ناقوس الخطر من جرائم إبادة جماعية أخرى تقرعه اليوم الأنفال على طاولة مؤتمر للضمير الأممي؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

تطلق جموع المؤنفلات والمؤنفلين في مثل هذا اليوم من كل عام صرخات موجعة بوجه الضمير الإنساني المحلي والإقليمي والدولي. وعلى الرغم من سعة الجريمة وعمق الجراحات الفاغرة التي خلَّفتها إلا أنّ وجعها المتصل المستمر يأتي من حال الإهمال التي عانت منها  قضية  كارثية مهولة كجريمة الأنفال بحجم ما اُرْتُكِب في إطارها من فظائع وأعمال وحشية بحق الشعب الكوردي!

لقد وقعت تلك الجرائم في ظروف شهدت صمتا شاملا، وتمريرا  مباشرا و\أو غير مباشر لوقائعها الدموية الهمجية البشعة. ونظرا لطغيان نظام الحكم واستبداده ووطأة سطوته فقد مورست تلك الجرائم في ظرف من شلل فعلي أمام غول الآلة الجهنمية والأسلحة التي اُستُخدمت والوسائل التي مورست..

وإذا كانت تلك الأيام قد ولّت  بانتصار إرادة الشعب الكوردي وثورته وبتحقق عديد من المعالجات، فإنّ قضايا جوهرية تبقى على طاولة الأمم والدول في وقتنا الراهن. إنّ إقرار جرائم الأنفال كونها جرائم إبادة جماعية جينوسايد (Genocide) نظيرة لهولوكست العصر، لا يجب أن تقف مقصورة على الوقائع الفعلية ومن عاشها من ضحايا الجريمة حسب بل ينبغي أن تتحول من الإقرار الرسمي الكوردستاني والعراقي القضائي والبرلماني إلى واجب العمل الأوسع والأشمل محليا إقليميا دوليا..

إن الذاكرة الأممية ينبغي أن تحتفظ بهذا العنوان من عناوين الآلة الجهنمية وجرائم الإبادة الشاملة، كي تتحسب لظروف وقوعها  وأسبابها وتنهض بمسؤوليات المعالجة من جهة وتضع محاذير منع وقوعها مجددا سواء بحق الشعب الكوردي أم أي شعب آخر.

ولن يمكننا تجنب وقوع مثل تلك الجرائم الوحشية المهولة ما لم يتم توثيق دولي بمستوييه الرسمي والشعبي الأممي للجريمة كونها هولوكست آخر مما وقع في عصرنا.

كما أننا ينبغي أن نقرّ بأن معالجة آثار الجريمة حتى اليوم لم تنتهِ إلى إزالة آثارها كليا وما زالت المؤنفلات والمؤنفلون بأنين الجراحات في كثير من المواضع على الرغم من المعالجات النسبية التي حاولت تلبيتها حكومة كوردستان بمحدودية ما بين يديها من أدوات؛ بخاصة هنا أمام لعبة شد الحبل في موضوع الموازنات المالية الاتحادية والمواقف الرسمية لبعض القوى  وزعاماتها..!

إنّ استراتيجية منتظرة تستند إلى دراسات علمية موضوعية وسياسات عميقة الغور كبيرة الفعل مؤملة من جانب حكومة كوردستان ووجودها شريكا في الفديرالية العراقية؛ أي بفرض تلك الاستراتيجية بمستواها العراقي والتحول إلى جهود فعلية تطبيقية تتجسد في أنشطة السفارات (العراقية الاتحادية) دوليا وفي نقل القضية ووضعها على طاولة المؤتمرات الأممية للمنظمة الدولية وللجهات المعنية كالمحكمة الجنائية الدولية ونقل ما صدر وسيصدر إلى واقع الفعل الإيجابي الذي يمكنه المساعدة المباشرة على محو آثار جرائم الأنفال.

وقبل أن نغلق دور الحكومة الاتحادية نذكِّر بأن ما تم وضعه في الإطار الوطني العراقي من خطط وإجراءات رسمية وشعبية مازال فقيرا وبعيدا عن حجم الجريمة الأمر الذي فتح الباب لكثير من الأصوات المتشنجة المتطرفة للظهور مجددا؛ ولكثير من الإجراءات المخالِفة للدستور والقانون بخاصة منها حالات إطلاق التهديدات وتشكيل قيادات قوات ميدانية يمكن أن تجر لصدامات لها أول ولكنها تبقى مجهولة النهايات!

