بين الطعن في الاحتجاجات الشعبية وتشويه صورتها والتفاعل المسؤول المنتظر

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في الشؤون السياسية

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

في النظم الديموقراطية يكون حق التعبير عن الرأي مقدسا كما تتم ضمانته وكفالة حق التظاهر وتأمين سلميته. ولا يجد المسؤول الحكومي في تلك النظم أن الأمر يعيبه وينتقص منه بقدر ما يجد تفاعلا شعبيا وصوتا يجب قانونيا أن يحترمه ويستجيب لمطالبه. ولطالما سقطت وزارات واستقال مسؤولون كبار تجاوبا مع الإرادة الشعبية، وفسحا لمجال التغيير وتمكين التداولية من تلبية ما لم يستطع تلبيته في ظل اشتغاله مسؤولا، وهو أمر يدخل في آليات عمل سلطة الخيار الديموقراطي.

وفي العراق الذي اختار شعبه  وجودا ديموقراطيا فديراليا واتجاها نحو توظيف آلياتهما في التقدم  بمسيرة إعادة الإعمار والبناء، اختير العمل بحكومة الشراكة الوطنية لمجابهة حجم نوعي مهول من المطالب والحاجات.. وهو ما يُعتمَد في أغلب البلدان التي تخرج من أتون الحروب وما تخلفه الخراب والدمار...

إلا أن المشكل الذي عانت منه الحكومة الاتحادية تمثَّل في عقبات تراكمت حتى باتت عقدة غير طبيعية في توجيه العمل. تلك هي عقدة سياسة المغالبة والاستحواذ على  (حصة) الأسد مما يعده (بعضهم) غنيمة؛ الأمر الذي اكتنفه حال من الانزلاق نحو محاولة الانفراد بسلطة القرار في وضع تكاد الثقة تنعدم بين أطراف الشراكة التي جمدتها المحاصصة وآلياتها.

وأمام الفشل الخطير في  برامج البناء، وأمام الواقع المزري للخدمات الأساس، وأمام حال استفحال ظاهرتي الفساد والإرهاب التي استنزفت الوجود الإنساني في البلاد، وأمام التجاوزات على حقوق الإنسان التي باتت بحجم جرائم ضد الإنسانية؛ أمام كل هذا المشهد المأساوي كان من الطبيعي أن تخرج الفئات العريضة من أبناء الشعب بلا انتظار لمماحكات (بعض) الكتل السياسية وانشغالاتها، لكي تقول كلمتها الفصل ليس في استجداء مطلب، ولكن لتوكيد خياراتها  الوطنية الديموقراطية والعمل على تطهير العملية السياسية مما شابها من عثرات خطيرة الأثر والوجود.

إنّ مطالب تظاهرات شباط فبراير 2011 هي ذاتها  التي طُلِب من أجلها مهلة مائة يوم!؟  ولم يفِ من وعد بها، حتى بعد مرور مئات عديدة من الأيام! ومن هنا جاءت التظاهرات الجديدة بمطالب حقوقية وإنسانية عادلة منها على سبيل المثال: الشرارة التي أطلقت مطالب إنصاف السجينات والسجناء اللواتي والذين  اعتقلوا بالتهم الكيدية أو رهينة بديلة لمتهم أو في حملات المداهمة والاعتقال العشوائي ورُكِنوا خلف القضبان منسيات ومنسيين لسنوات بلا محاكمة، وقعت نسوة كثيرات من بين هؤلاء، تحت طائلة الاستغلال من تعذيب واغتصاب وغيرهما!!

في هذا المطلب تحديدا ثارت ثائرة (بعض) المقربين من جهات حكومية مسؤولة ومن المستفيدين من تلك الممارسات، لتتهم المتظاهرين بالدفاع عن الإرهابيين! والمطالبة بإطلاق سراحهن أو سراحهم..!؟ فيما الحقيقة أنْ لا أحد من بنات الشعب وأبنائه يطالب بهذا؛ ولن يطالب شعبُُ بإطلاق سراح قتلتِهِ من المجرمات والمجرمين، ولكن المطلب [وبلا تشويه] يتحدث عن عشرات آلاف من المعتقلات والمعتقلين على خلفية استغلال المادة 4 إرهاب استغلالا، يتسم بتوجه طائفي مقيت.. وآخر ينفلت من ضوابطه القانونية وحمايته القضائية! الأمر الذي أشاع حالات الاستغلال والتجاوزات التي باتت ((منهجا)) ثابتا بالمخالفة مع القوانين الحقوقية ومع الدستور في استخدام التعذيب بأشكال وحشية بشعة تصل حد إماتة الضحايا من السجينات والسجناء، وإن كانت الممارسة بوجه ثان فبقتل من نوع آخر، أي بالاغتصاب الذي برهنت على حالات وقوعه، عدة نساء على الرغم من كل عمليات الإخفاء والتضليل التي مورست حتى على حق نواب البرلمان من ذات كتلة من يتحكم بوزارتي العدل والداخلية ومؤسساتهما...!؟

