لا أساس لوهم التهديد في خطاب تقرير المصير فهو خطاب السلام والتآخي دائما!

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

 

لطالما قرأنا لبعض الساسة معالجات في خطاب الآخر تأسست على تشويه الرسالة والبناء على هذا التشويش؛ ما يضفي منطقا ينبني على الحسابات التي تحاول نزع الحقائق الموضوعية المنشودة في خطاب الآخر ومن ثم إيجاد فرص لصناعة الاستبداد واستعادة سلطته وآلياته من جديد.

 

وقبل أيام انعقد في أربيل مؤتمر دولي بمناسبة الذكرى الـ 25  لجرائم الأنفال.. وفي المؤتمر  ألقى فخامة رئيس إقليم كوردستان الأستاذ مسعود البارزاني خطابا، استفاض فيه بمعالجة جرائم الأنفال وبتوكيد طابع الإبادة الجماعية للجرائم وأثرها في الذاكرة الإنسانية وبالخصوص لدى الكورد الذين وقعوا ضحية مباشرة لاستهداف وتعمّد من وقف وراء تلك الجرائم.. ثم أشار إلى جانب مما يجري اليوم في البلاد بخاصة موضوع الضغوط التي يتعرض لها الكورد بسبب محاولات الانفراد بسلطة القرار في بغداد وتهميش دور الشرفاء بل محاولة تجاوز وجودهم أو مصادرته وإلغائه ومن ثم التحول لاستبداد، لابد سيخلق مقدمات شبيهة بتلك التي وقعت في أجوائها جرائم الأنفال الوحشية البشعة.

ومع إشاراته إلى  حلول موضوعية جدية تثبيتا لأسس المسيرة الأفضل؛ أكد أيضا وبصراحة ووضوح على أن تمكين سياسات الاستبداد من السلطة والانفراد بها، يقود موضوعيا ومنطقيا إلى تلك الضرورة التي تدعو لاستخدام حق تقرير المصير بكل احتمالاته وربما أبعدها أي احتمال إعلان الاستقلال التام...

ومن الطبيعي أن يدرك المرء أنه لا يمكن للقيادة الكوردستانية أن تقبل وضع شعب كوردستان تحت مطرقة التهديد المباشر وغير المباشر.. وتحت احتمالات وقوع مثل تلك الجرائم أو التنازل عن حقوق الكورد  وما اكتسبوه منها بنضالات دفعوا فيها أبهض ثمن من دماء أبنائهم..

إن مجرد الإشارة إلى حق تقرير المصير بات يستثير تلك الأصوات التي تعودت منطقا ماضويا كاد يمّحي لولا تمسك عناصر التضليل ومن بقي متمسكا بشوفينية مقيتة  يُفترض انتهائنا منها. وفي هؤلاء من يقرأ تقرير المصير كعادته بعبارة تصوّره "تهديدا وانفصالا"  وهذا ليس سوى إسقاطا مرضيا لتلك النظرة الاستعلائية الشوفينية التي مازالت ترى أنّها المالك للأرض ومن عليها من بشر وعلى وفق ذلك ترى أن الشعب الكوردي هم مجرد ضيوف في وطن لغيرهم أو بالأحرى يمتلكونه هم ويتحكمون بمن فيه!!؟

وهذه النظرة  لا تعترف بالوجود التاريخي  لشعب أصيل في أرضه ووطنه عاش فيه ألافا من السنين وضحى من أجل حريته وهويته بل هي لا تعترف بأي وجود خارج ملكيتها الاستبدادية!؟

الأمر الآخر أن هذا الإسقاط في تأويل خطاب تقرير المصير وتأويله باعوجاج منطقها، يبسط سلطة مركزية مقيتة و وحدة قسرية على حساب الوحدة الاختيارية القائمة على المساواة والإخاء وعلى أسس الشراكة وهو بهذا يرى أنّ أيَّ تفكير يتأسس على حقوق الإنسان مخالفة له وطبعا يرى فيه عدائية، طبعا العدائية لوجوده واستبداده ومنطقه الاستغلالي وبالتأكيد يرى في عبارة (حق تقرير المصير) خروجا عليه ورفضا لنزعته الاستبدادية في تملك البلاد والعباد ومن ثمّ يرى في حق تقرير المصير انفصالا وليس استقلالا  أو ممارسة لحق ثابت....