ومثلما شلّ نظام الاستبداد الصوت الشعبي الوطني بعمقه الإنساني وغيَّبه عن التصدي للجرائم يمكن لحال سياسة الانفراد بالسلطة الاتحادية وللممارسات المخالفة للدستور وعسكرة المجتمع والدولة وتجييش الميليشيات الحزبية، يمكن أن يكون هذا مقدمة لصدام دموي بشع إن لم نقل لجرائم إبادة أخرى..

ومن هنا علينا التذكير دوما بالجريمة كونها ناقوس الخطر الذي ما ينبغي تكرار مثيل له.. وناقوس الخطر يلزمه الإشارة الصريحة الواضحة إلى جرائم حلبجة وإلى ما وقع بحق الكورد الفيلية والبارزانيين كونها جرائم تدخل مباشرة في نسيج تلك الجرائم (أي جرائم الأنفال) بوصفها  جرائم إبادة شاملة جينوسايد. ولست بصدد إعادة ذكر التفاصيل في هذه الإلمامة ولكنني بصدد القول: إنّ أنين الضحايا مازال يطلق سمفونية إنسانية تتعالى فيها الصرخات كلما تقدم الزمن بنا بلا معالجة تحسم نهائيا القضية وتضعها في نصابها  بما يرتقي لمستوى المعالجة الحسم الشاملة بدرجة  هول الجرائم التي حلت بأخواتنا وأخوتنا من الأشقاء الكورد.

إن الاستذكار لتلك الجرائم لا يأتي من بيانات تظهر عابرة في المناسبات.. ولا يأتي من مشاركة خجولة متواضعة في مؤتمر أو آخر مثلما يحصل من بعض القوى غير الكوردية والإشارة هنا إلى العربية العراقية منها بوجه الخصوص؛ ولكن الاستذكار يعني ممارسات فعلية ميدانيا ولابد من ميزانيات مخصوصة على مستوى عراقي ومن مشاركات إقليمية ودولية بخاصة من المنظمات الدولية المعنية الكبرى كي تساعد على توحيد الدراسات والبحوث لرسم الاستراتيجية ليس بمستواها التخطيطي النظري بل بمستوياتها الأدائية الإجرائية الفعلية هنا بميدان الجريمة وهناك حيث ينبغي أن يصل الصوت عاليا منذرا من أسباب تُوْقِع الشعوب في كوارث تلك الجريمة.

إنَّ التنبيه على رفض الطغيان والاستبداد وعلى واجب التحولات الديموقراطية وبناء الدولة المدنية واحترام حق الشعوب بتقرير مصيرها وتقديس الحقوق والحريات، هي أول الدروس المستمدة التي تمنح الشعوب فرصتها في الوقوف بوجه الجرائم المثيلة.

غير أننا مازلنا نرى انحرافا في مسار (قوى) تتحكم بالحكومة الاتحادية في بغداد وتتقاطع مع حق التعبير ومع الحريات ما يدعو للقلق الجدي المسوَّغ من احتمالات تتطلب ضمانات وحصانة ضدها بما لا يقف بحدود الأقوال والبيانات التي تتلاعب بالألفاظ والتي لا ترقى لمستوى إجراء فعلي مقنع.

إنَّ جريمة الأنفال لم "تقف عند حدود القتل والتصفية والإخفاء وما يُدعى جرائم الإبادة الجماعية ولكنها فوق ذلك تضمنت لمن لم تطاولهم جريمة الإبادة أيضا جرائم ضد الإنسانية من جهة الحجز التعسفي وتحقير السكان والتمييز العنصري وما ظهر في ضوء تلك الجريمة من إرهاب وما يثيره من قلق وخوف وخلق الرقيب الداخلي وانقطاع عن العمل الجمعي لانعدام الثقة..." وتحديدا هنا بالبحث فيما يخلقه القلق من جرائم الاعتداء النفسي ومن ثمّ من استعادة لرهاب الجرائم إياها فتكون المحصلة حاجتنا  إلى معالجات جدية تزيل استمرار تلك الجريمة البشعة.. ومن الطبيعي بالخصوص أن نذكّر هنا باتفاقية ضد التعذيب الدولية التي تعالج الأمر من جهة وتوصّف الجريمة بدقة وموضوعية من جهة أخرى الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه بجدية لا تنتظر تسويفا لأننا أمام مشهد جريمة مستمرة سواء بوعي وإدراك وتقصّد أم بغيرهما!