وعليه فإن التظاهرات لم تخرج دفاعا عن وزير أو حمايته ولكنها رفضت، بالتأكيد، إيقاع البلاد بخوانق مرضية خطيرة في ميدان اصطراع  بعض زعامات وبعض قوى في استغلالهما عناصر في القضاء ولخروقات في القانون بغية تصفية حسابات حزبية وشخصية وإدارة الأزمة بسياسة طائفية مفضوحة؛ تضع مكونات الشعب في مجابهات مفتعلة  فيما مَن يصطنع هذه الوقائع يتظاهر بالوطنية وبحماية المواطنين كذبا وزيفا ويحاول إلقاء الأسباب والتبعات على الآخر!؟

إذن، فمطلب الشارع الوطني كان ويبقى بشكل جوهري متمثلا بتوفير قضاء مستقل حر، يلتزم بالقوانين وأسس العدل وبإبعاد القضاء عن التسييس والتجيير في الأداء الحزبي ومصالحه الضيقة المشهودة بأعمال تصفوية وببلطجة مافيوية ميليشياوية!! في محاولة لاستعادة الثقة بمؤسسات الدولة وإلا فإننا في اتجاه الانهيار الكارثي!

لقد جاءت التظاهرات في ضوء هذه الأوضاع وتداخلاتها، وهي تظاهرات بمطالب عامة لا تنحصر بأمر من دون آخر، ولهذا تبقى تلك التظاهرات صاحبة حق في مجمل مطالبها الأوسع والأشمل ومنها مطلب الدفاع عن شرف العراقية والعراقي، حتى عندما يكونان في السجن، حيث تعرَّضا لأشكال التعذيب والاغتصاب. ومن المعيب ومما يوصف بالجريمة أن يبرر (بعضهم) اغتصاب سجينة بأنها أصلا معتقلة لكونها بغي أو عاهر!!! وينسى هذا (البعض) أنَّ الجريمة تبقى بتوصيفها القانوني كيفما تمت ومع أيّ كان.. وأن إعمال القانون وإنفاذه يتم في كل الميادين حتى في داخل السجون، فهي [أي السجون] ليست مقاطعة  منفصلة لا تخضع لسلطة قانون، بل هي أبرز الأماكن التي يُنفذ فيها القانون نصا وروحا... ولا يحجب ممارسة القانون وتنفيذ مواده الحقوقية، أنه يمارس مع مجرم مدان أو مومس من ضحايا المجتمع أو مع مظلومة أُخِذت رهينة نيابة عن قريب!!!

إنّ صاحب كلمة الحق من المحامين والحقوقيين ومن فئات الشعب الواسعة، لا يقبل بإهانة كتلك التي تختزل الأمور لمآرب تشويهية تضليلية. لأن الجميع يقف مع سلامة تطبيق القوانين التي تضمن إنسانية المواطنة والمواطن. والجميع ينشد ألا يجري تجاوز أو اعتداء أو جريمة حتى خلف قضبان المحكومات والمحكومين.. لأننا ينبغي ألا نمارس العقوبة القانونية إلا بقضاء عادل.. وألا نمارسها انتقاما بل حماية للمجتمع وإصلاحا للمنحرف أو المجرم أو إبعادا له ولجريمته عن المجتمع. وعليه في هذه القضية، وهنا بالخصوص، دانت كل القوانين والاتفاقات حالات التعذيب والاغتصاب وعَدَّتهما جريمتين يحاسب عليهما القانون. وللموتور الذي يهاجم التظاهرات واصفا إياها بأنها تقف ضد اغتصاب ((بغايا)) كما يريد التبرير، عليه مراجعة خطابه ومواقفه والانضمام لمسيرة حقوقية تؤنسن وجودنا وتبعدنا عن غابوية السلوك ووحشيته وتمرده على القوانين الإنسانية المعاصرة...

