عنق الزجاجة يستحكم ضِيْقا في الوضع العراقي العام!

لا بديل سوى طاولة حوار مفتوحة واتفاق الإعلان الوطني برنامجا للحل

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

 

تظاهرات الاحتجاج الشعبية تتسع، وهي تتمسك بمطالبها الوطنية بصورة أوضح وأنضج. إذ يجري التخلص، ولو تدريجا، من الاختراقات السلبية لتلك الأنشطة المشروعة دستوريا في التعبير عن الإرادة والحقوق. بالمقابل يتعمق الشرخ مع حكومة السيد المالكي الذي يصرّ على التعامل (الأمني=القمعي) من جهة وعلى رفض كفالة الحريات عبر محاصرة الضواحي والأحياء الفقيرة ببغداد والمحافظات ومنعها من المشاركة في التعبير الشعبي عن الحقوق المصادرة من حكومته...

فيما تعمد جهات رسمية للحكومة الاتحادية ببغداد ولعدد من الحكومات المحلية الدائرة بفلك السيد المالكي، إلى  تنظيم (مسيرات تأييد)؛ أشارت الوقائع والأدلة فيها إلى استغلال المال السياسي وصيغ الرّشى وجزرة النفعية المؤقتة، فضلا عن الأوامر الفوقية القسرية، الموجهة إلى الدوائر الحكومية الرسمية، بإلزام الموظفين والطلبة بمسيرات التأييد تلك، على الطريقة التي كان النظام السابق يمارسها في تنظيم المسيرات بالإكراه في استغلال مفضوح للقمة العيش ومصدر الرزق حيث الوظيفة  وحيث وسائل الإجبار والقسر والإكراه على تلبية تلك الرغبات أو فقدان الوظيفة مصدر الرزق والعيش المأزوم فعليا!!؟

وفي  اعتقادي أن من حق السيد المالكي ومن يؤيده من أعضاء حزبه أن يتظاهر.. ولكن ما ليس من حقه هو أن يكرر آليات النظام السابق بخاصة في إكراه موظفي الدولة الحكوميين على الخروج قسرا في مسيرات التأييد! فهذه مخالفة دستورية قانونية مكشوفة وفيها من المخاطر ما يشير إلى الاستيلاء على مؤسسات الدولة وتجييرها بأدلجتها من جهة لاتجاه بعينه بالمخالفة مع منطق التعددية واحترام التنوع والتداولية مع تعطيل سافر لكل آليات الديموقراطية!

وتلك المسيرات لا تجد لها سببا موضوعيا مع أنها شكليا مشروعة قانونيا كما أسلفنا، طبعا عندما تخص حصرا طرفا حزبيا وحقه في ممارسة التعبير عن رؤيته، وليس عندما تساق فيه جموع بالقسر والإكراه في استغلال لحاجتها لمصدر رزقها. نؤكد أن تلك (المسيرات) هي جوهريا بلا سبب موضوعي ومن ثمّ فهي تسخرمن وعي الناس.. فقوى في حزب [الدعوة جناح المالكي] ورئيسه يتحكمان بمؤسسات الدولة ويحصران الصلاحيات بين يدي مسؤول سيادي خارج إطار العمل المؤسسي! فماذا يراد من تلك المسيرات سوى تبييض صفحة يراها الشعب، في أرض الواقع، تتعارض ومصالحه وما اختاره من نظام وآليات عمل.

ولنبرهن خطل تلك المسيرات المصطنعة وما تثيره من مراكمة الاحتقانات، نلاحظ توجيهها برفع شعارات ترفض إلغاء المادة 4 إرهاب وقانون المساءلة والعادلة.. وهو توجيه يريد القول: إنّ القوى الشعبية التي تتظاهر، هي حصرا قوى بعثفاشية إرهابية وأنّ مطالبها ليست سوى إطلاق سراح الإرهابيين!!

