بالاستناد إلى قيم وأسس ثقافية أو معرفية علمية أو أخلاقية فلسفية أو دينية أو حقوقية خيرية أو ؛ وهذه جميعها هي ما يصطلح عليه بمنظمات المجتمع المدني. وينبغي هنا الفصل بين المجتمع السياسي وحركاته وقواه الحزبية الداخلة في جسم الدولة وسلطتها الحكومية وبين دائرة القوى المنظمة في جمعيات تعاونية تطوعية واتحادات تعمل بميادين التوعية السياسية والحقوقية وتتسع لمهام وأنشطة مجتمعية عامة من نمط الأعمال الحقوقية ورعاية الإنسان بمختلف صيغ الرعاية والدفاع عن حقوق الشغيلة والطلبة والنساء والطفولة والأسرة وإعلاء قيم التسامح والعلاقات الإنسانية الأسلم والأكثر صحة وسلامة وطبعا نسجل لها دفاعها أيضا عن السلام والديموقراطية جوهرا جديدا للحياة الإنسانية...

إن المجتمع المدني لا ينمو إلا في درجة وعي تتناسب والأعمال التطوعية حيث الإيثار للشأن العام واستعداد الفرد على البذل والعطاء والتضحية من أجل المجتمع الذي يحيا ويعيش فيه. ومثل هذا توضع أسس دعمه ورعايته في الدول الديموقراطية وله أولوية مخصوصة تعزيزا لمسار الدولة وقوانينها المنفتحة على خدمة المجتمع. إن الدلالة المعيارية للمجتمع المدني تكمن في تعبيره عن عمق تمسك الدولة ومؤسساتها  بما يتطلع إليه مجتمعها من خلق أسس التوازن وتعميق آليات العمل الديموقراطية ومنع أي احتمال للتراجع عن الديموقراطية نظاما عاما في البلاد. وهنا يبرز لدينا فهم بنيوي تتعاضد فيه جهود مؤسسات المجتمع المدني مع المؤسسة الحكومية بمسيرة (ديموقراطية) واحدة في آلياتها وأهدافها..

على أن اختلاف النظم السياسية ووجود نظم استبدادية دكتاتورية وأخرى تنحرف لسبب أو آخر عن تطوير المؤسسات الديموقراطية النامية فتقع في أحابيل استبدادية من نمط ما؛ الأمر الذي يدعو إلى أن تكون مؤسسات المجتمع المدني بدرجة من الوعي والعمل النضالي اليومي لكشف الحقائق ووسائل الضغط من أجل التغيير أو من أجل تعديل المسيرة التي وقعت في مطبات الانحراف عن المسيرة التي تتشارك فيها قوى المجتمع والدولة  وينبغي أن تصل إلى تلبية مطالب العدل والحقوق والمساواة.

وإذا أردنا مراجعة مثل هذه القراءة تطبيقيا في النموذج العراقي فقد نرصد في تركيبة الحكومة الاتحادية القوة النافذة فعليا بها اليوم والمتحكمة بسلطة القرار وطبيعة الفكر الذي تحمله وميل بعض العناصر والقوى فيها للمركزة ولإضفاء طابع فرض سلطة شمولية لفكر سياسي أو اعتقاد ديني وقد يرصد المتابع المتمعن إشارات إلى محاولات تهميش الآخر وتنحيته عن الشراكة أو دفعه لمواقع ثانوية وإقصائه عن المساهمة الفعلية في القرار الاتحادي.. وفي قراءة لشؤون جهة مجتمع مدني كنقابات العمل نجد أن بعض  العناصر استخدمت قوانين النظام الاستبدادي الدكتاتوري السابق في ممارستها بالحديث عن قانون يلغي وجود مسمى العمال وأن العراق دولة موظفين لا عمال فيها ما يمنع وجود نقابات عمالية ومن ثمّ الاتجاه لحلها أو رضوخها لسلطته كما جرى في الممارسات الأخيرة بشأن انتخابات اتحاد العمال في محافظات البلاد غير الكوردستانية.