إنّ المجتمعات لم تؤسس السجون ميدانا لمرضى جرائم الانتقام وأفعال الثأر.. بل أقامتها لدرء الجريمة وإبعاد حالات وقوعها وربما إصلاح بعض حالات الجنوح وطبيعيا عزل المجرمين ومن تأصلت فيهم دوافع إرهاب المجتمع. ولأن الهدف يبقى إنسانيا لحماية المجتمع فإن كل أشكال الانتقام والثأر وأيّ فعل للوحشية والغابوية محظور ممنوع ، فجرى تحريم التعذيب وبالتأكيد تجريمه ومنه تجريم أفعال الاغتصاب التي عدّها المجتمع الإنساني جريمة مركبة وفعلا معاديا للقيم والمبادئ ومما يقع في إطار جرائم ضد الإنسانية عندما ترتكب بهذه الآليات الممنهجة وبحال من الظاهراتية المنفلشة.  

ومن جهة أخرى، وبشأن حالات اختراق التظاهرات من قوى معادية للعملية السياسية ومن قوى مازالت ماضوية النظرة والبصيرة تؤمن خطأ بإمكان إعادة الزمن إلى الوراء ورفع بعض الرموز الماضوية من علم وصورة، فإن التظاهرات ومنظميها، قادة ومشاركين، أعلنوا مرارا مطالبهم العادلة ورفضهم الثابت لوضعهم في خانة الطائفية مؤكدين البعد الوطني.. ورفضهم أن يوضعوا في خانة مجرمي الأمس  والنظام الذي ولى ولن يعود مؤكدين تطلعهم لخيار وطني ديموقراطي فديرالي تعددي.

من هنا وجدنا موقفا حكيما في رفع أعلام كوردستان توكيدا للتضامن بين مكونات العراق الفديرالي رسميا، بمستوى الوجود المؤسسي وتوكيدا لإيمان المتظاهرين من أطياف العراق غنية التنوع، بالعراق الفديرالي التعددي وباحترام ذياك التنوع في إيحاء بل في تصريح واع برفض الممارسات التي جرت بمسلسل الضغوط والاعتداءات على كوردستان وفي ميادين مناطق المادة 140 ومنها قضية تشكيل قوات دجلة بالمخالفة مع القانون ودفع تلك القوات، خطأََ، في المناطق المعرّبة زمن الطاغية ونظامه الشوفيني بدل تطبيع الأوضاع فيها وإستعادة هويتها الأصل...

وعلى جميع القوى الوطنية إدراك أن ردود الفعل الشعبية العفوية، وحجمها الأكبر من قدرات المنظمين، قد يفسح مجالا لخرق هنا أو هناك من قوى معادية.. ولكن هذا لا يسمح باتهام الشعب وتظاهراته بالانتماء للنظام القديم  ولا باتهام الشعب بالحنين للماضي؛ فلقد اختار الشعب ومنه في المحافظات الغربية، طريقَ العراق الديموقراطي الجديد؛ وقدم التضحيات في محاربة قوى الإرهاب المدعومة لوجستيا من قوى إقليمية خارجية ومن قوى داخلية معادية متسللة في مؤسسات الدولة أو هزيلة مريضة تدفعها قناعاتها وسياساتها الطائفية  لخدمة تلك القوى المعادية التي لفظها شعب الأنبار أسوة بمجمل الشعب العراقي.

ولم يكتفِ المتظاهرون بإدانة الطائفية ولا اكتفوا بإعلان التمسك بالوطنية، كما لم يكتفوا بإدانة الإرهاب والفساد ولا برفض أعلام  النظام البعثفاشي حسب بل رفعوا العلم العراقي الحالي على الرغم من أنه مازال قيد نقاش في اختياره ودلالاته هو الآخر. لم يكتفوا بكل ذلك بل أكدوا رفض أي تدخل أجنبي دولي أو إقليمي من مختلف اتجاهاته ومصادره. وهذه القراءة تذكِّر بكل الإدانات التي اختارتها التظاهرات ضد التدخلات بأشكالها والوقوف ضد أي ارتباط بين النضالات الوطنية وأي أصبع خارجي ولم يُستثنَ من هذا سوى التضامن الأممي لشعوب المعمورة ومنظماتها الأممية الرسمية المعنية وبالصيغ المعهودة  في التضامن الأممي الذي لا يقبل الأصابع المخابراتية ولا الدبلوماسية والسياسية ولا أي شكل للتدخلات السافرة المرفوضة من أية جهة كانت.