 

إن تلك الشخصيات والقوى العنصرية الشوفينية وتحليلاتها وإسقاطاتها تضع حقوق الإنسان في ذيل قائمتها وأسوأ  وأفضع من ذلك تضع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها في آخر مفرداتها البرامجية وخارج منطق تفكيرها...

 

غير أن الحقيقة الثابتة في دساتير الديموقراطية  وبلدانها وفي القوانين الإنسانية والدولية، تؤكد أن حق تقرير المصير يجسد أساس وجود الشعوب وعلاقاتها وكفالة خياراتها الحرة المستقلة وعليه فإن خيار الاستقلال ليس خطاب انفصال عدائي كما يتوهمون و\أو يحاولون  أن يوهموا بل هو خيار (الضرورة) عندما تتطلب تأمين الحياة الحرة الكريمة وتجنب الجريمة وتوكيد الاستقرار والسلام والثقة بإخاء إنساني بعيدا عن قعقعة الأسلحة وخطاب الوحدة القسرية التي تبقى هي من يحمل منطقا للتهديد والوعيد وليس خطاب تقرير المصير كما يضلل بعضهم ويسوّق لإسقاطاته العنصرية الشوفينية

فالدفاع عن مصالح شعب لا يدخل في منطق التهديد ومن يضلل أو يقع فريسة التضليل هو تحديدا من يحاول أن يرحّل قصوره وفشله وعدائيته ليسقطها على خطاب تقرير المصير محاولا تشويه من يتبنى تقرير المصير كآخر حل لتجنيب الشعب كوارث إجرامية أخرى...

إن توكيد [وتكرار]  إطلاق خطاب تقرير المصير يظل مجرد المنطلق الأولي التأسيسي في ممارسة هذا الحق والمفترض أن تكون حال ممارسة تداول هذا الحق وإطلاقه جرسا وتنبيها ضروريا، توكيدا على سلامة الأجواء وصحتها وبخلافه فإن كل التأويلات التضليلية المغايرة تعني وجود تهديد جدي بكل جرائم المصادرة والاستلاب وربما أعمال التنكيل والإلغاء وجرائم الإبادة الجماعية مجددا!!!؟

وينبغي الانتهاء من تلك الأرتكاريا المستفحلة في وعي بعضهم تجاه حق تقرير المصير لأيّ من مكونات المجتمع العراقي المتآخية والأصل في التفاعل الإيجابي ضمان حق الحديث الحر بشأن تقرير المصير كيما نؤكد أن الخيار القائم في اتجاه فديرالي اتحادي هو خيار حر لا إكراه فيه، الأمر الذي يعمِّد العلائق ويمنحها أفق الإخاء والمساواة والثقة الوطيدة بلا توجسات ، بلا هواجس الخضوع للهلع واشكال ومستويات الرعب والخوف من تكرار الجرائم.

 

إننا بهذا الوضع نبقى بحاجة لمراجعة حازمة حاسمة توقف كل اشكال الخطاب الإعلامي السياسي المغرض الذي اعتاد تكرار نغمة  التخوين وتهم الانفصالية وإثارة الرعب والضغوط النفسية السياسية تجاه خطاب القيادة الكوردستانية بشأن حق تقرير المصير. وهذا هو واجب الحركات والقوى المشاركة في السلطة  تحديدا من تلك التي تدعي "تمثيل المستوى الوطني العراقي" وتزعم ممارسة آليات الديموقراطية وبناء الدولة المدنية الحديثة الضامنة للحقوق والحريات والعدالة والمساواة  وإذا صدقت في خطابها فإن عليها مسؤولية العمل (فعليا) على أن تكبح جماح انفلاتات الخطاب الشوفيني وتأويلاته الضاغطة سلبيا من جهة والمعبأة عدائيا من جهة أخرى.

 

إذن فالفقرة التي أوردها فخامة رئيس إقليم كوردستان بشأن ممارسة حق تقرير المصير بكل احتمالاته لم تكن يوما تهديدا ولكنها بالعكس تماما كانت تطمينا من قيادة منتخبة، تطمينا لشعبها الذي يقع بين الفينة والأخرى تحت تهديدات عنفية وممارسات عدائية هي التي تشحن الأجواء وتختلق الاحتقانات، كما أنها تطمين للشعوب المتآخية في العراق الفديرالي بأن كوردستان لن تنكسر لصالح الاستبداد وستبقى حرة ناشطة من أجل الديموقراطية للعراق بعمومه ولكنها لا يمكن أن تتراجع وتعود بالزمن إلى وراء بما يعيد خنوعا للمركزية.. وهي لن تتمكن من ممارسة دورها في ظل التعطيل والإلغاء وآليات التبعية التي كان لزاما توكيد أنها لن تعود مطلقا..

