مَنْ يهاجم الفدرالية؟ ولماذا؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

              2004\  01 \ 07

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

تتصاعد أصوات وهي ليست كثيرة ولا تحظى بالأرضية الشعبية في بلادنا, تلك الأصوات المتصاعدة تتحدث بلغة العداء تجاه الفدرالية بشكل صريح بل تهاجم ضمنا أبناء الوطن من الكرد وتشوّه صورتهم بتشويه مطالبهم العادلة.. فيما تتخفى قسم من تلك الأصوات وراء أكمّة تأجيل النظر في موضوع الفدرالية على أنَّها تدعي تأييد الفكرة مستقبلا!

وما يعنيني هنا هي تلك المحاولات التي تعمل على تقديم مشاريع الفدرالية المقدّمة من الأخوة أبناء وطننا العراقي المخلصين بصورة مغايرة لحقيقتها.. حيث يعمدون إلى الإضافة التشويهية وبالتحديد القول بوجود فقرات ونصوص تشير إلى روح انفصالية في تلك المشاريع وإلى إضافة فقرات تصوّر المشاريع كونها وسيلة ليس لتمزيق الوطن بل إلى إزالته من الخارطة!

وبعد ذلك تبدأ التحليلات .. فإذا كان المشروع انصاليا أو تمهيدا للانفصال فإنَّه أدعى إلى الرفض لأنَّ ذلك جزء من عمليات تصفية العراق وإنهائه ووأد مستقبله سلفا.. ومثلما تعذّرت وتحججت الأنظمة الدكتاتورية بكون بلداننا ليست مؤهلة للديموقراطية وظلت تناور وتؤجل ممارستها حتى [تعلّم] الشعب أصولها؟!! ومثلما كان الاستعمار يؤكد أنّ شعبا لم يستعد بعد لأخذ قراره بيده وهو باقِ ِ حتى [يعلِّم] الشعب كيف يدير نفسه .. مثل هؤلاء يسوق المتخرصون الجدد أعذارا لتجنب الحديث في الفديرالية وليس الأخذ بها وتنفيذها؟!!

وعادة ما تكون تلك الأعذار وحدة الوطن.. فهل حقا قدّم الكرد مشروعا انفصاليا أو يمهّد للانفصال؟ وهل حقا تعني الفديرالية الانفصال؟ نحن في الحقيقة لا نريد سجالا بيزنطيا مع قوى معلومة في معاداتها لكل أقشام شعبنا ومكوناته القومية والدينية الأثنية العرقية المذهبية وغيرها... ولكننا نريد التأكيد على ثوابت لابد من الاتفاق عليها أو أخذها مسلّمات راسخة:

الدولة العراقية الحديثة نشأت على عدد من الاتفاقات والعهود الدولية لمكوناته وكان من ذلك وعود تخص الكرد في إنشاء دولتهم في ظروف مختلفة لاحقا... ونظرة إلى القضية الكردية ستؤدي بنا إلى مقارنة وتحليل فبالمقارنة نجد توجه الشعوب والأمم إلى تحقيق الاستقلال والوحدة القومية بخاصة بُعَيْد انهيار الكتلة الشرقية ومتغيرات العالم المعاصر وفلسفة النُظُم الجديدة بينما لايجد أصحاب تحليلات الوحدة الوطنية حقا في الوحدة القومية للكرد! وبتحليل القضية نجد ما لحق الكرد أمةَ َ وشعباَ َ من حيف وضيم بتقسيمهم بين عدد من الدول من جهة وبتأجيل النظر بمطالبهم القومية والوطنية خضوعا لظروف دولية ومتطلبات توازنات القوى ..

ومن المفارقات أنَّهم أُكْرِهوا على الانتظار طوال القرن الماضي وهم اليوم مطالبون بالانتظار مرة أخرى! وماذا ينتظرون ليس حلّ قضيتهم جذريا بل مجرد حقوقهم داخل تلك البلدان التي أُلْحِقوا بها وهي حقوق إنسانية طبيعية كالتحدث بلغتهم ورعاية ثقافتهم وممارسة طقوسهم القومية وإدارة شؤونهم .. وبالمناسبة فقد أثبتوا طوال أكثر من عقد تمكنهم من ممارسة الإدارة الكاملة التامة لحياتهم من دون الاستعانة بطاغية أو دكتاتور أو شوفينية جهة على أخرى..

