القضية العراقية بين قبول بترقيعات تديم أمد الأزمة وتوجه لتغيير نوعي يستجيب لصوت الشعب الهادر

تحية لمتظاهري ميادين الكرامة وحرية الوطن والناس

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

قبل عشر سنوات حُسِمت القضية العراقية بمعركة بين طغيان الحكم الفردي والقوات الدولية، سقط فيها نظام الاتوقراطية الفاشي واستبداده المطلق. واختار الشعبُ طريقا لنضال سلمي في بناء عمليته السياسية؛ ولكن المسيرة اكتنفتها اختناقات واستغلاقات حد الانسداد فكانت السنوات العشر سنوات عجاف غطت أجواء البلاد بريح عواصف صرصر عاتية!

لتعود القضية العراقية اليوم بوصفها أزمة حكم لا أزمة مطالب تنتظر الترقيع وصدقات قطط الفساد الجدد. ولتعود القضية العراقية أزمة شاملة بعد أن استغلقت الأمور بين نظام انحرف بعيدا وجوهريا عن مطالب الناس وخياراتهم وما بقي من النظام الجديد سوى (قشمريات) ادعاءات جوفاء لا تغني مواطنا فقيرا من جوع. فخرج الشعب بمظاهراته ومطالبه الهادرة إلا أنه مرة أخرى لم يلاقِ سوى مماطللات وتسويفات لا تفضي إلا لمزيد من جرائم الفساد والإرهاب حليفا الطائفية السياسية التي استفحلت وتمكنت من كل مفاصل السلطة والحياة العامة. وكل ما يجري من ترقيعات هي جعجعة ولا طحن!!

 

إن القضية العراقية اليوم محاصرة بين مطرقة وسندان هما أداة واحدة للطائفية السياسية بلونيها الأسود والأخضر، اللونين اللذين يتعكزان على ادعاءات فارغة في تمثيل مظلومية شيعة أو سنة من المسلمين. والحقيقة أن  أبناء هذين المكونين كلاهما مازالا يعانيان شظف العيش وقسوته ومثلهما مثل أغلب مكونات الشعب العراقي في وقوعهما تحت نير أبشع أشكال الاستغلال بقوانين أربعة إرهاب والمساءلة والعدالة التي لا صانت عِرض سيدة بريئة من اغتصاب ولا رعت طفلا من مشاهد التعذيب في المعتقلات ولا حَمَت مواطنا من التبطل والتعطل ومن وضعه مشروعا أضحية مجانية لسادة الفساد و القتل وأشكال العسف والظلم؛ وبدل كل ذلك تم استغلال القوانين وتأويلات الدستور لمصلحة إدامة شكل جديد من سلطة خضعت لتحالف ثلاثي (الطائفية الفساد الإرهاب) وما أفرزته من عواقب إجرامية كررت ما كان يُستغل في النظم القديمة من منافذ يتسترون بها باسم الدستور المؤقت ومحاربة أعداء الوطن والشعب واليوم من منافذ البوابات ذاتها جوهرا وإن اختلفت شكلا حيث مزاعم حماية الوطن والناس من الإرهاب فلا جرائم التقتيل توقفت ولا آلة الفساد الجهنمية انتهت عن نهب ثروات الناس بل حيواتهم ذاتها كما بأعراضهم وكراماتهم ووجودهم!!!

ما كان بقي في اليد من حيلة، فخرج الشعب بمطالبه التي تدرجت، مراعاة لخطاب العملية السياسية. ولكن الأمور كررت محاولات اللعب والعبث وتحجيم المظاهرات بمختلف الأحابيل التي حيكت بخطاب سياسي معاد وشحن إعلامي رخيص لأبواق السلاطين عن المظلومية وتاريخها لكن الناس محطونة في لقمة عيشها وفي عيش بكرامة وأمان. إن مطالب الناس المغلوبة على أمرها تأتي من الاستجابة للحقوق والحريات وليس من رفع عقيرة  بشعارات المظلومية.

المظلوميةي حقا هي مطالب الناس في خبز وحرية ولن يملأ معدة طفل جائع كل سفسطة قصص المظلوميات.. إن الناس ليست بحاجة للقصص ولمن يحكي لهم عن آلامهم عبر التاريخ  ليؤملهم بنعيم جنان بعد الممات.. الناس تطالب بحقوقها في الحياة الحرة الكريمة وبالأمن والأمان والسلم الأهلي وبتطمين وجودهم الإنساني  وتلبية خيارهم في نظام حكم يريدون..

 

ومن هنا وفي ظل كل هذه الأباطيل التزويقية وأشكال الألاعيب المتحكمة بسلطة القرار،  فإنّ القضية العراقية ما عادت قضية مطالب تجسد الحقوق والحريات وهي حقيقة ولكنها باتت اليوم تتلخص بمطلب تغيير جوهري نوعي يستعيد فيه الشعب سمو سيادته الدستورية ويضع من يمثل خياره في إدارة البلاد ليطهر العملية السياسية التي فسدت بوسائل نضاله السلمي من تظاهرات واعتصامات  بعد أن قرر توديع كل معاني عسكرة المجتمع ووقف كل أشكال العنف التي استحكمت خلف متاريس السلطة عقودا من الزمن واستعادت أنشطتها في العقد الأخير وإن بصيغ أكثر همجية وبشاعة، حيث انحراف السلطة مجددا لتخضع لقوى الظلم من ثلاثي الطائفية الفساد الإرهاب.