 

ومن هنا يجب التذكير بأن القوى الوطنية الديموقراطية، قوى بناء الدولة المدنية ومؤسساتها التي تحترم التعددية والتنوع؛ تلك القوى التي تقر الحق ولا تأوّل هذا الخطاب سلبيا ولا تحمّله مقاصد ليست فيه بل ترى فيه توجها إيجابيا يعزز خيار الوحدة حرا متينا لا قسر فيه ولا إكراه، تبقى القوى المعنية بالمكاشفة وبالمصارحة وبتبني الدفاع عن صواب خطاب تقرير المصير وسلامة ممارسته عندما تستدعي العوامل التي تفرض ضرورته، وعدم ترك الكورد وقياداتهم في حال من الاضطرار لممارسة الدفاع عن مصيرهم  في ظروف حصار مرضي بائس وبحال يُستفرد بهم بلا حلف حقيقي فاعل من القوى التي نشير إليها وتشير أسس المنطق السليم لواجباتها....

إن على القوى الوطنية العراقية أن تبدي الرأي واضحا.. فالشراكة هي آلية للعمل على أسس المساواة والفديرالية تكون فاعلة وحصنا منيعا لصالح الديموقراطية ومنع المركزة ومن ثم الاستبداد. ولكن عندما يجري الانقلاب على معنى الشراكة فإن الوجه البشع للانفراد بالسلطة يعني تعطيلا جوهريا لمعطيات الشراكة وفتحا لوابة إخضاع الآخر ومن ثم شمول الاستبداد للجميع.. ولا يصح بعد هذا التشارك في الخضوع للاستبداد بل سيكون الأسلم والأنجع الانفلات من أسر كل شكل يكرر الشوفينية وجرائمها وهو ما يعني بالضرورة فرصة جدية لتحجيم قوى التضليل والجريمة.

تلكم هي القضية، إذ لم ولن يلجأ الكورد لخيار الاستقلال في حق تقرير المصير إلا عندما يتمكن الاستبداد من فرض آليات مركزية تستلب وجود الآخر وتخضعه وفي وقت يتنحى فيه الصوت الشعبي في الطرف الثاني وهنا القصد أصوات الديموقراطيين من جناح الوطن من العرب في العراق: فماذا يفعل الكورد أيبقوا ليشاركوا انكسار تلك القوى ويخضعوا لقوى الفاشية؟ أيعودوا لضيم جديد ويدفعوا ثمنا باهضا آخر؟ ماذا سينفع مشاطرة بمشاعر الوجع من آخر ضعيف مهزوم أو منكسر؟

إن الكورد يمتلكون اليوم قوة التصدي لمن يحاول إخضاعهم لاستبداد جديد ولمن يحاول اللعب والتضليل والمخادعة وهم أقدر على الدفاع عن سلامة أجوائهم الحرة كيما يتقدموا في بناء أسس حياة ديموقراطية مكينة وكيما يشاركوا شعوب الجوار بناء فرص السلام والتقدم وهذا هو عين القرار السليم عندما تنضج ظروف إطلاقه..

إن خطاب تقرير المصير قوة لجميع الشعوب وفرصا مضافة لتلاحمها ولتفاعلها سلميا في مسيرة مشتركة من أجل الغد الأفضل وهي صحة ودفعا نحو تصد مناسب لمجريات الواقع كما هو عليه وليس كما يصوّر زيفا.. الحديث عن تقرير المصير مكافشة وشفافية ومصارحة مفيدة وهي ضغط لصالح قيم العيش المشترك على اسس شراكة حية لا ميتة ولا مصادرة مشلولة..

فلنكن بقوة مع هذا الخطاب لأن من يدافع عن الديموقراطية ومصالح الشعب يجب أن يلتزم الدفاع عن الحق بكل زمكانيته وبكل جغرافيا وجوده أفقيا وعموديا وبما يتيح تلبية المطالب والحقوق تامة كاملة.