ومع هذه المسلَّمات نجد الحركة الكردية بكل أحزابها العراقية تؤكد على الانتماء للوطن العراقي والحرص على وحدته الوطنية والتمسك بها ووضع كردستان العراق جزءا لا يتجزأ من بلاد النهرين وحضارته وكثيرا ما تعمّدت تضحيات المناضلين الكرد والعرب سويا من أجل عراق ديموقراطي فديرالي موحد وسالت دماء الوطنيين العراقيين من العرب والكرد ومن الكلدوآشور والتركمان معا وسقت أرض العراق الطاهرة الواحدة..

أفبعد كلّ ذلك نسكت لأصوات تخوين الكرد؟ ورميهم بالقوة التي تبغي تقسيم العراق وتمزيقه وإضعافه؟ إنَّ الكرد أمة وشعبا يظل نضالهم التحرري مشروعا من أجل مطالبهم الوطنية اليوم ومن أجل غدهم القومي على وفق خيارات حرة مستقلة ليس لقوة أخرى حق التدخل في توجيهها حسب مصالح تتقاطع مع حق شعب كالشعب الكردي في الحياة وعلى وفق إرادته.. وإذا كنّا نشدّ على أيدي أخوتنا من الكرد في خيارهم اليوم للبقاء في إطار الوحدة الوطنية العراقية فإنَّنا لا يمكن أنْ نغفل حقهم في أيّ خيار آخر إذا ما رشَّحت الظروف وحدتهم القومية وتطلعاتهم لما يستجيب لوجودهم..

وإذا كنت شخصيا أجد في توحيد الشعوب ولقائها التنسيقي وحتى الوحدوي أمرا مسستقبليا منطقيا وصحيحا فإنني أجد أيضا من الصائب ألا يُفرَض هذا على الآخر بالإكراه والقسر والقوة العنفية.. أفلا يوجد وسائل أخرى سلمية كالمناقشة والحوار والتفاهم للإقناع واللقاء؟ أم أنّه يريدون أنْ يكون خيار العنف والإكراه قدرنا الذي لا يمكن ردّه؟ ألا يمكن أنْ يكون المستقبل إلى جانب التوحيد واللقاء وخيار الحياة المشتركة؟ أم أنَّ مجبرون على قبول افتراضات وهمية لنقبل لا استنتاجات مرضية بل إكراهات قسرية تدخلنا في دوامة جديدة من العنف؟!!!

وبخصوص مناقشة مشروع الفديرالية فهو أمر يمكن أنْ يكون معروضا [وهو كذلك] على عامة الشعب فضلا عن المتخصصين من الساسة وأنْ يتمّ الأخذ بما يراه الكرد من تصورات إيجابية في وقوفهم مع الوحدة الوطنية في إطار فديرالية تحفظ لهم حقوقهم القومية.. وفتح ملف الفديرالية الكردية في وطنهم العراقي الموحّد يفتح في الحقيقة ملفات الحقوق القومية للتركمان والكلدو آشوريين وكذا للأرمن وللأقليات الدينية والمذهبية بوصف حقوقهم الإنسانية حقوقا طبيعية لا يمكن المساس بها بأية ذريعة ..

وهؤلاء جميعا إذا ما حصلوا على حقوقهم سيكونون الأكثر حرصا على الوحدة الوطنية لمعرفتهم الأكيدة بأنَّ عراقا موحدا هو أضمن لسلامتهم ولوجودهم ولمصالحهم وهو أفضل في الوضع الإقليمي والدولي لحماية التوازنات التي تحمي تلك المصالح.. لأنَّ التشرذم والتقسيم وتقطيع الأوصال أمر لا يعني التفتت والضعف بل يعني أبعد من ذلك الزوال والإتيان على كلّ مصالح مكوّنات شعبنا القومية والدينية وغيرها..