فيما نلاحظ أن مطالب قوى الاحتجاج من السعة والشمول بما لا يقف عند هذا التشويه والتضليل. وقد اعترف بها حتى السيد المالكي نفسه عبر ما ورد ببعض تصريحاته وببعض قراراته في الحكومة الاتحادية.. و[خارج تلك التشويهات] فإنّ المطلب الشعبي بشأن المادة أربعة إرهاب لا يراد فيه إلغاء ما يطارد الإرهاب وقواه ويوقفه عند حده، ولكنه مطلب يريد تعديلات تضمن منع الاعتداء على الحقوق والحريات بالاعتقالات العشوائية الكيفية وبما يجري في السجون من ابتزاز واستغلال واستلاب لآدمية المواطن ومن اغتصابات بكل أشكالها الهمجية المعادية لإنسانية العراقي وكرامته.

إن الحق في تفعيل القضاء وعدالته وفي منحه فرص العمل السليمة، أمر يعد واجبا دستوريا ولا يمكن القبول بالتضليل الذي يمارسه أتباع السيد المالكي، بدرايته وموافقته وربما بأوامره.. فالقضية ليست في وقف مطاردة الإرهاب بل الشعب يطالب بالحزم تجاه فعاليات الإرهاب التي تطيح بالمواطنين من بين بناته وأبنائه ولكن ليس شكليا حيث المادة 4 إرهاب أداة مستغلة بصيغة أفضت إلى ممارسات إرهاب دولة ضد الشعب. وهنا مكمن القضية. وعلى ((مسيرات)) الضحك على الذقون أن تستحي من لعبتها التشويهية التي تحاول التذاكي على العراقي بتصوير نفسها مدافعة عن الضبط والربط والآخرين يدافعون عن الانفلات والإرهاب وهو ما لا علاقة له بالصواب قطعا..

وصحيح الأمور، أنَّ التظاهرات الاحتجاجية صرخت وتصرخ بندائها عاليا كفى لكل أشكال الإرهاب وأوقفوا الإرهاب الدموي الجاري بحق الشعب من كل مصادره وأسبابه. لكنَّ وقف الإرهاب الدموي وتفجيراته واغتيالاته لا يأتي من ممارسات شكلية تدعي [كما أوردنا للتو] مطاردة قوى الإرهاب ومعالجته ولا تأتي من ممارسة الاعتقالات العشوائية والمداهمات الليلية للبيوت الآمنة بلا أوامر قضائية؛ بل تأتي من خطط موضوعية علمية وبقوانين تحترم حقوق المواطنة والمواطن وتطمئنه على حياته وتحفظ كرامته..

أما موضوع المساءلة والعدالة فهو القانون الذي تمّ حتى الآن تطبيقه انتقائيا. وفيما تمتلئ حاشية السيد (القائد) العام بالمشمولين في استثناء مقصود.. يجري ابتزاز المواطنين وبعض منتسبي الكتل الأخرى بوساطة هذا القانون. إذن فوجود هذا القانون بحاجة لصيغ مناسبة في تنفيذه من جهة بما لا يوقع ضيما أو حيفا على العراقيين وقواهم المشاركة في الحياة السياسية وبما يشرعن آليات تضمن قطع طريق الإعاقة والتخريب وتمنح فرصا سليمة  لمسيرة التسامح والمصالحة الحقة بين أطراف العمل السياسي الذي يبني الوطن ويخدم الناس جميعا...

 

إنّ الاستمرار بلعبة ((المسيرات)) المصطنعة الموجهة فوقيا أمريا وتحديدا تلك التي تنطلق رسميا من دوائر الحكومة وتأتمر بخطاب طرف بعينه على حساب تشويه الأطراف الأخرى، سيكون له مخاطر جمة لا تقف عند حدود فرض الخطاب الطائفي وآليات الاشتغال القمعية بالتحالف مع الفساد والإرهاب في الواقع العام وتفاصيله حسب بل ستمضي تلك المخاطر باتجاه مزيد من التفكيك والتقسيم والتشظي وباختلاق صراعات بمستويات جديدة في قعر الهاوية التي أوصلت تلك السياسة البلاد والعباد إليها...

