سياسات صبيانية متهورة و حكومات بالجملة.. خطر داهم!!

الدكتور تيسير الآلوسي

                       

                          في لحظة تاريخية  تعمل فيها القوى الخيِّرة لإعادة تأهيل بلادنا, تتصاعد يوما فآخر وإنْ كان ذلك بشكل متستِّر بعباءات ملونة, أفعال تيارات متطرفة لتلعب دورها التخريبي الذي يحاول الإجهاز على ما تبقى من عراقنا بعد سنوات الهلاك والدمار التي ورثناها.. واليوم تجابهنا تلك التيارات المتحصِّنة مرة بشرعية اندفاعات العنف وأخرى بإلزام شعبنا أو فئات منه بمرجعيات سياسية أو فكرية أو دينية وفرضها على هذه الفئة أو تلك على أنَّها القراءة الوحيدة المشروعة بحجة أو أخرى .

                         ويظهر في الساحة العراقية راهنيا وضع خاص يفسح المجال لانطلاق حريات التعبير بعد كبت ومصادرة, ولفراغ  سياسي على مستوى العمل المؤسساتي للدولة والتنظيمات الحزبية والمهنية.. وهو ما يهيِّئ  الظروف المؤاتية لظهور أصوات كاثرة متناسلة متوالدة من الانشطارات والتشظيات المرَضية في أحيان بخاصة عندما تعبِّر عن قلة تجربة وضعف خبرة وخواء ذهن وسذاجة فكر.. وتلك من صفات الحركات الصبيانية التي تستند إلى اندفاعات شابة؛ أرضية احتجاجها أنَّها لم تمتلك بالأمس فرصة التعبير وأنَّ الأمس في تصور هؤلاء ينتمي لجيل يُعدّ فاشلا في سياسته في ضوء ما جلبته ظروف الأمس من مآسِ ِ وكوارث.

                         ورد الفعل هو التحدي بقواهم الذاتية المجردة والتصدي لإشكالات اليوم بتفرد ذهنية خالية الوفاض من سلاح المعرفة السياسية والفكرية المطلوبة. ونحن في الحقيقة في حاضرنا على فوهة بركان مشتعل لا مجال فيه للاختبارات والتجريب, حسب عبارة جربتم أنتم فدعونا نجرِّب نحن وافسحوا الطريق للطاقات الشابة. فإذا كان صحيحا اطلاق الحريات وفرص التعبير والعمل فإنَّ الأصح والأدق هو في تعاضد الرؤى والأفعال وتعاونها في اتصال بين تجربة الأمس ومناضليه وخبراتهم وحيوية اليوم وقواه الفاعلة وبغير هذه الصلة سندخل دوّامة إعصار يبيد الأخضر مع اليابس.

                           ولابد لشبيبتنا الناهضة التي شاركت في نضال الأمس من مواصلة التفاعل مع حركة التنوير الفكري والسياسي التي رافقت نضالها.. وألا تنعزل في ولاءات تستخدم وسائل غيبية ولاهوتية لتبعدها عن حقيقة مجريات وقائع الأمور في بلادنا, وذلك ليس إلا أداة  ومماحكة غير ذكية لتعمية الأمور وجذب شبيبتنا الواعية بعيدا عن مواضع  مسارات العمل النضالي المطلوب لتقع بين حالتين إما الصدمة بنتائج  أفعالها ومن ثمَّ الانعزال أو التورط في أفعال انتحارية اندفاعية متهورة  تحت تبريرية اتباع مرجعية دينية لم تقل بها أية مرجعية لا سابقا ولا حاليا.

                        فالمرجعية الدينية مشروطة وليس لطفل أو صبي وإنْ كان من السلالة أنْ يفرض قدسيته ومرجعيته ليتبعه شعب من العقلاء والحكماء والسادة والمرجعيات. وفي هذا الشأن لا ينبغي أنْ نتناسى دور العقل والحكمة والموضوعية ونقدِّم اندفاعات ومن ثمَّ تهور القرار بوضع غشاوة على أعيننا حين ننسى عقلاء القوم وشيوخهم من أولئك الذين خبروا الحياة وجرَّبوها وصار لرصيدهم الفكري ما ينبغي على أقل تقدير مناقشته إنْ لم يكن الالتزام به ولا دلالة لنسب صبي ليكون بتهوره  في تنصيب مرجعية فليدرسْ ويحترم قدسية ماكان عليه آباؤه من قدسية المعرفة وبعد ذلك فقط يمكنه التقدم إلى القوم ومرجعياتهم...