إنّ ظواهر التأثير السلبي الخطيرة مستمرة أيضا من باب آخر يتمثل في إغفال عواقب الجريمة التي منها العواقب الأخلاقية التربوية  وما تركته من آثار نفسية والعواقب القانونية الدستورية التي لا تنتهي بالتقادم الزمني والعواقب السياسية، فالعواقب الإنسانية حيث الضحايا بلا تعويض ولا ترميم ومعالجة للجراحات العميقة!  أما العواقب القومية  وما يتصل بعلاقات الشعوب والأمم فهي قضية ينبغي التفكر والتدبر تجاهها لمخاطرها على مستقبل السلم والأمن الدوليين ليس بحدود إقليمية بل بمديات أبعد.

إن هذه الأوضاع هي التي تلزمنا بالتوجه إلى اعتماد الاستراتيجية الكوردستانية والعراقية ضمانة لسلسلة من الإجراءات التالية المنتظرة. ثم الاستناد لفتح كرسي الدراسات الخاصة بجرائم الأنفال في أقسام التخصص الجامعية [يمكن النظر في برامج جامعة ابن رشد في هولندا نموذجا] ومراكز بحثية علمية تعالج ميدانيا الأمور وتتبنى التوصيات المؤملة للانتقال نحو آفاق دولية ومفاعلتها مع الرأي الأممي ودوره في القضية.

ولعل وجود مؤتمرات سنوية ببرامج بحثية علمية، تتوج ورشات العمل الدراسية لمؤتمرات تخصصية في مجالات علوم النفس والاجتماع والقانون والسياسة وغيرها هي  المفردة الأنضج  لجهودنا.

ويبقى الآن واجب تحية مخصوصة تجاه مؤتمر دولي ينعقد هذه الأيام  في رحاب المدن الكوردستانية  بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين للجريمة. ولكن تحيتنا تصر على أنها مقرونة بالخروج بتوصيات تتناسب وقراءة ربع قرن مرّ على الجريمة وضحاياها مازالوا يئنون من أوجاع جراحاتهم الغائرة عميقا في الجسد الكوردستاني.

ولعلنا هنا بحاجة لا لسماع الصرخات المدوية التي تهز الضمير بل للتفاعل مع أسبابها فعليا .. أي بالاستجابة لمطالب إنسانية تزيل آثار الجريمة وتبني بديلا نوعيا جديدا ونظاما يمكنه منع تكرار الجريمة من جهة وضمان الاستقرار والسلام وإشادة آلاف القرى والمدن بمستوى يتلاءم وأنسنة الحياة والبيئة المخربة بمختلف أسلحة الدمار الشامل.. كما تُبنى النفس البشرية بأسس الأنسنة السليمة القائمة على أجواء حقيقية للسلام والتقدم والبناء..

ونحن نتطلع ونعمل معا وسويا من أجل صوت عربي نصير للقضية الكوردية وللشعب في مختلف أقسام كوردستان المتطلعة لاستكمال انعتاقها مما يتهددها من مخاطر كما تشير نواقيس جرائم الأنفال من تنبيه ساطع نجمه... إننا نلتقي اليوم على طاولة مؤتمر دولي يحمل كبير الأهمية في صحوة الضمير الأممي ووحدة الصوت الدولي ووضوحه في إدانة الجريمة وبالتأكيد عبر الإقرار بكونها جرائم إبادة جماعية جينوسايد تضمنت مركبا من جرائم أخرى ضد الإنسانية وأشكال جرائم بشعة شخصتها القوانين الأممية المرعية..

ودعونا هنا بهذه المناسبة نؤكد تلاحمنا وتضامننا مع شعب كوردستان في مطالبه وفي المساهمة فعليا إجرائيا بمسيرة إزالة آثار الجريمة مع انحناءات إجلال لضحايا الجرائم التي اُرتُكِبت في لحظة مظلمة مدلهمة الخطوب بمصادرة صوت الأمة والشعب ومكوناته ومحاولة طمس ما جرى ولكننا اليوم نعلنها بقوة أوضح وأنضج وأكثر دقة وسلامة أن تضامننا ليس نصرة لفظية وحضور مناسبة عابر بل عمل فيه مواصلة واستمرار وسيبقى كذلك حتى زوال آخر ثلمة في شروخ العلاقات الكوردية مع الشعوب المحيطة وحتى زوال آخر أسباب تكرار أصوات النشاز التي تطلق بين الفينة والأخرى ما يعكر صفو العلاقات المتينة وحتى زوال آخر ما يسبب أشكال الاعتداء الصارخ على وجود شعب كوردستان آمنا يمتلك حقه في تقرير مصيره كاملا بلا استثناءات ولا أي شكل لوصاية أو مصادرة أو استلاب ولعل ذلك أول الطريق لرد الاعتبار لأصوات الضحايا ومعالجة جراحاتهم الإنسانية البليغة.