أما بديل الوضع المأزوم  اليوم فليس غير التوجه للمؤتمر الوطني الذي تشترك فيه كل قوة ترى الخطأ الفادح الذي تم انتهاجه طوال السنين العشر العجاف، وتوقف أي تفاعل مع حلول الترقيع لتتجه مع خيار تطهير العملية السياسية برمتها؛ حيث إعلان نداء وطني ينبثق عن المؤتمر بخطوات وأسقف زمنية تبدأ بتشكيل حكومة انتقالية تعدّ لانتخابات حرة نزيهة بإشراف أممي.. وبهذا فقط يكون الحل حاسما ونهائيا.. ومن هنا فإنّ القوى الوطنية الديموقراطية مدعوة لوقوف حاشد فعلي حقيقي مع غضب الجماهير الشعبية وصوتها الهادر: ياعراق ياعراق صوتك عالي في الآفاق، يكفي حكم الطائفية فنحن بناة المدنية...

إنّ التردد من مشاركة الشعب ردود فعله وخياراته سيتعكس على  القوى المترددة وحجم وجودها وطبيعة علاقتها مع الشعب ومع جمهورها. وكل من يرى أن مقياسه ومعياره يكمن في العلاقة مع حكومة (الطائفية الفساد الإرهاب) يقرر بنفسه خياره بعيدا عن المعيار الأساس حيث السمو الدستوري للشعب فهو المعيار النهائي لمن يرسم علاقاته وبرامجه. والملتقى بكل قوة وطنية ديموقراطية تسعى للدولة المدنية الحديثة هناك مع غضب الشعب وصوته الأسمى والأعلى في ميادين تردد شعارات يستعيد فيها الشعب سمو سيادته الدستورية ويعيد وضع الأمور في نصابها وكفى عبثا بمقدرات الناس وحيواتهم في حاضرهم ومستقبلهم.

والميدان لا يستثني أحدا وهو الممر الأسلم لكل من يتمسك بحقوق الناس وحرياتها.. والميدان لا يستبعد أحدا سوى أعداء إرادته وخياره ومن يكرر محاولات تقسيمه طائفيا أو إخضاعه لقوى فساد أو إرهاب.. والميدان هو فضاء خيار السلام ومكمن قوة الشعب في ممارسته السلمية وفي توجيه مطالبه وفرضها بقوة السلام لا غيره..

فلا خشية على أنصار السلام وحملة ألوية السلام وسيعلو علم العراق الأبيض برافديه أزرقين عاليا... وقريبا يعود العراق قويا بأهله وبنظام يبنونه وطنيا ديموقراطيا فديراليا حيث قوة وحدته بغنى تنوعه وتعددية مكوناته .. فلا تترددوا وإلى الميادين مجددا، حتى يعود الحق وتبنى دولتكم المدنية بلا خروقات ولا ثغرات ولا استغلال ولا قمع ولا سلب ولا نهب.. دولتكم التي تعيد لكم الأمن والأمان، الكرامة والحرية، الصحة والتعليم، ورفاه العيش الكريم... وما ضاع حق وراءه مطالب، فلا يتوقعنّ أحد أن ظالما مستبدا فاسدا مجرما سيستجيب لحق أو مطلب مالم يخرج الحر دفاعا عن حرماته وحرياته..........

لقد ولَّى زمن من يحدد المشروع وغير المشروع ويمعن في استبداده سلطانا مطلقا..

لقد ولى زمن من يقف وصيا على الناس ويحدد ما يمكنهم المطالبة به وما لا يمكن..

لقد ولّى زمن الخطب الرنانة دفاعا عن الأمة والوطن حجة وذريعة لاقتطاع الخبز من أفواه الجياع..

لقد ولى زمن الأتاوات والضرائب على كواهل الفقراء فيما خزائن السراق الناهبين تمتلئ بكنوز الوطن والناس..

لقد ولى زمن الضحك على الذقون، بجزرة السلاطين والترويع بعصاهم.. فلا الجزرة تسد فم جائع ولا العصا ترهب حرا  أبيا.

 

لقد حل موعد غضبة العراقي لكرامته لعرضه لشرفه لحقوقه وحرياته وكفى عبثا ولعبا .. لقد عاد زمن الشبيبة تثور من أجل الفرح والمسرة وليس مشاغلتها بالبكائيات والمآسي والأحزان..

الماساة أن يحيا الإنسان عبدا ذليلا مستلب الإرادة مسروق الحقوق منهوب الحريات لا يملك من أمره سوى الانقياد والخنوع، تلك هي المأساة التي تصنع الحزن والناس بواقعها ليست بحاجة لاجترار مآس ومراكمة أخرى..

ها هي الشبيبة ترى بوضوح أنها ليست مطية شخصية أو حركة إن صوت كل مواطنة ومواطن ليس رخيصا ولا مجانيا يمنح مقابل جزرة أو خضوعا لعصا بل هو أثمن قيمة لا تباع  ولا تخضع

إن صوت المواطنة والمواطن هو تعبير عن وجودهما الحر في حياة كريمة

فلا تفريط بعد اليوم، لن يمنح الصوت إلا لخيار يؤمن بالكرامة ويلبي الحقوق ويضمن الحريات

 

وهذا الصوت هو ما سيرتفع  هادرا وسيكون أعلى من اصوات زعيق طبالي السلاطين  بل أعلى من أصوات السلاطين واسلحتهم المزمجرة بمجنزرات ومدرعات ومدافع وطائرات.. فصوت الحق يصل عنان السماء ويبقى أبدا هو الأعلى وهو المنتصر

 

وتحية لميادين الكرامة الهادرة وطنيا ضد الطائفية، كرامة ونزاهة ضد الفساد والمفسدين، وأمنا وسلاما ضد الإرهاب والإرهابيين.

وسنبني العراق دولة مدنية لكل العراقيين لكل أطيافهم ومكوناتهم أحرارا أسيادا يحيون بعراق الكرامة والخير والسلام واحترام مواطناته ومواطنيه بشرا بكامل الحقوق وبمادئ العدل والمساواة والإخاء.