                            ونموذجنا هنا ما يصدر هذه الأيام مرة من هذا الطرف السياسي من مشاريع (بالأساس تشكيل حكومة بديلة) بشرعية تأتي من طرحه رفض الوجود الأمريكي لسانا ومرة من طرف مَنْ يدعي المرجعية فيجري التشويش على كثير من البسطاء ومن طيبي النيات ومخلصيها لقدسية المرجعية ومنها العربية, ليؤكد سلطة مقدسة لقراراته مشكِّلا هو الآخر حكومته. وهكذا فكأنَّ ما ينقص العراق والعراقيين هو مزيد من الحكومات (بحجة وحيدة لا غير: هي الشرعية سواء منها السياسية أم الدينية).. بينما الحقيقة الوحيدة التي يبتغيها العراقيون هي وضع مصيرهم  في الحياة بعيدا عن كوارث الموت والإبادة موضع العمل المباشر عبر تعزيز مؤسسات دولتهم وليس عبر تفتيتها وهي مازالت بحالتها الوليدة؛ وليقُلْ لشعبنا أصحاب الحكومات المتهورة والمتستِّرة كيف سيأكل الشعب بلا مؤسسات وكيف ستمضي حياته بغيرها؟!!

                              فإذا تجاوزنا على مسألة مصير شعبنا وحياته وناقشنا الشرعية الكاذبة المزيَّفة التي يدعونها فإنَّ تلك الشرعية لن يضفيها لا الرفض الكلامي في مؤتمراتهم للوجود الأمريكي ولا متفجرات لإرهاب أبناء شعبنا قبل الجنود الأمريكان. فمقاتلة الاحتلال ليس خطبة لا سياسية ولا دينية ولا تأتي شرعية من اغتيال الأساتذة وترويع الطالبات في أفكار هؤلاء  وفي ملبس أولئك! ولا يأتي الاستقلال من تفجير أنابيب مياه الشرب والفتك بالأطباء وتدمير المستشفيات! وكلّ أفعال التهور الأخرى  التي يراها أبناء شعبنا ويعانون ويئنون تحت مصائبها هي نتائج أولية لكوارث أعظم لدخول مثل هؤلاء بمشاريعهم على خط العمل والفعل ..

                             وليس لعاقل بعد هذا أنْ يحتجَّ بقول جاهل لمجرد ادعائه بالمرجعية فيتبعه في جرائمه.. ومن تلك الجرائم كلّ ما يُعلَن اليوم من تأسيس جيوش بأية مسميات ومن تأسيس حكومات بأية مسميات وادعاءات؛ إنَّ تلك الجرائم ليست أقلّ خطرا من جرائم التدمير الصدامية الهوجاء وهي ليست إلا استكمال لمسار التدمير السابق وإجهاز على كل محاولات العقل الوطني من أجل الخلاص من بؤس الأمس وأوصاب اليوم ومصاعب الغد.

                              والمطلوب اليوم هو فضح لهذه الجرائم ومحاصرة شعبية لها وعزل لمرتكبيها وإنهاء عاجل لآثارها الإجرامية بحق شعبنا ومصيره قبل أنْ تستفحل وتكون البعبع الذي يرافق مسيرتنا الجديدة الوليدة فيكون مرضنا الذي لا ننهض منه. ويكفي أبناءنا ما تُرِك لهم من معضلات ومصائب.