والأمر ليس من المطلقات السلبية ففي كوردستان توجد حركة مؤسسات مجتمع مدني مرعية ومدعومة في استقلاليتها وفي الحريات التي تمارس فيها العمل بما يمضي قدما بتعميق مسيرة آليات العمل الديموقراطي تنمويا تدريجا بطريقة تتلاءم والظروف المحيطة محليا وإقليميا. وعلى هذا نحن نجد في العراق الجديد تركيبة تعكس استمرارا في التعاطي مع نظم وهياكل شكلية تتقمص دور الناشط في مؤسسات مجتمع مدني فيما تتبع الحزب والقائمة التي تدير الحكومة الاتحادية ببغداد بطريقتها  الخاصة ربما التي تقع بمثالب الإقصاء والاستبداد تقابلها محاولات مثابرة من المؤسسات التي تنمو ولو بصعوبة وبمجابهة عراقيل جمة وظروف غير مؤاتية وهي تحمل جهود تعديل الأخطاء والتجاوزات الجارية.. كما نجد مؤسسات مجتمع مدني بنيوية تتعاضد مع مؤسسات حكومية لاستكمال التطور والمنجز البنائي في كوردستان نظرا لاختلاف الأجواء بين ما يجري في بغداد وما يتم تبنيه والسير به حثيثا وبطريقة بنائية في كوردستان بعامة.

وينبغي الإشارة هنا على سبيل المثال إلى أشكال الدعم الحكومي المميز والكبير، بخطه العام، لمؤتمرات المنظمات المدنية من قبل القيادة الكوردستانية وحكومة الإقليم حتى منها أشكال الدعم للأنشطة غير الكوردستانية ما يؤكد صحة النهج والمسار الجاري كوردستانيا. وهو الأمر الذي يؤكد انفتاح الحكومة على المجتمع المدني وأشكال التقويم والتفاعل النقدي البنيوي بينهما.. ومن هنا ينبغي الالتفات إلى آليات تأثير وجود إقليم كوردستان في العراق الاتحادي ومسيرته وبخاصة هنا في إطار تفعيل أدوار منظمات المجتمع المدني عراقيا والارتقاء بفرص عملها ومن ثمّ دور ذلك في تصحيح المسيرة الديموقراطية بالمستوى الاتحادي العراقي بصور مباشرة وأخرى غير المباشرة.

ولعل حال قبول النقد بوصفه آلية ديموقراطية تتعمد بوجود منظمات المجتمع المدني والشخصيات التي تعمل مدنيا في إطار التفاعلات والأعمال النقدية هو أساس مكين للتطور والتحديث ولكن هذا ما لا يصادف من بعض أطراف الحكمومة ببغداد وبعض الحكومات المحلية من ذات الجهة الحزبية قبولا فعليا. ونحن نجابه رؤى نقيضة تضرب محاولات التصويب والعمل المدني السلمي الديموقراطي..

إن ردا واعيا لمعطيات وجود مؤسسات المجتمع المدني تبقى ضرورة ذات أولوية كيما نستطيع تعديل مسار العمل العام تعديلا جوهريا يتناسق وإمكان ولادة مجتمع جديد. كما إن الدفع باتجاه تفعيل الدورة الاقتصادية  وإيجاد فرص التصنيع وتحديث المجتمع هما من الأسس البنائية لترصين مجتمع مدني جديد.. فضلا عن الرعاية والدعم لاستقلالية مؤسسات المدنية وتنويع الجهود في إطارها.. وإطلاق المبادرات المخصوصة.. وربما كانت استقلالية مؤسسات التعليم العالي واستقلالية التعليم الأهلي وقنونة جهودهما على وفق أحدث ما وصلت إليه حضارتنا المعاصرة فرصة جدية للارتقاء بالوعي العام وللجهود التعاونية التطوعية التي ستجد صداها في حركة واقعنا الجديد عراقيا مع أننا لا نرصد مثل هذا التفاعل رسميا ببغداد حتى لحظتنا حيث تبعية سلبية لنظم التعليم ومؤسساتها مع رفض لمحاولات المجتمع الأهلي التحديث على سبيل المثال رفض قنونة نظام تعليمي بارز ومهم ممثلا بالتعليم الألكتروني الذي نحتاجه اليوم.

هناك أمثلة وشواهد كثيرة في بلادنا يمكننا الحديث عنها  ولكننا نكتفي هنا بهذه القراءة التعريفية بالمجتمع المدني ومؤسساته ومنظماته وبإشارات عجلى تطبيقية على هذا الأمر بأمل متابعة أخرى وبتداخلاتكم أيضا بالخصوص استكمالا لمثل هذه القراءة.