التهديد بالحرب الأهلية الطائفية والمآرب المباشرة وغير المباشرة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

               توطئة:

احتدم الصراع السياسي بسبب الاخفاقات المهولة في برامج حكومة السيد المالكي وما آلت إليه الأوضاع من أحوال كارثية مزرية طاولت أبعد أوساط المجتمع العراقي وهمَّشت فئات عريضة فيه فضلا عن تقسيمها المجتمع على وفق منطق طائفي مريض. وكان أن تحركت القوى الشعبية بفئاتها المتنوعة بانتفاضة 25 شباط 2011 التي تمّ مساومتها بطلب الوعود الكاذبة وبمحاولة شراء الذمم والتهديد والوعيد وبالاغتيالات والاعتقالات وغيرها من آليات مفضوحة. واضطر الشعب للانطلاق بتظاهرات عارمة في مختلف القطاعات ولكنها حوربت بآليات قاسية بشعة فالتجأ الشعب في حركته الاحتجاجية السلمية الجديدة وبعصيانه المدني إلى حيث الفرصة المتاحة له لتنظيم حركته بطريقة أنسب وأبعد عن المواجهات التي يريد السيد المالكي أن يجرّ الحركة الاحتجاجية إليها أي إلى  العنف كيما يدفع بحلوله القمعية مستغلا آليات عسكرة المجتمع والدولة وفلسفتها المعادية للحريات والحقوق المدنية، التي باتت اليوم أكثر إسفارا عن وجهها الحقيقي ومخاطرها...!

 

 

المعالجة:

إنّ تلك السياسة واضحة بعمقها أو بخلفيتها الطائفية السياسية وكيف تُدار ممارساتها. لكن الجديد في الأمر هو ولوج السيد المالكي بنفسه وبكل ثقله في المعارك التي نجمت عن سياسته وبرامجه، بعد أن كان ترك لمعاونيه ومستشاريه تلك المهمة في بث خطابه الإعلامي ومضامينه السياسية. وهذا يعني أن الأزمة وصلت حدا متفجرا وأنه بات في زاوية ضيقة فرضها الحراك الشعبي بعمقه الوطني المتمسك بمهام بناء الدولة المدنية ورفض العسكرة والعنف. غير أن المالكي، بدل تحمله المسؤولية واتخاذ القرار بالاستجابة لمطالب الحراك والتغيير، دفع بثقله المباشر وبمركزية أقسى و أشد  ليواجه حسب ظنه بهذه السياسة البعد الوطني من جهة وليمنع تحول الاحتجاج لمشاركة وطنية أوسع، وهكذا جاءت حركة السيد المالكي الجديدة طعنة أخرى في محاولات الحل الوطني وهي حركة يتوهم المالكي أنها ستضرب عشرة عصافير بحجر واحدة!!!

إنّ بعض عصافير رميته، تتمثل في استباق الحملة الانتخابية  لما هو أبعد من مجالس المحافظات وتوفير أنصار له فيها. ومواجهة خصومه  سواء  الموجود منهم في العملية السياسية والعمل الحكومي أم في ميادين الاحتجاج الشعبي هذا إلى جانب محاولته تعطيل أية نتائج لمؤتمر وطني قد ينعقد ويتخذ قراراته الموضوعية بخلاف إرادة المالكي وتطلعاته.

ومن بين أبرز مفردات خطاب السيد المالكي الأخيرة، ما أطلقه في محافظتين اختارهما بعناية وتعمّد ليهدد ببعبع الحرب الأهلية القائمة على الانقسام الطائفي من جهة وعلى تداعيات الأزمة السورية. فهو من جهة يحاول وصم الاحتجاجات التي تفضح خطل برامجه وسياساته بكونها حركة (سنيّة) معادية لحكم (الشيعة) ومن جهة أخرى يصوّر انتصار المعارضة السورية انتصارا لـ (السنّة) على (الشيعة) ومن ثمَّ يحاول الإيهام بأنه انتصار يمثل عمقا لوجيستيا لسنّة العراق على حساب شيعته في الحرب البعبع المتوهمة التي يريد استغلال اختلاقها!