                            إنَّ شابا يدعي تشكيل قوة مسلحة لإخراج الأمريكان في لحظة ويتحدث عن العمل السلمي في لحظة يرى نفسه في مأزق ويدعي العودة لمرجعيات وبُعْد عن طموحات السلطة وتعفف عنها ويعود ليشكِّل حكومة دينية متطرفة  في بلاد ما فتئت تعمل للخروج من أزمات الأحادية والتطرف وفي موضع يشكل وزارة الأمر بالمعروف في وضع يكفِّر فيه شعبا بأكمله بكل مرجعياته وأئمته وفضلائه وعقلائه ليسلِّط سيف تكفيره وتهوره وتطرفه على رقاب كلّ هؤلاء, إنَّ شابا كهذا لم ينشأ  بلا أرضية سلبية  بل من ذاك الفراغ الذي يجب أنْ نسارع نحن أبناء الشعب العراقي ومنهم المثقفون والحكماء والسياسيون المتنورون وكلّ المرجعيات المعتدلة الشريفة الحريصة على مستقبل شعبنا ووحدة مكوناته, إلى وضع حد حاسم لمثل هكذا تخرصات وأفعال متهورة.

                             إنَّ سكوت أيّ طرف يعني مشاركته في جريمة شق الصف العراقي بين عربي وكردي وتركماني وكلدو آشوري وغيره, بين مسلم وغير مسلم مع سيف التكفير, وشيعي وسني ولا ندري إنْ تداخلت الأمور بما تروّج له أجهزة إعلام مأجورة بتدخلاتها السافرة في تحليل أوضاع بلادنا وصبِّها الزيت في النار بين عروبي مسلم وغيره وحين يختلط الحابل بالنابل وحين تقع الفأس بالرأس وتشتعل الحرب, أهلية أو غيرها, فلن نسطيع إطفاؤها قبل عمر آخر من الخراب والألم والفجيعة. حينها لن نتذكر مَنْ أشعلها وسنكون في أتونها لا نعرف إلا القتل قبل أنْ نُقتَل فليس للحرب غير وجه واحد إنَّها نار تأكل فقط وتخرِّب وتدمِّر..

                                       وما سينجم بعد ذلك أيضا هو إثارة ظلام ليس للعراق حسب بل للمنطقة ومن ثمَّ على الصعيد العالمي فلسنا بمساحة أفغانستان في تأثيرنا, إذ أنَّ العراق ظل طوال وجوده القديم والحديث منارا لحظة استقراره وظلمة حالكة لحظة انكساره وتدهوره. ولذا فسيكون من المهم جدا أنْ ينهض عراقيونا ومنهم الموجودون في الخارج لتعزيز العمل التنويري وإعلان الحرب الحقيقية على الإرهاب وأصحاب الظلمة والعتمة ومطفئي شعلة الحرية والسلام, وألا يتهاونوا في هذا الواجب لأنَّ المتسترين بشعارات الدين والولاء والمرجعية المقدسة وصلوا منتصف الطريق في أفعالهم الخطرة المتهورة. وسيكون من دواعي حساباتنا مع كلّ القوى الإقليمية والعربية والدولية موقفها من الصراع القائم من أجل حاضرنا ومستقبلنا في عراق مستقر يضم بين جوانحه كل مكوناته من غير إزدراء وتنافر وتقاتل واختلاف بل في لحمة وعيش بسلام ووحدة وطنية كما كان الأمر عبر تاريخنا ...

                                          أما مَنْ تقع عليه المهمة الأكبر فليس من أحد مسموح له التقاعس في راهن أيامنا  وإلا فسنكون كما يتداول العراقي المتبسِّط في حديثه بلا تعقيدات سنكون قشمريات عندما نترك لطيش السفهاء ورعونتهم السياسية أنْ يتحكم بمجريات الأمور أو أنْ يؤثِّروا سلبا في زمن لا مجال ولا مجال مرات أخرى حتى للتجريبية حسنة النية أنْ تذهب بنا إلى [درب الصد ما رد] ؛ وبعد ذلك يمكن أنْ نشير إلى أدوار لوزارة الثقافة ولكلِّ المثقفين ولجالياتنا ولكلّ مَنْ فيها ولمفردات تكويناتنا السياسية ولأطُر  تنظيماتنا الشعبية المختلفة.. ولا حاجة بعد ذلك للتواكل فكلّ له دوره في النضال والعمل...

 

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان    

                     2003\  10 \ 12 

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

Website :   www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates

 

 

   

 

 

 

 

1