إنًَّ مَن يهاجم الفديرالية هو الذي يشكل السبب الحقيقي للضغط السلبي على الكرد وعلى غيرهم ومن ثمَّ لتوليد ما ينجم عن هذا الضغط وهذا الاستلاب للحقوق من ردود فعل سلبية وصراعات امتدت طوال عقود الحكومات الاستبدادية ولا نريد لها اليوم إلا التوقف نهائيا لأنها هي التي وقفت وراء إضعاف العراق ووحدته باستمرار. أما لماذ؟ يريدون ذلك فالجواب يكمن في مصلحة مَن يريد إبقاء العراق ضعيفا تسيطر عليه الصراعات الداخلية بدلا من الاستقرار الداخلي والتعايش سلميا وبالتراضي في ظلال وحدة متينة متماسكة يحتفظ الجميع فيها بحقوقهم.

لقد تحدثت على سبيل المثال ليس عن التعريب سئ الصيت وإنّما كذلك عن التكريد لقرى في كردستان وغيرها وعن مطاردة الكلدوآشور وتقتيلهم والتصيّد لهم في مذابح  مفضوحة معروفة كما في سميل وكما يجري اليوم في البصرة وعدد من المدن العراقية التي ينتشرون فيها بكثافة.. وهذا يعني أنَّنا جميعا مطالبون بالتعايش على أساس احترام الآخر وتقديس حقوقه مثلما نقدّس حقوقنا وندافع عنها..

وعلى جميع القوى لكي تنجح في أدائها السياسي وفي تحقيق أهداف الفئات والقوى التي تعبر عنها, عليها أنْ  تؤكد في برامجها وفي سلوكها على ضبط النفس ومنع ردود الأفعال العنيفة والسلبية والانتقال إلى التفاعل الإيجابي البنّاء مع الآخر والتعاون والتفاهم لنصل جميعا لمستهدفاتنا بأفضل الوسائل وأنجعها. وفي طريقنا هذا لابد من فضح محاولات الإيقاع الجديدة القديمة بين أبناء شعبنا وقواه السياسية..

وفي الوقت الذي نطمّن القوى الإقليمية بخصوص وحدة التراب العراقي والسير من أجل تحقيق سيادته الوطنية واستقلاله نطمّن أنفسنا في هذا الأمر وفي حق مجموع شعبنا لتلك الوحدة وللاستقلال والتحرر..بمنع التدخلات الخارجية من جهة ومنع أصواتها التابعة من استخدام تلك الورقة العابثة بتماسك لقائنا الوطني.. وعلينا التعرّف إلى حساسية الموقف وإمكان تفجره بطريقة سلبية من أطراف عدة لذا كان علينا قراءة الوضع وعدم التسرع والمزايدة الكلامية بين أطراف الحوار لأنَّ الأصوات التي تقف ضد الفديرالية هي ذاتها الأصوات التي تقف ضد وحدتنا الوطنية العراقية ..

فلا تأجيل لقضية الفديرالية ولكننا مع الدراسة والتمحيص بخاصة عندما نناقش تفاصيل الحدود الإدارية الجغرافية والكتل والمكونات القومية التي يشتملها الأقليم ومواقفهم وما يريدون من مطالب هي الأخرى مطالب تمثل حقوق إنسانية لقوميات تتعايش في الأرض ذاتها كما هو حال مدينة التنوع الت يتعني لنا فسيفساء التشكيل القومي المتآخي..

وبعدُ , فلن تكون حال تعميق الحريات ومنح الحقوق المشروعة في ظلال القانون ممّا يتعارض مع الديموقراطية التي نتجه إليها ونسعى لبنائها في عراقنا الجديد.. ومَنْ يقف بالضد هو كذلك ضد الديموقراطية لعراقنا مثلما هو ضد وحدة ترابه.. ولذا كان ششعبنا هنا على ضفة الخير والبناء والتآخي في عراق ديموقراطي فديرالي موحد..

 

 

1