ومن الاحتمالات الواردة بهذا التصوير الذي يطلقه، أن يحقق إرعاب (بعض) المواطنين العراقيين من أتباع التقسيم الطائفي الناجم عن التخلف والجهل وعن الملاحظة السطحية للوقائع الجارية وعن تعطل تفسير معانيها وأسبابها الحقيقية. وهذا ما يوفر أجواء مناسبة لوجود أتباع يعيشون هاجس هلع الحرب الطائفية أو الخشية من عمليات انتقامية من طرف طائفي نقيض يقع على الضفة الأخرى. وطبعا يجب الإقرار هنا بأن قوى الطائفية السياسية تجد مبررات شرعنتها وآليات ممارساتها  وسهولة تمرير مأربها في  تمترسها خلف وجود مضلل بادعاء تمثيل طرف سياسي لأتباع هذه الطائفة فيما بدعي طرف سياسي آخر تمثيله لأتباع طائفة أخرى وكلا القوتين السياسيتين تجسدان خطابا واحدا لا يمتلك صلة مع مصلحة أيّ من أتباع الطائفتين، لكنهما يعتاشان على استغلال الطرفين ونهب، لا ثرواتهما، بل أرواح أبنائهما ويشرعنان لوجودهما باختلاق الاحتراب وإشعال الحرائق والإشارة الجلية هنا إلى الطائفي السياسي سواء ادعى سنيَّته أم شيعيته، وسواء أسفر عن الادعاء أم تغطى بخطاب شكلي في ألفاظ الوطنية ولكنه المبطن بكل ما هو طائفي.

إنّ المواطنين العراقيين يتمسكون بهويتهم الوطنية ووجودهم الإنساني ويدركون خطل الانقسام الطائفي ومخاطره؛ ولكن قسما منهم يقعون أسرى الخلط وتشويشه وتضليله؛ كما يبقى (بعضهم) الآخر رهينة لبلطجة التهديد وعوامل الإرعاب واختلاق بعبع العنف الطائفي.. الأمر الذي يتبعه استغلال هذه الخلخلة وأجوائها التضليلية حيث يطرح الزعيم الطائفي نفسه المنقذ والمدافع عن مصالح هذه المجموعة المضللة!؟

وهذه لعبة (انتخابية) بامتياز؛ ولكنها اللعبة التي لا تنظر قطعا إلى جريمة تقسيم المجتمع ووضع أطرافه في صراع واحتراب يستندان إلى اختلاق التناقض المزعوم؛ ولا يهمها أن تتسبب في الصراع الدموي إن جرت الحرب بين أخوة الوطن والدين وأخوة الوجود الإنساني الواحد.. فكل ما يهمها هو التمسك بالكرسي بكل السبل؛ والغاية عندهم تبرر الوسيلة.

إذن تكرار التهديد بالحرب الأهلية وبالصراع الطائفي وتعزيز علامات الاحتقان عبر إشاعة الرعب في الأحياء والمدن والمحافظات ومحاولات التطهير الطائفي فيها.. وعبر استغلال جرائم الإرهاب وتوزيعها بين طرفي التقسيم الطائفي لتأكيد ادعاءات خطاب الطائفية السياسية  بوجود الصراع فعليا.. فضلا عن غض الطرف عن تاسيس الميليشيات الطائفية الجديدة وربما دعمها من خلف الكواليس بصيغ مباشرة أو غير مباشرة؛ إنّ هذا بمجمله يستهدف الآتي من المآرب والغايات:

1.  فأولا يستهدف استمرار مراكمة الاستقطاب الطائفي وافتعال مزيد من الاحتقانات.

2.  ومن ثمَّ يروم تفكيك البلاد وتحويلها إلى كانتونات طائفية البنية والهوية.

3.  وثانيا يروم الإبقاء على أوسع فئات شعبية رهينة هذا الخطاب (الطائفي).

4.  وثالثا يريد حصاد نتائج أفعاله بالكسب الانتخابي غير محسوب العواقب.

5.  وبالتأكيد فإنّ إطلاق تلك التصريحات بخطابها الطائفي السياسي وممارساته يغازل سياسات دولية وإقليمية بعينها، لتوفير الدعم اللوجسيتي للبقاء في كرسي السلطة.

 

وبقراءة تلك الغايات نجد أن اللعبة ما كانت تمارس جرائمها محصورة في منطقة أو أخرى ولكنها كانت تؤمِّن وجودها بشمول البلاد بفلسفتها وآليات ممارساتها  القائمة على صراع مفتعل بين المناطق الماسورة بسطوة الطائفية السياسية والمرتهنة ببلطجتها. ولأنّ المواطنين احتفظوا بالجسور بين مناطقهم ورسَّخوا ثبات وشائج العلائق الوطنية بينهم فقد كان لخطاب الطائفية محاولة استقطاب جديد بالتهديد بنقل الجريمة عبر الحدود الوطنية والادعاء بأن انتصار ثورة شعب في بلاد هي بالحتم سطوة قوة طائفية على ذلك البلد؛ وهكذا تبني خطابات الطائفية السياسية في العراق استنتاجها على فتح تحالفات طائفية إقليميا وتوسيع ميادين الصراع بهذا الأساس بما يخدم بقاءها وتمترسها.