وعليه فلابد لمن يريد التفاعل مع المعالجات الوطنية السليمة، أن يساهم في الخروج من الأزمة المستفحلة التي وضع الجميع في خانقها الذي يزداد ضيقا وربما انسدادا ما سيؤول إلى الانفجار في ظروف الغليان الجارية وهو ما سيأتي على الجميع ويحرق الأخضر بسعر اليابس.

والمساهمة المنتظرة تبدأ أولا من وقف تلك الممارسات التي تجيِّر الدولة ومؤسساتها لجهة حكم أوتوقراطي فردي تسلطي.. ثم الانتقال للمؤتمر الوطني الذي  يضم جميع الأطراف بلا استثناءات وتحديدا هنا قوتين مهمتين هما التيار الديموقراطي العراقي ولجان ولدت في رحم الاحتجاجات من تلك المؤمنة بعراق ديموقراطي فديرالي..

وسيكون على هذا المؤتمر الوطني المرور بمراحل ومستويات تخص انتخاب إدارته ووضع ورقة الإعلان الوطني ومحاوره العامة للإصلاح ولتطهير العملية السياسية وتشريع القوانين التي تضمن استكمال العمل المؤسسي الديموقراطي. ومنها قانون الانتخابات وقانون الأحزاب وقانون المجلس الاتحادي واستكمال الهيأة التشريعية وضمان استقلال كل من القضاء والمؤسسات المعروفة  وتركيبها بأسس وطنية سليمة.

إنّ الظرف الحالي ونتيجة لتراكمات ممارسات طرف حاول الاستئثار بالسلطة تدعو إلى أن يكون اللقاء في خيمة أربيل عاصمة للإصلاح السياسي الشامل ولإطلاق الإعلان الوطني متضمنا كل الاتفاقات التي  تمت وبمواءمة تنسجم مع الدستور ومسيرة إصلاح قانوني سياسي محددا بأسقف زمنية يجري الاتفاق عليها.

وبخلافه فإن ما يجري وسيجري لن يكون سوى في خانة من أضاع السنوات العشر الماضية بممارسات سلبية وتراكماتها وبتجيير لمصلحته الفردية والفئوية والحزبية الأمر الذي يعني مزيدا من انسداد لعنق الزجاجة العراقية..

يجب اليوم قبل الغد، أن نتجه إلى موقف مبدئي يؤازر الحركة الشعبية وتظاهرات الاحتجاج وتحويلها إلى سبب للاصطفاف الوطني العام الشامل مع حركة سلمية للتطور والتقدم ولإعادة إعمار الذات ومحدداته وطنيا وإحياء مشروعات التحديث والتنمية وتطمين الحقوق والحريات..

لايمكن لطرف أن يواصل الادعاء أنه هو المعبر الوحيد والممثل الوحيد حصرا للشعب .. في الظرف الذي نحياه الذي بتنا فيه قاب قوسين أو أدنى من استكمال التقسيم والتشظي ليس في دول تلبي مطالب شعوب بل دويلات طوائف تقوم على نظام الكانتونات والوقوع أسرى بلطجية يتحكمون بالإنسان وجودا وثروات ولا يملك أحد فرصة الانعتاق بل فرصته الوحيدة هي الخنوع لنير الاستعباد في تلك الكانتونات!!!

وليس من عراقي يقبل بهذا الاتجاه.. ولذا ينبغي لوعي المواطنة والمواطن العراقيين أن يسبق بقراره قرار تحالف (الطائفية الفساد الإرهاب) في شرذمة الأوضاع  لمزيد من إحكام القبضة الطغموية التي نتجه إليها اليوم في بغداد ومحافظات أخرى. والسبق هنا يكمن في الركوز بالتظاهرات وطنيا وعدم القبول بكل ما له صلة بالطائفي والمعادي لمصالح الشعب وبالتوجه نحو نداء ينطلق من كوردستان لمؤتمر وطني شامل يعد لمرحلة نوعية جديدة تعنى ببناء البلاد ديموقراطيا فديراليا  وتستجيب لكل مطالب الشعب وحقوقه من دون ادعاءات ومزاعم لا تشكل سوى تأزيما آخر وانحدارا أقسى وأسوأ كارثية..

فهل نعي الدرس؟