على أن الأوضاع الأخيرة كشفت من يمارس سياسة التقسيم (الطائفي) ومن يقف ضد البعد الوطني مثلما بدا من حالات تسيير تظاهرات تعمية وتضليل تتحدث عن تدخلات من طرف إقليمي وتغفل طرفا آخر في وضوح لمآرب تسيير تلك التظاهرات؛ بمحاولاتها دفع أنظار الشعب بعيدا عن المظاهرات الاحتجاجية الأصل وفي رد من قوى تتحالف وجهات إقليمية كانت ومازالت وراء انقسامات غير مبررة ووراء تعميق الشرخ الطائفي ومآربه في تقسيم مجتمعنا المتآخي. ولكن الوقائع تؤكد أيضا: أن وعي الشعب العراقي سيقف بالمرصاد لتلك الألاعيب وسيبقى على متانة وحدته الوطنية عبر تيار وطني ديموقراطي بديل لمثل هذه السياسات الكارثية..

ومن جهة ثالثة وبذات الأجواء أُطلِقت تصريحات في الإعلام من مسؤولين كبار حول الواقع المزري لصورة الحكومة بنظر العالم بسبب الصراعات! وحول التنصل من المسؤولية وإلقائها على الآخر!؟ ويبدو للمتمعن أن مثل هذه التصريحات التي تبقى في إطار الصراعات بين بعض الكتل وتوجهاتها، ما كان ينبغي أن تكون على لسان مثل أولئك المسؤولين المكلفين بحمل اسم البلاد سياديا والدفاع عن سمعتها وكان ينبغي بدل تلك التصريحات النهوض بتفاعلات عملية تعالج الظواهر السلبية وتنهي التناحرات والصراعات المفتعلة وتزيل أسبابها.. وتبقى فرص هذه الاتجاهات لاالإيجابية ممكنة ومتاحة وواجبة، إذ لابديل سوى العمل السلمي الدؤوب من أجل التغيير نحو الأسمى والأفضل.

أما بشأن الجهات التي يرمى عليها تنصلها من المسؤولية فهي غير صاحبة صلاحية وما لديها من صلاحيات مسحوبة فعليا لجهة تنفرد بالقرار عبر جمع صلاحيات حتى الوزارات والوزراء بين يديها، وهذا ليس تبرئة لطرف أو تبريرا له ولكن توصيف واقع من أجل معالجته. وهو الأمر الذي يكشف موضع الخلل واتجاه المعالجة التي ينبغي أن تكون في تعزيز مبدأ الشراكة وتفعيله وإطلاق برامج عمل استراتيجية تكافح الفساد والإرهاب وتنتهي عن فلسفة التقسيم الطائفي والتمييز المرضي في ضوئه.

وبالمجمل لابد من القول إن التعرض للتظاهرات الأخيرة من الجهات الرسمية المعنية ومن أصواتها الإعلامية بطريقة التشويه والمقابلة بأداءات منفعلة لن يكون حلا أو تقدما إلى أمام بل سيكرس الأوضاع المرضية الكارثية وسيدفع البلاد والعباد نحو أتون ظروف مأساوية تراجيدية تقدم مزيدا من الضحايا وتضعنا على شفا انهيار خطير.

فالقضية ليست قضية تظاهرات وما وقع عليها من تشويه ومحاولات تضليل بل هي قضية إدارة مجمل السياسات العامة واستراتيجيات تفيد بأننا ينبغي أن نراجع أداءنا جوهريا وأن نفكر بالبديل الوطني الذي يحمي المسيرة ببعديها الديموقراطي والفديرالي ومن ثم ببعدها الأغنى والأعمق الذي يلبي أنسنة الحياة ويحترم الحقوق والحريات وينجح في مهمة البناء والتنمية التي تعالج ظواهر البطالة، الفقر، النقص الفاضح في الخدمات، وفي تعليم وصحة وافيين معاصرين وفي مؤسسات دولة مدنية تعمل بأفضل شروطها البنيوية السليمة.

ثقتي أنّ هذا الاتجاه، أتجاه بناء الدولة المدنية، هو ما يضمن سلامة المسيرة ويحميها من زلل أو ثغرة أو خطأ. وأن هذا الوعي الوطني هو الخيار الأمثل في التعاطي مع الوقائع وفي التفاعل معها ووضع الحلول الناجعة؛  فهلا أخذنا العبر والدروس!؟؟؟