وبدل أن تدعو للوحدة الوطنية،  السبيل الذي خبرته الشعوب والدول في مواجهة أي تهديد خارجي محتمل إذا صحّ هذا التهديد، نراها تفتح  الحدود لافتعال عمق آخر لفلسفتها الطائفية ولما سينجم عنها من خراب وحروب.. وهي بالتأكيد بدل أن تفتح الحدود للاجئي الجارة الشقيقة سوريا، تتأكد فيه معاني الإخاء بين البلدين والشعبين، تفتحها، بدل ذلك لتنقلات المتطرفين من الإرهابيين بين البلدين، سواء بغض الطرف أم بالدعم المباشر، وسواء بالمقاتلين أم بالأسلحة في مزيد من صبّ الزيت في نيران الحرب الدائرة بين الشعب والسلطة الدموية في سوريا.

إننا ندرك وشعبنا بكل مكوناته أن ما يجري في سوريا هو ثورة شعبية بدأت سلمية وتم جرها قصدا وتعمدا نحو العسكرة والعنف والدم. فهذه هي اللغة الوحيدة التي يستطيع فيها نظام كالذي يحكم بسوريا أن يستمر ولو مؤقتا بمواجهة الثورة الشعبية. ولكن قوى تسيطر على السلطة في بعض بلدان الجوار السوري لم ترغب في انتصار حاسم وعاجل للثورة السورية؛ فدفعت بقواها من ميليشيات التطرف والإرهاب كيما تخترق الثورة وتكون البعبع الذي يهدد نهجها الوطني الديموقراطي ويكون تأسيسا للانقسامات الطائفية وربما تخريب أية فرصة لبناء الدولة المدنية!

هذه هي الحقيقة، فلا يمكن للشعب السوري إلا أن يحيا موحدا بمكوناته وبدولة مدنية دولة المواطنة والمساواة وهو ما جاء في بعض الالتزامات الدولية التي أشار إليها البيان الروسي الفرنسي الأخير. ولكن من لا يروق له هذا التوجه هو من يغذي بتصريحاته خطاب الانقسام والطائفية السياسية وهو لا يكتفي بالتصريح بل يستغل إمكاناته لمزيد من إشعال الحرائق التي ستعود عليه لاحقا بالمنفعة عبر إرباك المنطقة وسطوة خطاب الاحتراب الذي يشرعن الطائفية السياسية..

إن الردّ الشعبي اليوم يقتضي مواصلة التضامن مع الثورات الشعبية ومع نقاء مسيرتها الوطنية وتوجهها الديموقراطي وهدفها في بناء الدولة المدنية. كما يقتضي توحيد الجهود بين القوى الوطنية العراقية وبين مكونات الطيف العراقي عربا كوردا تركمانا كلدانا آشوريين ومسلمين سنة وشيعة ومسيحيين ومندائيين وأزيديين وكاكائيين.. وهو المنتظر في مؤتمر وطني لإطلاق النداء العراقي الجديد الذي يقف بوجه سياسة الطائفية ودجل زعماء تلك السياسة المرضية وخطل برامجها التي وضعت الشعب في هذه النكبات المأساوية والكارثية المزرية.

لقد برهنت الاحتجاجات الشعبية على هذا الاتجاه الوطني الرافض للطائفية والبديل النوعي الأنضج والأسلم عنها. ونهض المساهمون بتلك الاحتجاجات بالمتاح وضيَّقوا على الطائفية السياسية ومن مثلها دائرة المناورة والتمويه وقلَّصوا من إمكانات التضليل وقطعوا الطريق على أية فرصة لطلب مهل أخرى بوعود ثبت زيفها ووهم إمكانات تلبيتها  فعليا من جهة زعامة تيار الطائفية السياسية.

لكن المنتظر أيضا يكمن في القوى الوطنية المشاركة في العملية السياسية كيما تدرك ما ينتظرها من واجبات في عقد مؤتمر يقطع الطريق قانونيا رسميا على محاولة فرض النهج الطائفي والتسلل عبره لفرض أحادية السلطة والتدرج نحو منزلق استبداد جديد. وهو ما يتوقع من مهام جدية في مؤتمر أربيل الثاني الذي ينبغي له أن يتمسك بشرط الإلزام في الاتفاق الوطني واحترام معالجاته والتوجه لتطبيقها بأسقف زمنية محددة وإلا فإنّ اللعبة ماضية لتنفيذ خروج من باب وعودة (آمنة) من الشباك بما يعزز تحكمها هذه المرة بمواقع جديدة وربما شروعها بمعركة أخطر واكثر تعقيدا وأوسع عواقب وأشمل ابتلاءات.